لم يكن، البتةَ، قداسةُ السيد الشهيد حسن نصر الله شخصية عادية، ولا حتى شخصية عابرة، أكان على صعيد لبنان، أم على صعيد غربي آسيا، أم الشرق الأوسط، بل حتى على صعيد العالمين العربي والإسلامي، إن لم يكن العالم بأسره.
هو حُكماً أكبر وأعظم شخصية سياسية وتاريخية في البلد وفي تاريخه، من دون منازع، ولا منافس، بصرف النظر عن المعاندة والمكابرة والمناكفة لهذا وذاك هنا وهناك. وهو حتماً من أهم وأبرز الشخصيات العامة، الحديثة والمعاصرة، في العالمين العربي والإسلامي.
في السيرة الذاتية والحياة الشخصية
لا شك في أن شخصية السيد الشهيد كانت تاريخية واستثنائية، في المعايير والمقاييس كافةً، الإنسانية، العلمية والأدبية، الخطابية واللغوية، الأخلاقية، الدينية، الفقهية والشرعية.
هي غنية عن التعريف للناس والرأي العام. كما أنه كان يتمتع بكثير من كاريزما القيادة السياسية، لكنه كان يمتاز ويتميز بالحكمة، التواضع، التقوى، الزهد بالحياة، طِيب القلب، الصدقية، الأمانة، الصبر والقدرة على التحمل، البصيرة، التماسك والثبات، الرؤية والمنهجية في التفكير والتخطيط والتحليل، والقدرة على الإقناع، وما إلى ذلك. وحاز وسام الشهادة من الدرجة الرفيعة، والاستثنائية.
وسبقه نجله في أن حاز قبله وسام الشهادة. في أيّ حال، هو نموذج عن القائد الكبير والعظيم، والذي يقود شعبه وأمته.
في قيادة الحزب السياسي
صعد السيد الشهيد حسن نصر الله على رأس الأمانة العامة لحزب الله أكثر من 32 عاماً، منذ انتخابه عام 1992، خلفاً للسيد الشهيد عباس الموسوي، الأمين العام الثاني لحزب الله، حتى تاريخ اغتياله واستشهاده عام 2024. هي الحقبة الذهبية للحزب بقيادته بالتأكيد.
وهو الأمين العام الثالث للحزب بطبيعة الحال. وتمكّن من جعل التنظيم السياسي مؤسسة سياسية بكل معنى الكلمة، متماسكة ومتراصّة.
وأصبح أكبر حزب سياسي في البلد، بل على امتداد تاريخ البلد على الإطلاق.
في قيادة المقاومة العسكرية
بالتوازي مع تسلمه مقاليد الأمانة العامة لحزب الله، بمعنى التنظيم السياسي، تولى السيد الشهيد قيادة المقاومة العسكرية، طوال هذه الفترة الزمنية وهذه الحقبة التاريخية.
واستطاعت المقاومة الإسلامية في لبنان، بقيادته السياسية وقيادته العسكرية، إنجاز عدد من الانتصارات السياسية والعسكرية، ولاسيما التحرير التاريخي عام 2000، والصمود التاريخي عام 2006.
وتمكن من جعل التنظيم العسكري -المقصود هذه المقاومة الشعبية – أكبر منظمة غير حكومية، عسكرية ومسلحة، في المنطقة والعالم، بحسب الأميركيين والأوروبيين والإسرائيليين.
في الوحدة الوطنية والوحدة الإسلامية
كان السيد الشهيد شديد الحساسية بالنسبة إلى الفتنة، طائفياً ومذهبياً، والحرب الأهلية بين اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم واتجاهاتهم وتموضعاتهم واصطفافاتهم.
وكانت الوحدة الوطنية بين اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، والوحدة الإسلامية بين المسلمين، سنة وشيعة، خطاً أحمر. وهذه التوجهات العامة، لدى شخص السيد الشهيد، إنما يكمن في أساسها التزامه وتمسكه بأقانيم الثوابت الوطنية، القومية والدينية.
وهذا ما يجعلنا، عند هذا الموضع أو هذا المقام بالتحديد، نستحضر ونستذكر مسار التفاهم السياسي مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري عام 2004، قبل اغتياله عام 2005، ووثيقة التفاهم الوطني مع الرئيس العماد ميشال عون عام 2006، بعد عودته من باريس إلى بيروت عام 2005. وهو ما يفسر خيار التحالف الاستراتيجي، أو لنقل التحالف العضوي، للثنائي الوطني – الثنائي الشيعي للمقاومة – بين حزب الله وحركة أمل.
في العقد الاجتماعي بين اللبنانيين
كان السيد الشهيد من أكثر المتمسكين بالبلد بتنفيذ وثيقة الوفاق الوطني وتطبيقها. ولفت عناية المعنيين بالداخل والخارج عدة مرات إلى التجاوزات، المخالفات والانتهاكات في هذا الصدد.
وتجلى الالتزام والتمسك للسيد الشهيد، على رأس الحزب والمقاومة، بوثيقة الوفاق الوطني في عدد من المحطات أو المناسبات، ولاسيما مع صدور الوثيقة السياسية الثانية لحزب الله والمقاومة الإسلامية في لبنان عام 2009.
مع ذلك، كان السيد الشهيد يُبدي كثيراً من الحكمة والمرونة حيال السلم الأهلي والعيش المشترك بين اللبنانيين. فكان من أبرز وأشد الدعاة إلى مؤتمر الحوار الوطني، تحت مسمى المؤتمر التأسيسي، منذ عام 2012، للبحث في المسائل أو القضايا الخلافية – أي الإشكاليات العالقة – وإيجاد الحلول الملائمة على طريقة التفاهمات أو التسويات السياسية، مراعاةً لخصوصيات التركيبة اللبنانية وحساسيات التجربة اللبنانية أيضاً.
في الرؤية السياسية لإعادة بناء الدولة
أحد أبرز الشعارات الوطنية، التي أطلقها السيد الشهيد، وكان ينادي بها ويدعو الفرقاء الداخليين من الفاعلين الوطنيين إليها، في إشارة إلى القوى السياسية والكتل النيابية، الدولةُ العادلة بين جميع اللبنانيين أولًا، ثم الدولة القادرة من أجل جميع اللبنانيين ثانياً.
فالدولة العادلة – نقيض النظام الطائفي والمذهبي – يمكنها أن تكون منصفة بين اللبنانيين، من دون تمييز لأسباب فئوية وعنصرية. والدولة القادرة – نقيض الدولة الهشة أو الدولة الفاشلة – يمكنها أن تحمي جميع اللبنانيين، وتدافع عنهم، من دون تردد أو تلكؤ.
في المشاركة والمساهمة في الحياة السياسية
تبدو ظاهرة الشيعية السياسية مرتبطة، بطريقة عضوية، بشخصية كل من السيد المغيب ثم السيد الشهيد، في إشارة إلى سماحة السيد موسى الصدر، ثم سماحة السيد حسن نصر الله، وقد تكون لصيقة بكل منهما، مع التنويه بالحضور والدور لرئيس البرلمان، نبيه بري، على خطي الدولة والبلد بصورة عامة، والمكون السياسي بصورة خاصة.
وتعرضت الشيعية السياسية للتأويل، بل التحريف والتجني، لكن السيد الشهيد، في الواقع والحقيقة، كان يطالب – كما السيد المغيب – بالمشاركة والمساهمة بفعّالية في عملية صناعة القرار السياسي، وفي عملية ممارسة السلطة السياسية في البلد، في أعقاب تجربة المارونية السياسية في طور الجمهورية اللبنانية الأولى، وتجربة السنية السياسية في طور الجمهورية اللبنانية الثانية.
الخاتمة
كان حلماً جميلاً، بل رائعاً! أيها اللبنانيون، أيها العرب، أيها المسيحيون، أيها المسلمون: اعلموا وتذكروا أننا قدّمنا، من أجل لبنان، ومن أجل فلسطين، أجمل وأغلى وأعز ما لدينا وما عندنا.
وأودعنا معه – مع جثمانه الطاهر – تحت التراب، قطعة من قلوبنا. ويكفينا أننا نحيا في زمن السيد الشهيد، وننتمي إلى بلد السيد الشهيد. فيا سيدنا، ويا أبانا، السلام عليك، والسلام إليك، يوم وُلِدت، ويوم استُشهِدت، ويوم تُبعث حيًاً، يا تاج رؤوسنا، ويا حبيب قلوبنا.
الميادين نت
غسان ملحم
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
للاشتراك بمجموعة العين برس على واتس أب
اشترك بقناة تيلجرام
تابعنا على منصة إكس “تويتر”