يدور جدلٌ واسع في المجتمع والإعلام الإسرائيليين في شأن التغييرات المتوقعة في الجهاز القضائي بشكلٍ خاص، وعلى رأسها التعديل المعروف بـ “فقرة التغلب أو التجاوز”.
ما زالت نتائج انتخابات كنيست الاحتلال الأخيرة والاتفاقيات الائتلافية التي وُقعت بهدف تشكيل الحكومة الجديدة، بالإضافة إلى “الإصلاحات” المتوقعة في الجهاز القضائي وتبعاتها المختلفة تُلقي بظلالها على المجتمع الإسرائيلي.
ومن المتوقع أن تكون لها إسقاطات خطيرة على أرض الواقع، وخاصّةً في مجال “حقوق الإنسان” داخل “إسرائيل”، وفي الأراضي الفلسطينية المحتلّة.
ولأن أركان الحكومة المقبلة يحملون أجنداتٍ يمينية تتضارب بشكلٍ مباشر مع مبادئ حقوق الإنسان وأسس الديمقراطية، فقد أصروا على أن تشمل الاتفاقيات الائتلافية بنوداً خاصة لتسهيل تنفيذ هذه الأجندات. فقد صادق الكنيست خلال الأيام الماضية، وقبل أن تُشكّلَ هذه الحكومة فعلياً، على مشروع قانون على اسم رئيس حزب “عوتسما يهوديت”، الفاشي إيتمار بن غفير، المرشح لمنصب وزير “الأمن القومي”، والقاضي بتعديل “مرسوم الشرطة”، بحيث تكون الشرطة وسياستها خاضعتين بشكلٍ كامل للوزير.
كما صادقت الهيئة العامة للكنيست بالقراءة الأولى على تعديلين لـ “قانون أساس: الحكومة”، قدمهما ائتلاف أحزاب اليمين بقيادة بنيامين نتنياهو، ويقضيان بتعيين رئيس حزب “شاس”، أرييه درعي، وزيراً، بالرغم من إدانته بمخالفات فساد والحُكم عليه بالسجن مع وقف التنفيذ، فيما يقضي التعديل الثاني بالسماح بتعيين وزير في وزارة الأمن يكون مسؤولاً عن “الإدارة المدنية” للاحتلال في الضفة الغربية بناء على طلب رئيس حزب “الصهيونية الدينية”، بتسلئيل سموتريتش.
يدور جدلٌ واسع في المجتمع والإعلام الإسرائيليين في شأن “الإصلاحات” المتوقعة في الجهاز القضائي بشكلٍ خاص، وعلى رأسها التعديل المعروف بـ “فقرة التغلب أو التجاوز”، وإسقاطاته على المجتمع الإسرائيلي، بشكلٍ عام، وعلى “حقوق الأقليات”، بشكلٍ خاص.
يُطالب جميع شركاء حزب “الليكود”، وأعضاء من الحزب، بتمرير مُقترح القانون كخطوةٍ أولية أساسية في الائتلاف الحكومي الذي سيتم تشكيله، لذا ورد في الاتفاق الائتلافي، بأن وزير العدل سيبادر إلى تقديم مشاريع قوانين وإدخال تعديلات على قوانين أساس، تنُص من جملة ذلك على آلية انتخاب القضاة وتنظيم العلاقة بين الكنيست والحكومة، وبين الجهاز القضائي والمحكمة العليا.
وبحسب الاتفاق، فإن كُتل الائتلاف ملزمةٌ بتأييد جميع مشاريع القوانين التي ستُقدم إذ ستُمنحُ الأولوية المُطلقة والكاملة لسن تشريع في مجال الإصلاحات في الجهاز القضائي، وذلك بهدف إعادة التوازن الملائم بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية.
التعديل القانوني المطروح يتيح للكنيست إعادة سن قانونٍ أو بندٍ في “قانونٍ ما” كانت المحكمة العليا قد شطبته، ما يعني تفريغ “المحكمة العليا” من أهم وظائفها وركائز قوّتها “كمراقبٍ” على الجهازين التشريعي والحكومي بهدف حماية “حقوق الإنسان والقيم الديمقراطية”.
وبحسب المؤيدين لهذا التشريع، وبالأخص أركان ائتلاف نتنياهو، فإن هَدَفه خلق توازنٍ جديد بين “الكنيست” والمحكمة بادعاء وجود خللٍ في التوازن بينهما، ما يعني أن المحكمة تتمتع بسلطةٍ كبيرة مقارنة بالكنيست، إذ يعدّ البعض أن الكنيست، المكَوّن من النواب المنُتخبين، هو “صوت الجمهور”، وبالتالي عندما يتخذ قراراً بشأن حقٍ أو سياسةٍ ما، فإن المحكمة أو أي هيئةٍ أخرى، ليس لها صلاحية إبطاله.
ومن ناحيةٍ أخرى، يرى هؤلاء أن المراجعة القضائية تتعارض مع مبدأ حُكم الأغلبية، لأنها تمنَحُ هيئةً غير منتخبة سلطة إبطال التشريع.
يبرّرُ مؤيدو تشريع “فقرة التجاوز” مطلبهم بأنه يجب السماح للناس باختيار الطريقة التي ستُدار بها الدولة من خلال ممثليهم؛ لأنه في حال تصرّف هؤلاء السياسيون ضد إرادة الجمهور الذي انتخبهم، فمن المؤكد أن هذا الجمهور سيُعيدهم في الانتخابات القادمة إلى بيوتهم خائبين.
ويعتقد المؤيدون كذلك أنه نظراً لأن سُلطة وكالات إنفاذ القانون في الديمقراطية تنبع من تفويض الشعب، فمن المناسب أن تعود الكلمة الأخيرة في الديمقراطية إلى الشخص المُنتَخب من قبل الشعب. إن الحاجة إلى أن يحظى المسؤولون المنتخبون بإعجاب ناخبيهم تجعلهم يحاولون إحداث تغييرات كبيرة تحمِلُ بصماتهم، في وقتٍ قصير.
أما من جهة المُعارضين، فهذا التشريع يهدف، بالدرجة الأولى، إلى تقييد صلاحيات المحكمة الاحتلالية العليا من خلال تمكين الكنيست، بأغلبيته الائتلافية العادية، من إعادة سنّ قوانين تُقرر المحكمة العليا شطبها بدعوى كونها “غير دستورية”، وكذلك تقليص الحق في تقديم التماسات إلى “المحكمة العليا” وإعطاء “القضاء العبري”، الشريعة والموروث اليهوديين، أفضلية على القوانين والتشريعات الأخرى، وتسييس “لجنة تعيين القُضاة”.
يرى قطاعٌ واسع من الإسرائيليين أن “فقرة التغلّب” ستؤذي المجتمع الإسرائيلي برمّته، بما في ذلك أولئك الذين يؤيدونها إذ ستحتاج الأقلية دائماً إلى حماية المحكمة من الأغلبية “المفترِسة”. بل يعتقد المعارضون أن كل معسكرٍ سياسيٍ إسرائيلي يجب أن يخشى من إقرار “فقرة التغلّب”، لأنه سيتم استخدامها ضد أولئك الذين ليسوا في السلطة، ومعلومٌ أن السلطة شيء مُتقلب. سيترك قانون “فقرة التغلب”، في حال إقراره، الجميع تحت رحمة “المجموعات الصغيرة” المُتحكمة في الائتلاف الحكومي وسيسمح للكنيست، بأغلبية 61 صوتاً، بتمرير أي قانون تريده بناءً على طلب أي حزبٍ في الائتلاف ووفقاً لرغباته. وحتى القوانين المخالفة للقوانين الأساسية التي تنتهك الحقوق الأساسية، كمبدأ المساواة وحرية التظاهر أو حرية التعبير.
بعبارةٍ أخرى، الغرضُ من “فقرة التجاوز” هو منح الائتلاف الحكومي سُلطاتٍ مُطلقة غير محدودة، وسيكون الكنيست قادراً على “تجاوز” أو “التغلب” على القوانين الأساسية، لأن هذه هي “إرادة الأغلبية”!.
ويضيف المعارضون للتشريع أن “الديمقراطية ليست فقط حكم الأغلبية، بل هي أيضاً حماية فعّالة لحقوق الإنسان، وخاصةً حقوق الأقليات، فالشعب، صاحب السيادة، لم يمنَح السلطة للأغلبية لتدوس على الأقلية”.
يُعدّ القانون الإداري في “إسرائيل” من أهم أدوات الرقابة على الحكومة وكيفية ممارسة صلاحياتها. وبخلاف “الديمقراطيات الغربية” حيث هنالك ما لا يقل عن 7 أنواعٍ مختلفة من الآليات التي تُقيّد سُلطة الحكومة المركزية، تُسيطر الحكومة في “إسرائيل” فعلياً على الكنيست، وهو أقوى مؤسسة منتخبة في “النظام الإسرائيلي”.
وعلى عكس الديمقراطيات الأخرى، ليس لدى “إسرائيل” رئيسٌ يتمتع بصلاحيات “الفيتو” أو نقض التشريعات، وليس لديها هيئة تشريعية من مجلسي برلمان يوازنان بعضهما البعض، وليس لديها مناطق ذات اختصاص وتشريعات خاصة بها. وليس لديها حتى انتخابات جهوية أو “نظام انتخابي إقليمي” يؤثر في اعتبارات المسؤولين المُنتَخبين أحياناً ضد الولاء الحزبي.
كما أنها ليست خاضعة للمحاكم الدولية الخارجية، ولا للمؤسسات “العابرة للوطنية”، مثل الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال. فكل ما هو مطلوبٌ في النظام الإسرائيلي هو أغلبيةٌ من 61 عضواً في الكنيست (من أصل 120) لتغيير القوانين الأساسية.
ومن المهم التذكير هنا أنه بسبب الخلافات العديدة بين الأحزاب الاٍسرائيلية، لم يتم وضع دستور عند قيام “دولة إسرائيل”، ونصّت التسوية التي تم التوصل إليها حينها على أن يتم سن “الدستور الإسرائيلي” في فصول تسمى “القوانين الأساسية”.
وفي ظل غياب دستورٍ رسمي، استمر الكنيست في الاحتفاظ بالسلطة التأسيسية وتشريع فصولٍ من الدستور من وقت لآخر تُنظّمُ توزيع السلطات بين المؤسسات الحكومية، وتكرّسُ بعض حقوق الإنسان والحقوق المدنية.
تجدرُ الإشارة هنا أيضاً إلى أنه، وعلى عكس ما هو مُتعارفٌ عليه في معظم دول العالم، حيث يتطلب الأمر أغلبيةً خاصة وإجراءاتٍ طويلة وصعبة لتعديل الدستور، فإن إجراء تعديل القوانين الأساسية في “إسرائيل” أسهلُ بكثير، إذ يُمكن تعديل معظم القوانين الأساسية بأغلبيةٍ بسيطة، لا تقل عن 61 عضو كنيست، ويمكن تعديلها حتى في ثلاث قراءاتٍ يتم إجراؤها في اليوم نفسه. والحكومة هي المهيمنة في العملية التشريعية وليس هنالك من ضوابط وتوازنات سياسية، ودائماً هناك مصالح سياسية ضيقة.
في مثل هذه الحالة، يكون القضاء هو السلطة الرئيسية، وهو في الواقع السلطة الوحيدة التي يمكنها موازنة قوة الأغلبية. ولهذا السبب تحتاج “إسرائيل”، وفق رأي المعارضين، أكثر من أي مكان آخر في العالم، إلى إشرافٍ قضائي يُمكِنُه حماية حقوق الإنسان والنظام الدستوري والديمقراطي.
فالمحكمة العليا هي الآلية الوحيدة التي تُقيّدُ صانعي القرار في “إسرائيل”، وإذا ما قُيّدت أيدي المحكمة العليا، فستصبح “إسرائيل” “الديمقراطية الوحيدة” التي لا حدود فيها لسلطة الحكومة، سواء في ما يتعلق بأغلبية المواطنين، أو في ما يخص الأقليات.
وباختصار، فإن مشروع القانون المُقترح يدوس على مبدأ الفصل بين السلطات ويجعل السلطة التشريعية، التي تسيطر عليها السلطة التنفيذية، كُلية القُدرة، والغرض منه التركيز المُفرط للسلطة في أيدي سلطة حكومية واحدة وبالتالي تحويل الحكومة، من خلال الائتلاف الذي يقف خلفها، إلى طاغيةٍ مُستبد.
إن إقرار تشريع “فقرة التجاوز” في “إسرائيل”، الدولة الاستيطانية “مُتعددة الثقافات والقطاعات”، سيؤدي إلى زيادة الصراعات الداخلية نتيجة الضرر الذي سيَلحَقُ بالأقليات العرقية والثقافية المختلفة. على سبيل المثال، في مجال التعليم، أو في حظر الثياب التقليدية لفئة معينة، أو في انتهاك الحق في تعليم تراث أقلية معينة.
ونظراً لأن الانقسامات بين فئات المجتمع الإسرائيلي أصبحت حادة ومُستشرية، فإن التشريع المذكور سيُلحق الضرر بالأقليات التي ليس لديها تمثيلٌ كامل في كنيست الاحتلال.
ربما يبدو للبعض أن هذا الجدل هو شأنٌ إسرائيليٌ (يهودي) داخلي، لكن الواقع يقول إن لهذا التعديل إسقاطاتٍ جديّة تحديداً على المواطنين العرب والمجتمع الفلسطيني عامّةً. فالفلسطينيون سواء كانوا في أراضي 48 أو في المناطق المحتلّة سيكونون أول المتضررين من هذا التعديل، بل إنهم المُستهدف الأساسي منه.
ومع أن المحكمة العليا في “إسرائيل” لم تُنصف الفلسطينيين ولم تحكم بالعدل في كثير من القضايا المركزيّة التي عُرضت أمامها، فإن أي انتقاصٍ إضافي من مكانة المحكمة العليا سيَجُر مزيداً من الانتقاص في الحقوق الفلسطينية، فهو يُطلق العنان للسلطات التشريعية والحكومية لتفعل ما تشاء وكيفما تشاء.
ومن المتوقع أن يعمل الكنيست، وتحديداً ائتلاف اليمين الفاشي، من دون كوابح ومن دون الحاجة إلى أخذ توازناتٍ معينة بعين الاعتبار، وهذا ما يعني سَنَّ تشريعاتٍ أكثر تطرّفاً وانتهاكاً للحقوق العربية الفلسطينية، مثل منع بيع الأراضي أو المنازل للعرب أو إعادة سن قانون نهب الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وهو ما يُعرف باسم “قانون التسوية”.
وسنشهد انتهاكاتٍ أكبر لحقوق المجتمع الفلسطيني، وقد ينعكس هذا بالاستخدام المفرط للقوة وإطلاق النار والعنف الشُرطي، والملاحقات والإدانات السياسية، والحد من حريّة التعبير، وبتضييق أكبر في مجال الحق في الأرض والمسكن مقابل تسارعٍ في مخططات التهويد، والاستيطان والسيطرة. كما أن الواقع الأمني الذي تعيشه “إسرائيل” قد يُشجع على استخدام “فقرة التجاوز” في قوانين الأمن، التي يقف الفاشي بن غفير كرأس حربةٍ فيها حالياً، والتي قد تطال الأسرى الفلسطينيين الذين يتوعدهم بن غفير ليل نهار، وعوائل منفذي العمليات الفدائية، ولا ننسَ تشريع الإبعاد خارج فلسطين وسَحبَ الإقامة من المقدسيين والتضييق عليهم في قوانين البناء والسكن والتملك لدفعهم إلى ترك المدينة المقدسة.
وبالتأكيد، فإن مدينة القدس والمسجد الأقصى سيكونان في عين عاصفة هذه النزعة اليمينية الاستبدادية، إذ ستنصب جهود تشريعات ائتلاف نتنياهو الحكومي على قلب الواقع فيهما لمصلحة اليمين اليهودي والرواية اليهودية.
يبدو أن الجهد السياسي الذي تقوده أحزاب ائتلاف نتنياهو الحكومي في هذه المسألة لا يهدف إلى ضمان التوازن الصحيح بين مختلف الجهات الحكومية، بقدر ما يصبو إلى التخلص من جميع المكابح القائمة من أجل تحقيق حكومةٍ يمينية فاشية بلا ضغوط في “الدولة”. إن إضعاف “المحكمة الإسرائيلية العليا” وزيادة تسييس عملية تعيين القضاة فيها قد يترك نظام “الحكم الإسرائيلي” من دون أي كابح فعّالٍ ضد الاستبدادِ الحكومي القائم فعلاً خاصةً تجاه الفلسطينيين.
بالإضافة إلى ذلك، فإن هذا المقترح لا يأتي من فراغ، ولكنه جزءٌ من سلسلة مشاريع القوانين المصممة للإضرار باستقلال القضاء وصلاحياته، وسيقود إلى واقعٍ “دستوري” غير مسبوق تكون فيه أي حكومة منتخبة في المستقبل خاليةً من القيود ولها خصائص سلطوية استبدادية خاصة.
المصدر: الميادين