منذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض وهو تواق إلى الملك والخلود في الدنيا وكان هذا المطمع أحد مغريات الشيطان كمدخل لإيقاع الإنسان في المعصية بما يجسده القرآن الكريم من قصة أبينا آدم مع الشيطان، والمعصية التي ارتكبها قبل أن يتوب الله عليه: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَو تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) (الأعراف)،: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى، فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى، ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (سورة طه)، استمر هذان المدخلان (الخلد والملك) كمدخلين رئيسيين يغوي الشيطان بهما الإنسان بأساليب شتى أبرزها التركيز على حب الذات المادية المتمثل بالجسد، وتخويفه بالموت الذي يعني فقدان هذا الجسد، إخلالاً بأبسط المدركات المكونة لهذا الكائن (الإنسان) بأنه روح وجسد، لذلك كان الفارق في فهم هذا التوازن المادي والروحي هو الجوهر الذي ينطلق منه المؤمنين في مواجهة التخويف الشيطاني: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَـانا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَـمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ، إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أولياءهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (سورة آل عمران)، هنا تتجلى حقيقة الفهم والإدراك المعرفي التكويني المتوازن لمعرفة الإنسان لنفسه.
وفي المقابل يرد الله تعالى على أصحاب النظرة المادية المختلة: (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أنفسكُمُ الْـمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، ولا يكتفي الله تعالى بحقيقة عدم درء الإنسان عن نفسه الموت، وإنما يليها مباشرة التعريف بالحقيقة الجوهرية الكبرى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (من سورة آل عمران).
هذه الفلسفة التي ينبغي أن يصل لها الإنسان، هي فلسفة الجوهر الإنساني؛ باعتبار أن الإنسان في حقيقته جوهر روحي، وما الشق الآخر المادي (الجسد) إلا عبارة عن وسيلة لانعكاس العمل إيجاباً أو سلباً على تلك الروح.
لنأخذ مثلاً بسيطاً لتقريب الصورة أكثر، الخوف من الميت، هو أَسَاساً أن هذا الجسد أصبح يفتقر لجوهر الحياة (الروح) لذلك بعد أن تفارق الروح الجسد، يصبح هذا الجسد موحشاً لا يمكن أن تنام بجانبه أَو تستأنس به مهما كنت تعزه، أباً أَو أخاً أَو زوجةً.. ولا يبقى إلَّا دفن الجثة إكراماً لها، حتى لا تسبب تلك الجثة برائحتها وتناثرها أذى للناس، بل تتحول أعضاء الجسد المادي شهوداً على صاحبها يوم القيامة: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، (سورة يس).
هنا تكمن النقطة الفارقة في التفكير، بين تغليب الجانب المادي أَو الروحي، فالشهيد عندما ضحى بجسده في سبيل إعلاء كلمة الحق، لم يكن له ثمنا إلَّا الخلود وملك لا يفنى، (أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)، (أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ)، ومن ثم وصوله إلى أرقى مراتب الحياة (الحياة الأبدية)، لكن الحقيقة المرة التي ينبغي أن ندونها بحسرة، حتى وأن أدركنا هذا الجوهر وتغلغلنا في فلسفة الشهادة، تبقى الشهادة في سبيل الله منحة وعطاء وحظ عظيم (وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، (سورة فصلت).
فهنيئاً لمن فازوا بهذا العطاء فهم الأحياء ونحن الأموات، إلى أن يمن الله علينا بنظرةٍ من عنده (ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
المصدر: موقع أنصار الله