البيئة الحاضنة للمقاومة في جنوب لبنان، لا تنظر بعدائية إلى القوات الدولية (اليونيفيل) ، إنما تنظر إليها كقوات صديقة.
فتح مقتل الجندي الإيرلندي وإصابة 3 آخرين، خلال خروج دورية لقوات الطوارئ الدولية “اليونيفيل” عن مسارها الاعتيادي في بلدة العاقبية جنوب لبنان، بعدما اعترض طريقها عدد من شبان البلدة، باب التساؤلات حول العلاقة الملتبسة بين أهالي الجنوب “والمظلة” الدولية الراعية لهذه القوات، وليس مع أفرادها الذين يتمتعون بعلاقات جيدة للغاية مع السكان، الذين باتوا يعدّون جنود قوات “الطوارئ” الدولية وضباطها بمعظمهم جزءاً من النسيج “الاجتماعي” في منطقة منفتحة على الآخر.
منطقة الجنوب، كما هو معروف، منطقة مضيافة مع من يحترم خصوصيتها وحريتها وكرامتها، وقاسية جداً مع من يحاول الاعتداء عليها. وهو أمر اختبرته جيداً “دولة” الاحتلال الإسرائيلي.
هذه البيئة الحاضنة للمقاومة لا تنظر بعدائية إلى القوات الدولية، إنما تنظر إليها كقوات صديقة.
لكن الحادث فتح شهية فريق من اللبنانيين دأب على استغلال أي أمر يحصل في الجنوب للتصويب على المقاومة في ظل “موضوعية” عكستها مواقف الولايات المتحدة الأميركية والغرب تجاه ما حصل أخيراً، والتي جاءت بحجم حقيقة ما جرى.
تتكرر الأحداث المشابهة لما حصل في العاقبية مؤخراً، وإن كانت في السابق أقل دموية. ومن الطبيعي أن يكون لما يحصل رواسب تؤدي إلى مثل تلك الإشكاليات.
تتحدث مصادر جنوبية بارزة متابعة لعمل “اليونيفيل” على الأرض عن وجود انعدام للثقة بين أهل الجنوب والقيادة السياسية المشغلة لهذه القوات، فالأفراد والضباط ضحايا للنيّات المبيّتة لدى بعض الدول الكبرى المهيمنة على القرار في نيويورك. آخر القرارات المريبة كانت خلال التجديد الأخير لهذه القوات في الأمم المتحدة حيث عملت واشنطن، بضغط إسرائيلي في الكواليس، مستغلة الخلل في العلاقات اللبنانية-الروسية، و”ضعف” “وضحالة” الدبلوماسية اللبنانية، على تمرير تعديل “خطير” على مهام “اليونيفيل” من خلال تحريرها من التنسيق المسبق مع الجيش اللبناني قبل الدخول إلى مناطق عملها في نطاق القرار 1710.
هذا التعديل المريب بقي حبراً غير ذي قيمة، بعد تحذيرات واضحة من قبل حزب الله عبر القنوات المعتادة والمفتوحة مع قيادة القوات الفرنسية العاملة ضمن هذه القوات، فصدر تعميم واضح من قائد “اليونيفيل” الجنرال أرولدو لاثارو، تعهد فيه ببقاء الحال على ما هي عليه على الأرض، وهذا ما جرى ميدانياً منذ صدور التعديل قبل أشهر.
لكن ما حصل أعطى دليلاً جديداً على وجود محاولات متجددة لحرف مهمة “اليونيفيل” عن مسارها، والأمر ليس جديداً، إذ سبقها قرارات مثيرة للريبة بتركيب كاميرات مراقبة على بعض الطرق الحساسة في عدد من القرى وعلى الخط الأزرق، انتهت بتفكيكها بعد حملة اعتراضات شعبية واسعة، إضافة إلى محاولات حثيثة لتوسيع مهامها نحو الحدود الشرقية مع سوريا كان أبرزها في العام 2020 وساهم في تعزيز الخطوة رغبة كبيرة علنية من فريق لبناني أيضاً. لكن هذه المساعي أجهضت في حينها، فهي غير ملائمة لجغرافية لبنان وتاريخه مع سوريا، وهي معروفة المقاصد ومن تخدم ومن يستفيد منها…
كل ما سبق، يفسر حالة القلق المفهومة لدى المقاومة ومعها أهالي المنطقة، من محاولات اختراق إسرائيلي لبعض الضباط أو الجنود، للقيام بمهام أمنية سبق وتورط بها بعض هؤلاء في أكثر من مناسبة، ولهذا يمكن فهم ارتفاع حالة التوتر في كل مرة تخرج فيها دوريات “اليونيفيل” عن خطها المرسوم لها، وفقاً لتفاهمات مسبقة مع الجيش اللبناني.
ولهذا، وإلى أن تخرج التحقيقات التي تجريها الجهات الرسمية اللبنانية بالتعاون مع “اليونيفيل”، ومعها فريق إيرلندي وصل إلى بيروت، إضافة إلى تحقيق مستقل تجريه المقاومة لمعرفة أسباب ما حصل في تلك الليلة، تفيد المعلومات بأن العمل القصدي من وراء الحادثة قد تم استبعاده، أي ما من كمين معدّ سلفاً لتلك الدورية. لبنان
والتركيز الآن على احتمالين لا ثالث لهما، أولاً، خروج الأمور عن السيطرة نتيجة حالة الهرج والمرج التي سادت خلال التوتر بين مجموعة من الشبان والدورية، حصل خلالها خطأ غير مقصود أدى إلى النتائج المأساوية. ثانياً، احتمال دخول طرف ثالث على الخط؛ لإحداث توتر على الأرض لاستثماره في الضغط على المقاومة التي سارعت إلى خطوة متقدمة في الخروج عن صمتها عبر أعلى مسؤول أمني، الحاج وفيق صفا الذي تواصل مباشرة مع قيادة “اليونيفيل”.
ميدانياً، ثمة تعاون أمني في التحقيقات على الأرض لمعالجة التداعيات، وهو ما قطع الطريق على محاولات الاستثمار الرخيص داخلياً وخارجياً. وإلى أن تنجلي الملابسات، يفيد التعامل الهادئ من كل الأطراف مع الحادثة بعدم وجود رغبة في التصعيد، فالعمل الروتيني للقوات الدولية في الجنوب لم يتأثر على الإطلاق. والجانب اللبناني ينتظر نتائج التحقيقات مع الجنود الجرحى للحصول على أجوبة بشأن الأسباب الحقيقية لانحراف الدورية عن وجهتها الرئيسية، واستخدامها طريقاً غير مدرج في خارطة الطريق المرسومة سلفاً؟
للأسف، قد لا تكون الحادثة الأخيرة. سقوط الضحايا مؤلم، لكنهم ضحايا لعبة “الكبار” المسؤولين عن إحاطة مهمة “اليونيفيل” بالشك والريبة.
المصدر: الميادين