صمود المقاومة وثمن النصر
العين برس/ مقالات
فاطمة بري
تجلّت رموز خطاب الصمود والمواجهة مع شخصيات تاريخية، مثل الشيخ القسّام وعبد القادر الحسيني وياسر عرفات وجورج حبش وأبو جهاد، مروراً برموز الفصائل المقاوِمة، مثل حماس والجهاد والجبهة الشعبية وغيرها، وصولاً لشخصية الناطق باسم كتائب القسّام خلال الحرب، أبو عبيدة، المعروف صوتاً والمجهول شكلاً وصورة. وعلى الرغم من ذلك تحوّل الرجل إلى شخصية رمزية ذات دلالة إيجابية مقاوِمة، وهو لم ينسَ في معرض حديثه عن قدرات المقاومة، الإشارة السلبية إلى الدور العربي المتخاذل والمتقاعس عن مواجهة إسرائيل.
الصمود المقاوم ومرتكزاته
يمتلك خطاب الصمود ومقاومة إسرائيل أهدافه المعلنة بلا أي مواربة، فالهدف الأساس هو إزالة إسرائيل من الوجود باعتبارها جسماً غريباً زرع في المنطقة ظلماً وعدوانا ( منذ أدبيات خطاب السيد موسى الصدر، والإمام الخميني، وفتحي الشقاقي، وحتى اليوم) وهو هدف لا يبدو مستعصياً ولا مستحيلاً بعد تجارب الانتصار على المخططات الإسرائيلية، منذ تحرير 2000 ونتائج 2006 مروراً بكل الحروب على الضفة وغزة، ومخيم جنين في ال2002 كمثال آخر، فالاحتلال لم يستطعْ لغاية اللحظة تقديم صورة انتصار ولو مزعوم، باستثناء تفوّقه بارتكاب المجازر وجرائم الحرب. كل الإجرام الصهيوني الممتد منذ سبعين يوماً، لم ينجح بإجبار سكان غزة على إخلائها، على الرغم من الموت المتربّص بالجميع، وقد تابع العالم عبر وسائل الإعلام محاولات السكّان العودة إلى شمال القطاع، في أول ساعات الهدنة، حيث أطلق الإسرائيليون عليهم النار وأوقعوا بعض الشهداء، على الرغم من الهدنة الرسمية. هذا الصمود وهذه المواجهة والقدرة على التحدّي هي التي أفشلت حتى اللحظة، وما تزال تفشل، مشروع التهجير والترانسفير الإسرائيلي الجديد، وتوثّق لصمودٍ شعبيٍ وعسكريٍ للمقاومة يحمل الكثير من الدلالات المتعلّقة بأن الثمن مهما كان تقابله حرية الإنسان وعزته وكرامته، وأن شهداء اليوم الذين بلغ تعدادهم حوالي العشرين ألفاً يخطّون معالم المستقبل الآتي للفلسطينيين وللمنطقة.
توصّف كلمة “الصمود” مقاومة الفلسطينيين اليومية/غير المسلّحة، للاحتلال الإسرائيلي. فهي تمثّل البقاء على أرض فلسطين رغم كل الظروف في هذا الإطار، يرتكز مفهوم الصمود على:
– الوعي الجماعي الديني والعقائدي، بضرورة محاربة “إسرائيل”
– مرتكز سياسي، ينادي بضرورة مواجهة المحتل لاعتبارات قيمية وجيوسياسية وتاريخية.
– مرتكز شعبي، يقوم على أسس الكراهية للكيان الإسرائيلي ذي التاريخ الدموي المتوحش.
الثمن والصمود الغزاوي
في قراءة خلفيات الصمود الغزاوي ودوافعه، فقد عاش الغزّاويون فرحة نادرة يوم7 أكتوبر 2023 نتيجة العمل الذي قامت به المقاومة، وكسر هيبة إسرائيل التي بنتها خلال 75 عاما، فالجيش الذي لا يقهر قّهر وغُلب وأُخِذَ على حين غرّة، إلى درجة أن القيادات الإسرائيلية تستعمل كلمتي “الخداع” و” التضليل” عشرات المرات في خطاباتها اليومية، لتوصيف الهزيمة المعنوية التي مُني بها الاحتلال. هنا عاد الحديث من جديد عن “ثمن باهظ ومؤلم” لهذا الخيار المقاوم، فكان قصف المستشفيات وتعطيلها بشكل كامل، قصف المخابز ودور العبادة، تدمير الطرقات والمدارس التابعة للأمم المتحدة، قصف مراكز الإيواء، بتحدٍ واضح وفاضح لكل الأعراف والمواثيق الدولية، مع عدم السماح بدخول المساعدات الطبية والصحية والإنسانية، كرسالة واضحة بأن المنطقة لم تعد ولن تكون صالحة للحياة في المدى القريب والبعيد، وهو ثمن يُرضي الغرور الإسرائيلي ويؤلم المجتمع الفلسطيني الغزّاوي، الذي بات مجرّدا من المأوى والمأكل والمشرب والملبس..إلخ.
لكن النتيجة لم تكن كما خطّط الاحتلال، إذ جاء صمود الغزّاويين خارج المألوف والمتوقّع، في بقعة جغرافية صغيرة جداً وممنوعة من إدخال الغذاء والماء والدواء منذ أكثر من شهرين ونصف، وتعيش أقسى حالات الموت وأقسى فظائعه وفجائعه، تحت الردم وحمم الصواريخ والقنابل الفوسفورية الحارقة، وبلا استشفاء أو علاجات، حيث يصعب على الخيال، تصوّر يوميات الحياة منذ 7 أكتوبر، فمن لم يستشهد ينتظر الشهادة، ويكتب عن الفوز بيوم آخر من الحياة المريرة جداً.
الثمن أو كلفة الحرب بالنسبة لإسرائيل كانت جريمة الإبادة الجماعية، وعلى مرأى ومسمع العالم كلّه، في سبيل تحقيق نصرٍ سريعٍ وحاسمٍ عسكرياً على المقاومة، (ولغاية الآن لم يكن سريعاً ولا حاسماً) وديمغرافيًا من خلال تهجير الناس، لكن المقاومة أعدت عدتها بنفَس طويل عسكرياً ولوجستياً وإعلامياً.
يصارع الفلسطينيون الغزّاويون اليوم للبقاء، غير مستعدّين لترك أرضهم ومناطق بيوتهم وعائلاتهم وأرزاقهم، مستفيدين من دروس الماضي، وحملات الاجتثاث العرقي التي يبرع بها الاحتلال الصهيوني، وهذا ما أنتج حالياً، إصراراً على عدم تكرار كارثة النكبة والتهجير القسري، رغم ما يعانونه من ظروف غير إنسانية، وما يتعرضون له من جرائم حرب.
أمام هذا الواقع، يجب تعزيز موقف المواجهة والتصدّي، من خلال الإضاءة على يوميات الصمود بدل الانكسار، وعلى المكاسب العسكرية والسياسية للميدان المقاوم، بوجه التصدّع الإسرائيلي الحاصل اجتماعياً وعسكرياً.