من سخرية القدر وعبث السياسة في المشهد العربي أن توجّه حكومة بغداد دعوة إلى تركيا من أجل حضور القمة وتتجاهل شقيقتها السورية، التي تشاطرها التهديدات التركية الأمنية والعسكرية.
تُعقد في العاصمة الأردنية، عمان، القمة الثانية لدول جوار العراق بحضور عواصم عربية وغير عربية، وبغياب أو تغييب سوريا، أهم دولة عربية مشرقية.
من المزاعم التي يروّجها أصدقاء واشنطن في عمان وغيرها ضد دعوة سوريا وإشراكها في ملفات المنطقة، بل في ملفاتها نفسها، العلاقة الوطيدة التي تربط بين دمشق وطهران، علماً بأن أصحاب الحملة المذكورة هم الأشد حماسة للتعاون الأردني مع العراق، الذي لا تتباين علاقاته كثيراً بإيران عن العلاقات السورية الإيرانية، بما في ذلك وجود عشرات الفصائل المسلحة التي لا تروق للأميركيين وأدواتهم ومنابرهم، وتحظى بدعم إيران، وبينها فصائل لا تنكر علاقاتها الوثيقة بحزب الله.
بهذه المقاربة تسقط المزاعم المذكورة، وينكشف التخبط السياسي والخلفيات الحقيقية عند أصحابها. فالمسألة، كما يتضح، لا تقارَب من الزاوية التي يثيرونها، بدليل دعوة إيران نفسها إلى المؤتمر، بل من زوايا أخرى جلية وواضحة، ولا تحتاج إلى أيّ مواربة ولا تتقرر أو تتحدد على طريق عمان بغداد، بل على طريق الهند الشرقية الجديدة بين حيفا وواشنطن.
قبل الذهاب أكثر في التعليق على ذلك، ثمة استدراكات لا بد منها، وهي:
1- إن كل الأطراف الرسمية وغير الرسمية التي تتحفّظ عن علاقات طبيعية بسوريا، أطراف متورطة في تطبيع كامل الدسم وغير متكافئ أيضاً وفي كل المستويات مع العدو الصهيوني (الكيان الموقت، بحسب تعبير السيد حسن نصر الله). والأخطر والأسوأ من كل ذلك، فيما يخص الأردن تحديداً، هو التصريحات الصهيونية المتكررة لتصفية القضية الفلسطينية في الأردن، والتهديد بعملية ترانسفير واسعة من أجل ذلك، وهي التصريحات التي تُظهر استخفافاً كبيراً بالشريك الأردني فيما يسمى معاهدتي “السلام”؛ وادي عربة وأوسلو.
فهذه المعاهدات، بالنسبة إلى العدو الصهيوني، ليست سوى خطوات أولى في طريق “إسرائيل الكبرى”.
2- بالإضافة إلى التطبيع المذكور وتحفّظ أغلبية مكونات النظام الرسمي العربي عن علاقات طبيعية بسوريا، ثمة ما يقال بشأن ما يشبه القاعدة الثابتة في العلاقات الأردنية العراقية ضمن الخطوط الخضراء للمراكز الإمبريالية، الأنغلوسكسونية، حتى إن الأردن والعراق، من خلال صيغة مجلس التعاون العربي قبل 3 عقود، هما من وفر الغطاء العربي الرسمي لعودة مصر “كامب ديفيد” إلى الجامعة العربية، كما سبق أن تعاونا بين العامين 1980 و1985 ضد سوريا في سياق العمل على فك الحصار عن كامب ديفيد، وذلك من خلال دعم تيارات أصولية تكفيرية مسلحة، وهذا غير أعوام الوحدة بينهما ضد المشروع الوحدوي الناصري 1958.
3- من سخرية القدر وعبث السياسة في المشهد العربي أن توجه حكومة بغداد دعوة إلى تركيا من أجل حضور القمة وتتجاهل شقيقتها السورية، التي تشاطرها التهديدات التركية الأمنية والعسكرية، بالإضافة إلى تجفيف المياه والاحتلال التركي لشريط واسع من أراضي سوريا والعراق.
إلى ذلك، وعودة إلى تفسير ما يبدو طلسماً في العلاقات الأردنية العراقية المتبادلة (علاقات أردنية بعراق يحتفظ بحضور إيراني واضح في مقابل تحفّظ عن سوريا بسبب علاقاتها بإيران)، فإن المعطيات التالية تساعد على تفكيك هذا الطلسم:
أولاً: السياسة الأميركية الراهنة، والمتمثلة بحصار سوريا عبر قانون “قيصر” وغيره، والمرتبطة، في الوقت نفسه، بمصالح إسرائيلية واضحة المعالم.
ثانياً: الاستراتيجية الأميركية الصهيونية الثابتة، والتي تجري تحت عنوان إدارة المنطقة، بأشكال من الـ “بافر ستيتات” ذات الطابع الإقليمي بعد فشل الـ “بافر ستيتات” الطائفية التكفيرية المبرمجة في أقلام الاستخبارات الأنغلوسكسونية، كما حدث في إمارات القصير والرقة ودرعا، وعلى امتداد الحدود السورية وجهاتها الأربع.
فالعراق، في عقل الاستخبارات الأميركية البريطانية الصهيونية، هو حالة “بافر ستيت” لفصل سوريا عن إيران، تماماً مثل “التنف” والجيوب الصحراوية الأخرى لـ”داعش” وغيرها.
ومن مقتضيات هذا الـ “بافر ستيت” العراقي الجديد، والذي عززته حكومة الكاظمي، عدم الاقتصار على البعدين العسكري والأمني، بل البحث عن مساحة أكبر تبدل غرفة “موك” بأشكال من التعاون، اقتصادياً وتجارياً ودبلوماسياً.
ثالثاً: الاستعادة الأميركية لتوظيف المحور التاريخي الأردني – العراقي، كما رسمه نوري السعيد، مهندس حلف بغداد – أنقرة 1955 كذراع جنوبية لحلف الأطلسي (معروف أن السعيد كان آخر رجالات المخابرات البريطانية الأقوياء في الشرق الأوسط، قبل مصرعه في ثورة تموز/يوليو 1958).
يشار هنا إلى أن هذا المحور شكّل، في أعوام سابقة، أحد مراكز القوة داخل النظام في الأردن، مستنداً إلى تحالف موضوعي بين شرائح من البيروقراط والإخوان.
بالعودة إلى التوظيف الأميركي المذكور لهذا المحور، فإن المناورة به مجدداً مناورة معقدة التركيب والدمى والأطراف، بما في ذلك أشكال التعاطي مع الحليف التاريخي الآخر لواشنطن، وهو الحليف السعودي. وظل هذا الحليف على الدوام يرحب ويتحفظ، في الوقت نفسه، عن علاقات عمان – بغداد، من الوحدة الهاشمية عام 1958، إلى مجلس التعاون العربي، إلى المحور الجديد وقمته التي ستحضرها الرياض من دون أن تكون راضية عنها تماماً.
الآفاق
على الرغم من الاستعدادات المتكررة للحلف الأردني العراقي على مدار العقود السابقة من العهد الملكي وحكومات نور السعيد والاتحاد الهاشمي بين البلدين، إلى مجلس التعاون، إلى القمة الأخيرة، فإن هذا التعاون لم يشهد استقراراً حقيقياً بسبب التطورات في العراق والمنطقة، ولم يتصدع هذا التعاون بسبب المواقف المناوئة من القوى الوطنية، بما في ذلك المواقف السورية، سواء في عهد البرجوازية الوطنية الشامية (القوتلي)، أو في عهدي الأسد الأب والابن فقط، بل بسبب قوى محسوبة على المعسكر الغربي نفسه، وخصوصاً الموقف السعودي الذي لم يرحّب لا بالاتحاد الهاشمي عام 1958، على رغم أنه اتحاد ملكي ومدعوم من حلفتي الرياض، بريطانيا والولايات المتحدة، ولا بمجلس التعاون في ثمانينيات القرن الماضي.
وعلى الأرجح، فإن السعودية، التي لم تعلن مواقف مناوئة تجاه الخطوات الأخيرة، تفضّل احتكار العراق كورقة ضد إيران في إطار الاشتباك السياسي مع طهران، بالإضافة إلى استراتيجية الـ “بافر ستيت” الأميركية، سابقة الذكر، والمتمثلة بعزل إيران عن سوريا وممارسة أشكال من الاحتواء المزدوج مع العراق.
المصدر: الميادين