عبد الباري عطوان
أنْ يُواصل بنيامين نتنياهو مُحاولاته اليائسة لإجهاض اتّفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة الذي جرى إعلان التوصّل إليه مساء يوم أمس برعايةٍ أمريكيّة وتحميل حركات المُقاومة المسؤوليّة فهذا يُؤكّد اعترافه بالهزيمة، وفشله في تحقيقِ أيٍّ من أهداف عُدوانه وحرب الإبادة التي يشنّها مُنذ 15 شهرًا، وبدأت تُعطي نتائج عكسيّة.
نتنياهو الذي نفش ريشه، وهدّد أكثر من مرّةٍ أنّ جيشه سيبقى في غزة كي لا تُشكّل أيّ تهديدٍ عسكريّ (تكرار طوفان الأقصى)، وعودة الاستيطان والمُستوطنين إليها بعد أن طُردوا منها عام 2005، وأقسم بأنّه لن تكون هُناك “حماستان” ولا “فتحستان” مُطلقًا في القطاع، ولن تنسحب قوات الجيش الإسرائيلي من محوريّ صلاح الدين (فيلادلفيا) على الحُدود مع مصر، ونتساريم في وسط القطاع، ها هو يرفع علنًا الرّايات البيضاء راكعًا، و”يلحس” أقواله هذه جميعًا، ويُقبل مُرغمًا بالانسحاب الكامل من القطاع تسليمًا بانتصار المُقاومة ودُول وشُعوب إسنادها خاصَّةً في اليمن ولبنان والعِراق.
الفضل كُلّ الفضل يعود إلى “طوفان الأقصى” وأسوده البواسل، الذي نسف نظريّة الأمن الإسرائيلي الكُبرى وجوهرها الرّدع العسكري، والتفوّق الاستخباري، وأسقط خطّ الدّفاع الإسرائيليّ مع قطاع غزة كُلِّيًّا، بقتل أكثر من 1500 جُنديًّا ومُستوطنًا إسرائيليًّا، وأسْر أكثر من 250 آخرين، وفض عُذريّة الأمن الإسرائيلي المدعوم بجيشٍ يدّعي أنّه لا يُقهر.
***
الخطيئة الكُبرى التي ارتكبها نتنياهو تتمثّل في عدم معرفته بالشعب الفِلسطيني، وإرادة قيادة مُقاومته ودهائها السياسيّ والعسكريّ، وخبراتها العالية في إدارة المُفاوضات، وسياسة النّفس الطّويل التي تتّبعها في التّعاطي مع العدو وراعيه الأمريكي، والوُسطاء العرب الذين انتقل دورهم من حملة الرّسائل إلى مُمارسة الضّغوط ونقل التهديدات إلى المُقاومة، وهو النّفَس المُعَزّز بعمليّاتٍ عسكريّةٍ ميدانيّة كبّدت العدو خسائر ضخمة في صُفوف قوّاته.
نتنياهو اعتقد أن رجال المُقاومة وقيادتها مِثل مُعظم نُظرائهم العرب، وخاصَّةً المُطبّعين منهم، يرفعون رايات الاستسلام البيضاء مع وصول أي تهديد، وها هي الأيّام تُثبت كم كانَ جاهلًا وأُمّيًا، وكيف أعماه غُروره وغطرسته، واحتقاره للعرب شُعوبًا، وحُكومات، وقادة، عن رؤية الحقائق على الأرض.
نتنياهو ورهطه سيكونون الخاسر الأكبر، سواءً جرى تطبيق الاتّفاق، أو نجح في إجهاضه، أو حتى إذا التزم بتنفيذ المرحلة الأولى منه فقط، أي الإفراج عن 33 أسيرًا، فالمُقاومة المُنتصرة وضعت، خططًا دقيقة للتّعاطي بقوّةٍ ودقّة مع جميع الاحتمالات بما في ذلك إلحاق أكبر قدر مُمكن من الخسائر في صُفوف العدو، والمُستوطنين، وربّما تعويض ما سيتم الإفراج عنهم من الرّهائن، فهو الذي صرخ أوّلًا.
جميل جدًّا أنّ من أجبر نتنياهو على الانسحاب من محور صلاح الدين (فيلادلفيا) على الحُدود المِصريّة الفِلسطينيّة، وإعادة فتح معبر رفح أمام المُساعدات وربّما المُسافرين مجددًا هي عمليّات المُقاومة التي أنهكت الجيش الإسرائيلي، وكسرت غُروره وقيادتها الصّلبة ذات الإرادة الإعجازيّة التي لم تتراجع ملّيمترًا واحدًا عن شُروطها ومطالبها، واستمرّت، وتستمر في القتال حتى تحقيق الاحترام الكامل لتطبيق اتّفاق وقف إطلاق النّار، ولن تسمح مُطلقًا بتِكرارِ الانتهاكات، والاختراقات له على غرار ما حدث مع نظيره في جنوب لبنان.
***
ختامًا نقول إنّ من أجبر وسيُجبر نتنياهو بالمُوافقة على قرار وقف إطلاق النار مُكرهًا، ليس تهديدات الرئيس ترامب ومبعوثه، ولا ضُغوط الرئيس بايدن الصّهيوني الأكبر الطّامح بالحُصول على جائزة نوبل للسّلام على حسابِ دماءِ شُهداء حرب الإبادة، وإنّما توصّله إلى قناعةٍ راسخةٍ اعترف بها أنتوني بلينكن، بأنّ المُقاومة الفِلسطينيّة بقيادة حماس لن تُهزم، وإنّ كُلّ مشاريع استبدالها بإدارةٍ عميلةٍ سواءً من السّلطة أو المخاتير لن ترى النّجاح، وفوق هذا وذاك تسارع ارتفاع أعداد المقابر العسكريّة الإسرائيليّة الجديدة بعد أن طفحت القديمة بجُثث القتلى العسكريين.
هيمنة الحركة الصهيونيّة على العالم، وليس على الأرض الفِلسطينيّة فقط بدأت في التّآكُل، وسيف “مُعاداة السّاميّة” الذي أفرطوا في استخدامه لابتزاز الملايين في الغرب، بدأ الدّخول في مرحلة الاحتِضار، وأصبحت “إسرائيل” ومجازرها عبئًا على البشريّة، والغرب تحديدًا، والشُّكرُ كُلّ الشُّكر للرّجال الشُّرفاء الأبطال في اليمن والعِراق ولبنان، ناهيك عن أُسود القطاع والضفّة.
زمن الهزائم يُوشك على الانتهاء، وأيّام الانتصارات والنّهوض العربيّ والإسلاميّ ربّما بدأت انطلاقًا من غزّة العُظمى وعلى أيدي رجال المُقاومة، فمَنْ كانَ يتوقّع الهزيمة الأمريكيّة المُذلّة في أفغانستان وبهذه السُّرعة؟ وقبلها انهيار النّظام العُنصريّ في جنوب إفريقيا.. والقائمة تطول.
رأي اليوم