شريك “إسرائيل” في حرب الإبادة.. هكذا يؤدي الإعلام الغربي دوره
العين برس/ تقرير
الكاتب: فاطمة موسى كرنيب
في الـ25 من تشرين الأول/أكتوبر 2023، خرج جو بايدن ليعرب عن “عدم ثقته بأرقام (ضحايا حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة) التي يعلنها الفلسطينيون”. وزارة الصحة في القطاع لم تدّخر وقتاً أو جهداً لتقطع شك رئيس الولايات المتحدة المزعوم باليقين، فأصدرت لائحةً مفصلةً تحوي أسماء الضحايا وأعدادهم. على الرغم من ذلك، فإنّ واشنطن أصرّت على المضي فيما ادّعاه بايدن، فما كان من منسّق الاتصالات في البيت الأبيض، جون كيربي، إلا أن قال إنّ “صحة” غزة هي “جبهة لحماس، ولا يمكننا أن نقبل أي شيء تصدره الحركة، وهذا يشمل ما يسمّى وزارة الصحة”. لم تتأخر وسائل الإعلام الغربية في تبنّي خطاب الولايات المتحدة بشأن أعداد الشهداء والجرحى في القطاع، والذين تم تسجيلهم، واستهدفتهم حرب الإبادة الإسرائيلية – الأميركية، متمسكةً بـ”شكوك” بايدن.
ما إن صدر التصريح المذكور عن كيربي، حتى تحوّلت “صحة” غزة من “وزارة الصحة الفلسطينية في غزة” إلى “وزارة الصحة التي تديرها حماس” (Hamas-run health ministry)، في “أسوشييتد برس”، “رويترز”، “نيويورك تايمز”، “وول ستريت جورنال”، “سي أن أن”، “سي بي أس”، “الغارديان”، وغيرها من الوكالات والصحف والشبكات الإعلامية في الغرب المساند “إسرائيل”.
“واشنطن بوست” لم تعتمد الصيغة نفسها، فـ”صحة” غزة، بالنسبة إليها، هي “وزارة الصحة في غزة، التي لا تميّز بين المدنيين والمقاتلين، لكنّها تقول إنّ أغلبية (الضحايا) من النساء والأطفال”.
وفي “يديعوت أحرونوت”، “تايمز أوف إسرائيل”، “جيروزاليم بوست”، “إسرائيل هيوم”، “هآرتس”، وعموم الصحف والوسائل الإعلامية الإسرائيلية، نجد أيضاً أنّ وزارة الصحة في غزة هي “وزارة الصحة التي تديرها حماس”.
كل هذا جاء بعد أيام قليلة على تذمّر “جيش” الاحتلال بشأن “قيام عدد من المؤسسات الإعلامية بنقل ادّعاءات حماس”، على حد قول المتحدث باسمه، دانيال هاغاري، الذي جهد لينشر أكاذيب بشأن استهداف مستشفى المعمداني بصاروخ فلسطيني، من أجل التنصّل من المسؤولية عن المجزرة التي استُشهد وجرح في إثرها نحو 500 فلسطيني.
ليس هذا إلا مثالاً على التشابه، الذي يصل إلى حدّ التطابق، في السرديات التي يسعى الإعلام الغربي والإعلام الإسرائيلي لترويجها وترسيخها. هذا التطابق إن دلّ على شيء، فعلى الشراكة الكاملة بين الإعلام في كل من الغرب و”إسرائيل”، والتي تتضح، في صورة لا لبس فيها خلال الحروب، التي يكون فيها الطرف المعتدى عليه مناهضاً للغرب وساعياً للتحرر من هيمنته.
كيف يعكس الإعلام المصالح العضوية بين دول الغرب و”إسرائيل”؟
مردّ الشراكة بين الإعلام الغربي والإعلام الإسرائيلي هو الشراكة بين دول الغرب وكيان الاحتلال. وكما تحكم المصالح العضوية والحيوية العلاقة بين أنظمة الغرب وقاعدته المتقدمة في الشرق الأوسط، تنشأ مصالح بنيوية بين الإعلام في كل منهما.
على نحو يتجاوز التباينات السياسية والفكرية، ترتبط الوسائل الإعلامية الغربية الكبرى بأنظمة دولها ومؤسساتها ورؤوس الأموال والشركات المتعددة الجنسيات، وهي كلها العناصر التي صاغت النظام الدولي الحالي، وصمّمته ليكون قائماً على الهيمنة.
وفي “إسرائيل”، وليدة هذا النظام وأحد أركانه، يرتبط الإعلام بـ”الحكومة” أيضاً، ولاسيما بالمؤسستين العسكرية والأمنية، فنجد التزاماً بشأن الروايات “الرسمية” وإذعاناً لقوانين الرقابة التي يفرضها “الجيش” مثلاً، حتى يكاد المحللون العسكريون يكونون متحدثين غير رسميين باسمه، وتصبح وسائل الإعلام أداةً دعائيةً تدعم الجهود العسكرية.
يشترك الإعلام الغربي والإعلام الإسرائيلي أيضاً في الخلفية الفكرية التي تحدد أجندتيهما. تتفرّع السياسات التحريرية، التي يتّبعها كل منهما، من جذر واحد: الاحتياجات الاستعمارية إلى الأنظمة السياسية، التي يقوم استمرارها على سحق شعوب الدول الأخرى المناهضة لها، أو الشعوب المستضعَفة، وإن كانت الوسائل الإعلامية تجيد تنميق ما يرتكبه الغرب بحق هذه الأخيرة، أو التخفيف من وطأته.
تعاطف انتقائي: هؤلاء من يجب البكاء من أجلهم
من هنا، يمكن فهم التعاطف الانتقائي وتصنيف البشر، بين ضحايا مستحقين وغير مستحقين في التغطيات الإعلامية الغربية والإسرائيلية. وبالمجيء إلى منطقتنا، فإنّ هذا يوضح التعاطي مع الفلسطينيين واللبنانيين، والعرب عموماً، كأشخاص أدنى منزلةً، لا يستحقون التعاطف أو التعامل معهم على أساس أنّهم أصحاب حياة ذات قيمة وتستحق الاستمرار.
في إطار استراتيجية العمل هذه، يتعمّد الإعلام الغربي تكميم ضحايا الحرب الحالية، وهو ما يدأب عليه في الحروب عموماً، وتجريدهم من صفاتهم وقصصهم الإنسانية، يداً بيد مع الإعلام الإسرائيلي. يتم هذا بناءً على معيار يمكن تلخيصه في التالي: الانتماء إلى جماعة تؤيد الغرب والولايات المتحدة، و”إسرائيل” ضمناً، من عدمه.
مساء الـ13 من أكتوبر الحالي، شنّ حزب الله هجوماً عبر المسيّرات الانقضاضية، استهدف معسكر تدريب تابعاً للواء “غولاني” في “بنيامينا”، جنوبي حيفا المحتلة. أسفر الهجوم عن مقتل 4 جنود إسرائيليين، وجرح نحو 61، بحسب “الجيش”.
بعد أن سمح “جيش” الاحتلال بنشر أسماء القتلى، نشرت “سكاي نيوز” البريطانية خبراً بعنوان: “إسرائيل تعلن أسماء الجنود المراهقين الذين قُتلوا في هجوم بمسيّرة لحزب الله، بينما مات 23 شخصاً في قصف مدرسة في غزة”.
نشرت الشبكة الخبر نفسه في منصة “أكس” مع تغيير بسيط، فقالت إنّ “إسرائيل تعلن أسماء المراهقين الأربعة، ضحايا في هجوم بمسيّرة لحزب الله، بينما نُقل أنّ (قيل إنّ) 23 شخصاً على الأقل قُتلوا في هجوم على مدرسة في وسط غزة”.
في الحالتين، عملت الشبكة على استعطاف الجمهور تجاه الجنود القتلى، لكونهم في عمر المراهقة، في مقابل الاكتفاء بالإشارة إلى عدد الفلسطينيين الذين استُشهدوا في المجزرة الإسرائيلية، التي استهدفت مدرسة “المفتي” التي تؤوي نازحين في مخيم النصيرات، وبلغ الـ22، بينهم 15 طفلاً وامرأة، كما أعلن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة حينها.
لاحقاً، بعد موجة انتقادات وسخرية طالت “سكاي نيوز” بسبب نشرها الخبر بهذه الطريقة، غيّرت الشبكة العنوان، وحذفت ما نشرته في “أكس”. أخيراً، أشارت إلى أنّ القتلى الأربعة هم جنود، جنود فقط، قتلهم حزب الله، لكنها أصرّت على إبقاء قاتل الفلسطينيين النازحين بفعل حرب الإبادة مجهولاً، فصار العنوان هو التالي: “إسرائيل تعلن أسماء الجنود الذين قُتلوا في هجوم مسيّرة لحزب الله، بينما قُتل 23 فلسطينياً في قصف مدرسة في غزة”.
أما لو ألقينا نظرةً على النص، فلوجدنا أنّ الشبكة أبقت على محاولتها استعطاف الجمهور تجاه الجنود، مشيرةً إلى أنّ “الجيش أعلن أنّ الـ4 هم في الـ19” من العمر، ذاكرةً أسماءهم، مع جعل صورتهم الصورة الرئيسة للخبر.
لدى حديثها عن المجزرة الإسرائيلية، لم تسمّها “سكاي نيوز” كذلك طبعاً، بل اكتفت بقول إنّ “23 شخصاً على الأقل قُتلوا (…)ـ ونُقل أنّ نساءً وأطفالاً هم ضمن الذين ماتوا”.
وعند إشارتها إلى الاحتلال، اكتفت بقول إنّ “إسرائيل لم تعلّق بعد، لكنها تتهم قادة حماس مراراً بأنّهم يختبئون في أبنية المدارس، وهو ما تنكره المجموعة (حماس)”. هكذا إذاً، رددت “سكاي نيوز” المزاعم الإسرائيلية باستخدام المقاومة في قطاع غزة المدنيين “دروعاً بشرية”، ورفعت عن “إسرائيل” مسؤولية استهدافهم.
لا كلام فوق كلام “إسرائيل”.. والولايات المتحدة
ترويج الادعاءات الإسرائيلية لا يقتصر على تردادها، بل يظهر في جزء منه عبر التغييب المتعمد لما تعلنه المقاومة، سعياً لتحجيم إنجازاتها، وإخفاء حجم الخسائر التي تسبّبها، وتشويه صورتها. بهذا، تصبح الرواية الإسرائيلية هي المرجع الوحيد المتاح والمسلّم به للتحقق من نتائج عمليات المقاومة، التي تصير سرديتها، على الرغم من التوثيق الدقيق، موضع شكّ دائم.
في خبر “سكاي نيوز” نفسه، خبر “الضحايا الإسرائيليين المراهقين”، تتغاضى الشبكة عن ضرب حزب الله هدفاً عسكرياً، يضمّ العشرات من جنود الاحتلال وضباطه، وبينهم ضباط كبار، كانوا يتحضّرون للمشاركة في الاعتداء على لبنان، كما أكدت غرفة عمليات المقاومة الإسلامية في لبنان، وهو اعتداء قائم على استهداف المدنيين والصحافين والمسعفين والمرافق المدنية الحيوية.
لم تذكر الشبكة ما كشفته غرفة عمليات حزب الله (نشرت بيانها قبل خبر “سكاي نيوز”)، بشأن كون القاعدة المستهدَفة “غير معلومة لكثير من المستوطنين”، علماً بأنّ الاستهداف حدث بُعيْد تحذير المقاومة المستوطنين من وجود قواعد لـ”الجيش”، تدير العدوان على لبنان، داخل أحياء استيطانية، في المدن المحتلة الكبرى، كحيفا وطبريا وعكا وغيرها، وهو أمر وثّقه “الهدهد” العائد من “حيفا – الكرمل”.
هذا مثال من أمثلة أخرى كثيرة تثبت التبني الكامل للرواية الإسرائيلية في الوسائل الإعلامية الغربية. من ينسى كيف سارع الإعلام الغربي إلى تبني كذبة “إسرائيل” بشأن ادعائها “قيام حماس باغتصاب إسرائيليات”، كما فعلت “نيويورك تايمز”، والإصرار على تردادها، على الرغم من كل التأكيدات، التي تدحض هذا الادّعاء، والتي صدر بعضها عن وسائل إعلام إسرائيلية أيضاً؟
هنا، تجدر الإشارة إلى أنّ الإعلام الغربي يجيد التلاعب بالمواد الإخبارية، فيعمل على “المحافظة على توازن ومهنية” مفترضَين، عبر الإيهام بتضمين مواده وجهات نظر أو تصريحات مختلف الجهات. يمكن ملاحظة الأمر، وخصوصاً عندما يتعلّق بالهجمات التي يشنّها الاحتلال مستهدفاً المدنيين والنازحين، وزاعماً استهداف قيادات عسكريةً في المقاومة مثلاً.
في مقال مطوّل بعنوان “حماس بنت آلة حرب سريةً لضمان بقائها”، نشرته “واشنطن بوست”، في الـ5 من أكتوبر 2024، تحدّثت الصحيفة عن بقاء حماس واستمرارها في القتال بعد عام على الحرب الإسرائيلية – الأميركية على غزة. ركّزت الصحيفة في المقال على الأنفاق، التي “فاجأت الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية”.
اعتمدت الصحيفة على مقابلات أجرتها “مع أكثر من 20 محللاً عسكرياً واستخبارياً إسرائيلياً وأميركياً وعربياً، تحدّث الكثير منهم شرط عدم الكشف عن هويته”. وأجرت أيضاً “مقابلات مع مسؤولين حاليين وسابقين في حماس والسلطة الفلسطينية، تحدّثوا شرط عدم الكشف عن هوياتهم” أيضاً، خوفاً مما قالت الصحيفة إنّه “الانتقام”.
من بين هؤلاء “الأكثر من 20 مستصرَحاً”، اثنان فقط من حماس، هما غازي حمد، عضو المكتب السياسي، وأبو حمزة، قائد في جنين في الضفة الغربية. وعلى الرغم من أنّ مادة “واشنطن بوست” تضمّنت، نظرياً، وجهة نظر المقاومة، متمثلةً بحماس، فإنّ الصورة الرئيسة التي استخدمتها كفيلة بإظهار اصطفافها الحقيقي.
في كلام الصورة، التي أخذتها من “رويترز”، قالت “واشنطن بوست” إنّها تُظهر “جندياً إسرائيلياً يؤمّن نفقاً تحت مستشفى الشفاء في مدينة غزة، في تشرين الثاني/نوفمبر 2023”. بالعودة إلى ذلك الحين، وتحديداً إلى الـ14 من ذلك الشهر، اقتحم “الجيش” الإسرائيلي المستشفى، تحت ذريعته المعتادة: استخدامه لدواعٍ عسكرية من جانب المقاومة. وتجدر الإشارة إلى أنّ واشنطن تبنّت هذا الزعم أيضاً، فادّعى جون كيربي امتلاك حماس والجهاد الإسلامي “مركز قيادة ومراقبة، انطلاقاً من مستشفى الشفاء”.
حماس، بدورها، فنّدت الأكاذيب الإسرائيلية والأميركية، عبر مؤتمر صحافي عقده القيادي فيها، أسامة حمدان، الذي دحض مزاعم “الجيش” الإسرائيلي بشأن العثور على أسلحة في المستشفى. قدّم حمدان، بعد يومين على الاقتحام، أدلةً على “هشاشة الرواية الإسرائيلية وركاكتها”، فأثبت، من خلال الصور، أنّ الصناديق التي زعم “جيش” الاحتلال أنّه وجدها في المستشفى مليئةً بالأسلحة، كانت في أيدي الجنود خلال الاقتحام.
وأشار حمدان أيضاً إلى أنّ “الجيش” عرض الأسلحة بسذاجة، إذ ظهرت في الصور ملفوفةً ببطانيات خاصة به، ثم أعاد نقلها إلى خزانة أخرى، ليعرضها مرةً ثانية وهي مرتبة ومنظمة. أما الفضيحة الأخرى فظهرت من خلال عرض حاسوب، يُفترض أنّه تابع لكتائب القسّام، وعلى شاشته صورة مجنّدة. بعد أن اكتشف الاحتلال ذلك، حذفه من صفحاته في منصات التواصل الاجتماعي، ليعيد عرضه بعد أن غطى الشاشة!
بناءً على ذلك، يمكن النظر إلى اعتماد “واشنطن بوست” صورةً كهذه، تجاهلاً للأدلة الدامغة التي قدّمتها حماس، وتشبثاً بالرواية الإسرائيلية – الأميركية، التي سوّغت اقتحام المستشفى الأكبر في قطاع غزة، والذي آوى، في ذلك الحين، نحو 50 ألف نازح.
بين من يقول إنّ “إسرائيل” تسيطر على الإعلام الغربي بطريقة معيّنة، وبين من يؤكد أنّ الإعلام الغربي جزء من منظومة الهيمنة الغربية التي تتشارك مع الاحتلال، تبقى هناك حقيقة واحدة، مفادها أنّ المسار الإعلامي في الغرب، مهما تبّدلت مفرداته، يخضع لرقابة أهداف هذه المنظومة في المدى البعيد.
عندما استهدف الاحتلال الإسرائيلي مستشفى المعمداني واتهم المقاومة الفلسطينية بذلك، خرجت معظم وسائل الإعلام الغربية لتنشر ما تقوله “إسرائيل”، مع ما يقوله “الطرف الآخر”، لكنها في الوقت نفسه فتحت الهواء على مدى ساعات للمتحدثين باسم “جيش” الاحتلال.
وإذا كان الاحتلال الإسرائيلي يقتل الصحافيين، بصورة ممنهجة، من أجل منع الحقيقة من الظهور، فإنّ الإعلام الغربي، عبر كل ما قدّمه ويقدّمه، يقتل الحقيقة نفسها من خلال تحويلها إلى “نقطة خلاف” و”نزاع بين طرفين”.
المصدر: الميادين نت