العين برس:
تمتلك بيت لحم المقومات التي تؤهلها لاحتضان الفعل المقاوم في المرحلة المقبلة، وخصوصاً أن لدى شبابها صفات يمكن الرهان عليها في صناعة واقع عسكري ذكي يحافظ على ديمومته.
نفرد الحلقة الرابعة والأخيرة لدراسة حالة المقاومة في بيت لحم المميزة بصفات عدة، وخصوصاً أنها المدينة الأخيرة التي شهدت نشاطاً لخلية قوية ومنظمة في الضفة قبل اغتيال قادتها الأربعة نهاية الربع الأول من 2008، ثم شهدت محاولةً لعمل نوعي نهاية 2013، أي قبيل “هبة القدس” بسنتين تقريباً، لنختم بعد ذلك باستشراف عام لمستقبل كتائب المقاومة في الضفة والحديث الدائر عن انتفاضة ثالثة.
حين نشر “الإعلام الحربي” التابع لـ”سرايا القدس” في مطلع تموز/يوليو الماضي صورة لمقاوم تعلوه علامات استفهام، في دلالةٍ على التساؤل عن المكان الذي ستنطلق فيه الكتيبة المقبلة في الضفة، كانت العيون تترصّد بيت لحم جنوباً، مع أنَّ الأيام اللاحقة لتلك الصورة شهدت أحداث إطلاق نار في رام الله والخليل، إلى أن حُسم الأمر رسمياً بإعلان انطلاق كتيبة في محافظة طوباس، الأمر الذي تناولناه بالتفصيل في الحلقة الثالثة.
كان للحديث عن بيت لحم آنذاك والآن أسبابه الموجبة، إذ تمتلك المدينة جملة من المقومات التي تتيح الفرصة لتمدد العمل، بل ديمومته، فقد سجلت حضوراً لافتاً في انتفاضة الأقصى، وحصار كنيسة المهد أيقونة بارزة لا تُنسى في تلك المرحلة، وخصوصاً خلال الاجتياح الكبير (عملية “السور الواقي” بالتسمية الإسرائيلية).
صحيح أنّ حالة بيت لحم لا تقارن بمدن كبرى، مثل جنين ونابلس وطولكرم، لكنها تتقاطع معها في جملة من العوامل التي تتعلق بطبيعة سكانها الفلاحين القرويين الذين سكنوا المدينة، فحافظوا على فطرتهم، ولم تنل منها عوامل الحداثة والتغريب الثقافي مثل ما حدث في رام الله.
أما اغتيال الشهيد محمد شحادة التعمري (45 عاماً) في 12 آذار/مارس 2008 ورفيقيه من “سرايا القدس” عيسى مرزوق (26 عاماً) وعماد الكامل (35 عاماً)، ومعهم أحد أهم قادة “كتائب الأقصى”، أحمد البلبول (48 عاماً)، فمثّل رمزاً لا يزال حاضراً.
منذ ذلك الوقت، تواصل الاهتمام الإسرائيلي بالمدينة، إذ لا يخلو شهرٌ من تنفيذ الاحتلال حملات اعتقال، لكن الضربة الكبرى وقعت في 31 تشرين الأول/أكتوبر 2010، حين اعتقل الاحتلال 3 من أبرز المطلوبين، هم عيسى البطاط (43 عاماً) القائد الميداني للسرايا في بيت لحم، ونضال خليف (43 عاماً) أحد كوادر “الجهاد”، وإسماعيل عبيات (45 عاماً) أحد ناشطي “الأقصى”.
بعد 3 سنوات، تحديداً في 22 كانون الأول/ديسمبر 2013، تشكّلت مجموعة نجحت في تنفيذ عملية أمنية معقدة، حين وصل شاب يدعى سامي الهريمي إلى شارع “مفتسعي سيناي” في مستوطنة بيت يام قرب “تل أبيب”، وزرع عبوة داخل حافلة كانت تقل عدداً كبيراً من الجنود والمستوطنين، قبل أن يغادرها ويعود إلى بيت لحم، لكن قوات الاحتلال اكتشفت أمر العبوة. وخلال محاولة تفكيكها، فجّرها الهريمي عبر الهاتف المحمول.
اقرأ أيضاً: كتائب المقاومة في الضفة: عندما يستفيق “الأسد النائم” (1/4)
آمالٌ معلقة على “مهد المسيح”
تلك الخلية التي قادها الهريمي وابنان للشهيد شحادة (أسيران) هي أول رد فعل عملي على اغتيال الأخير. كانت الخلية تخطط للتوسع، لكن جملة من المعوقات تتعلق بالسلاح والحصول على المال منعت ذلك. بالتوازي، أكملت السلطة دور الاحتلال في تقويض بنية “الجهاد” بجملة اعتقالات وتتبع أمني.
لكن في هذه المدينة الحضور متساوٍ للفصائل الفلسطينية، إذ لا أفضلية في الأعداد والجماهيرية سوى لـ”فتح” على “حماس” و”الجهاد”، فيما تمثل الأخيرة مقصداً للشباب المتحمسين والمندفعين، ولا سيما أنها تقود حالياً ظاهرة الكتائب المسلحة.
وعلى مدى سنوات، حافظت “الجهاد الإسلامي” على طبيعة عناصرها الفكرية في بيت لحم، فقد نشأ جيل متأثر بأفكار شحادة ومرزوق وأطروحاتهما، ما يعني أن إمكانية إعادة بناء القواعد التنظيمية من الممكن أن تنتج مقاومة نوعية تخطط وتدرس خياراتها جيداً قبل أن تنطلق وتعلن نفسها.
يزيد على ذلك البناء الاجتماعي للمدينة الذي قد يشكل بيئة محتضنة للمد المقاوم، إذ توفر العشائر الممتدة فيها غطاءً يعتمد عليه في الاختباء والمساندة، فضلاً عن أنها تمتلك كميات كبيرة من السلاح، وتسيطر على مساحة شاسعة من الأراضي تحوي مغارات وأحراجاً تسهم في عمليات الاختباء، إلى جانب أنها تعيش في مناطق مكتظة.
في الوقت نفسه، تتداخل في بيت لحم وقراها عدد من الحواجز ونقاط الاشتباك، إذ تحوي المدينة 7 حواجز عسكرية، 3 منها هي مداخل لمستوطنات يقطنها الآلاف من المستوطنين. ويُعد “الكونتينر” أبرز الحواجز وأشهرها، إضافة إلى “عتصيون” و”صوريف”.
في المحصلة، تمتلك بيت لحم المقومات التي تؤهلها لتحتضن الفعل المقاوم في المرحلة المقبلة، وخصوصاً أن لدى شبابها صفات يمكن الرهان عليها في صناعة واقع عسكري ذكي يحافظ على ديمومته، إذ إنّ البيئة الجغرافية والمساحة الشاسعة للمدينة، المقترنة مع الكثافة السكنية في بعض الأماكن، تمثل عوامل مساعدة للتمدد العسكري، وتحرم الاحتلال إمكانية حصاره وتقويضه بسهولة. وأخيراً، ليس من المتوقع أن تسهم “فتح” بصفتها التنظيمية في عرقلة الفعل المقاوم هناك، لكن حضور الأجهزة الأمنية لن يكون إيجابياً كما الحال في جنين وطولكرم مثلاً.
تسلسل انطلاق كتائب المقاومة في الضفة
تسلسل انطلاق كتائب المقاومة في الضفة
الانتفاضة على الأبواب؟
وفق تقرير صدر عن “هآرتس” مطلع هذا الشهر، تقول الصحيفة إن مخاطر التصعيد المحتمل في الضفة أعلى من غيره في المناطق الأخرى، بعدما تبينت الصعوبة في منع دخول مهاجمين كلياً إلى مناطق فلسطين 48، ومواجهة أعداد متزايدة من المسلحين أثناء تنفيذ عمليات الاعتقال، لتظهر معادلة “كل اعتقال باشتباك”.
ورصدت “هآرتس” أسباباً أخرى، مثل ضعف السلطة ودخول تنظيمات إلى الفراغ الذي اتسع بعد “سيف القدس”، وهو خليط سيتصاعد ويورّط “إسرائيل” في مرحلة تصعيد طويلة على شكل انتفاضة ثالثة أو نسخة قريبة منها. هذه هي النقاشات التي تعالت حديثاً في المحادثات مع مسؤولين أمنيين في “الشاباك” وشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) وقيادة المنطقة الوسطى في الجيش وجهاز تنسيق العمليات في الضفة.
لا شك في أن لدى “هآرتس” مساحة أفضل من “يديعوت أحرونوت” و”يسرائيل هيوم” و”معاريف” في تناول حديث من هذا النوع، مع أن الصحافة الإسرائيلية عامة ووسائل الإعلام العبرية الأخرى ليست سوى جندي في الجيش، وخصوصاً خلال المواجهات والحروب. بين ذلك، يكون دورها العمل على أهداف أمنية مرسومة بدقة، والدلائل على ذلك كثيرة، وليس بالضرورة أن تمارس هذا الدور بصورة مباشرة، إنما يكفي أن تحاول التركيز على معلومات أو أشخاص أو مناطق معينة للتعمية عن أخرى، وحتى المساهمة في صياغة طريقة تفكير ما تجاه قضية محددة، وخصوصاً أنَّ قادة هذه المنظومة يعرفون أن الفلسطينيين في السنوات العشر الأخيرة، ومنهم جيل الميادين الحالي في الضفة، باتوا يتابعون الوسائل العبرية بسهولة.
ربما هذا التهويل الإسرائيلي للحدث الجاري في الضفة، وحتى رفعه إلى مصاف التهديدات الإستراتيجية، بل تقديمه وفق نظريات رئيس الأركان المقبل، هرتسي هليفي، على الخطر من التصعيد مع حزب الله ونتائج المفاوضات الجارية مع إيران، يكون حقيقياً، لكن لغايات ليست نابعة من الميدان، بقدر كونه تضخيماً يستهدف قضايا أخرى، في مقدمها زيادة ثقة الجمهور الإسرائيلي التي تتراجع بعسكره، والقول إنَّ الجيش يعمل بقوة في الضفة، وإنه قادر على تحقيق نتائج قريبة تعيد شعور الأمن العام إلى الإسرائيليين، وخصوصاً مع اعتقاد الجيش أنه قادر على حسم الموقف في جنين.
ما قد يغاير هذا التقدير هو الخلاف الذي بدأ يطفو على السطح بين الأميركيين والإسرائيليين في طريقة إدارة الأحداث في الضفة. وبينما يدفع العدو نحو مزيد من الضغط على من يحملون سلاح المقاومة، مستقدماً التعزيزات بالمئات وأدوات أخرى إلى ساحة المعركة، مع الحفاظ على تقديم سبل الحياة والعمل بنسب مضبوطة لمن هم بعيدون حالياً عن هذا الخيار، يرى الأميركيون أن الضغط بهذه الوتيرة سيقود الضفة إلى انتفاضة فعلية، وأن الحل يكمن في تقوية السلطة وجعلها تعالج المشكلة كما فعلت عام 2007، فهل هذا ما تريده “إسرائيل”: فوضى تنهي ما تبقى من حكم محمود عباس أو من بعده لتعيد احتلال الضفة وضمها؟
خاتمة: آفاق مستقبلية
بصرف النظر عن الأهداف الإسرائيلية وخلفيات الموقف الأميركي من هذا السلوك – مع ملاحظة اعتراضات الأردن، لما لذلك من نتائج على مستقبل المملكة، ومن ثم تلويح واشنطن بخفض رتبة منسقها الأمني في الضفة – يبقى الثابت الوحيد أن “إسرائيل” تجرّ من حيث تعلم أو لا تعلم الضفة إلى المواجهة.
والأخطر في هذه المعادلة، والمؤكد في الوقت نفسه، أنَّ الأسد الذي تطول أو تتأخر استفاقته لا يمكنه أن ينام سريعاً. إلى ذلك الحين، تبقى أكبر الآمال معلقة على “فتح” التي لها امتدادها الحقيقي والقوي في الضفة، والقادر أيضاً على إشعال انتفاضة إن قررت ذلك، مع أن هذا بحثٌ آخر.
ربما تُفهم من هنا المطالبات بالمراجعة داخل “الجهاد الإسلامي” تجاه الانجرار إلى الخطاب الحمساوي في مهاجمة السلطة ووضع الحركة نفسها في صف الهجوم الإعلامي المتكرر من “حماس” على “فتح”، وإن تشابهت بعض الأسباب، لأن استعداء الجمهور الفتحاوي من بوابة لعبة الحكم، وهو ما لا يعني “الجهاد” كثيراً، لا يخدم بأي حال مشروع كتائب المقاومة بصفتها رائدته الآن.
كما أن إلحاح قواعد “حماس” على تنظيمهم وسؤالهم المشروع عن سبب الغياب عن المشهد المستجد في الضفة، ومن آثاره الفيديو الذي أصدرته “كتائب القسام” في جنين الأحد 4 أيلول/سبتمبر 2022 (رغم اعتقال السلطة غالبية من فيه بعد وقت قصير من بثه)، يشير إلى عودة حمساوية ضرورية إلى المشهد بأي طريقة، وإن كان الأفضل أن تكون عودة أفقية في الهيكل التنظيمي لا عمودية.
ثمة نقطة أخيرة ستحسم مستقبل هذه الكتائب التي يمكن أن تتعرض بناها التنظيمية إلى ضربات موجعة، هي ألا تمثل بأي حال بديلاً من نمط العمليات الفردية، ولا حتى أن تغلب عليها. إن التوازي بين المسارين يضمن تشتيت جهد الأمن الإسرائيلي الذي يفضّل اللعب على المكشوف مع عناصر منظّمين وهيكلية واضحة، على أن يخوض معركة هي أقرب إلى الحرب مع الأشباح.
هذا لا ينقص من قدر كتائب المقاومة المتصاعدة شيئاً، بل يضعها أمام مسؤولية إضافية فوق التصدي والمبادرة وتشكيل قيادة الظل، هي إبقاء جذوة الصراع مشتعلة كأولوية على أيّ شكليات أخرى.
المصدر: الميادين