العين برس:
جاء انعقاد قمة منظمة شنغهاي في أوزباكستان في وقت يعيش فيه العالم أزمة كبيرة خلفتها الحرب الأوكرانية وكان لها تبعات كبيرة على عدد من دول العالم، وبخاصة الدول الأوروبية.
اختُتمت في العاصمة الأوزبكية سمرقند قمة منظمة شنغهاي للتعاون التي اكتسبت أهمية استثنائية هذا العام ووجهت رسائل ودلالات تعكس حالة التململ التي تعيشها دول طامحة إلى إحداث تغيير في بنية النظام الدولي القائم على الأحادية القطبية أو السعي لحوكمته على أقل تقدير.
لقد جاء انعقاد القمة في وقت يعيش فيه العالم أزمة كبيرة أحدثتها الحرب الأوكرانية وكان لها تبعات كبيرة على عدد من دول العالم، وبخاصة الدول الأوروبية. تلك الدول التي باتت تشهد موجة من الاحتجاجات والانتقادات الناتجة عن سوء الأوضاع الاقتصادية فيها التي باتت تنذر بقرب حدوث “الربيع الأوروبي” نتيجة لما تنتظره القارة من شتاء قاسٍ في ظل ارتفاع أسعار الطاقة، وتراجع الصادرات الروسية إليها نتيجة للعقوبات الأميركية على روسيا التي أضرت بأوروبا كثيراً.
جاء انعقاد القمة في ظرف يحبس فيه العالم أنفاسه نتيجة للتقدم الذي أحرزته القوات الأوكرانية المدعومة من الولايات المتحدة والدول الغربية ضد الجيش الروسي. هذا التقدم الذي لن يغير من نتيجة الحرب بشكل مؤكد، فلا مجال هنا للحديث عن هزيمة موسكو في هذه الحرب، وهي الدولة التي تمتلك ترسانة نووية هائلة، ما يجعل هزيمتها أكثر قسوة وصعوبة من انتصارها.
كما كانت القمة فرصة ومناسبة لمشاركة الرئيس الصيني شي جين بينغ فيها، فكانت أول رحلة له إلى خارج الصين منذ انتشار (كوفيد 19) قبل 3 سنوات، وهو ما يعكس أهمية تلك القمة بالنسبة إلى بكين، وبالنسبة إلى الرئيس شي الذي يستعد ليكون رئيساً للصين لولاية ثالثة وفق ما ترجحه التوقعات التي سيحسمها المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي الصيني الذي سيعقد في السادس عشر من الشهر المقبل.
كما كانت فرصة لبكين لتعزز تحالفاتها وتعمّق اتفاقياتها الثنائية وبخاصة مع كل من روسيا وإيران. كما كانت فرصة لكسر بعض الجليد في العلاقات الصينية الهندية التي بدأت تتطور ضمن حدود معقولة ومقبولة بالنسبة إلى البلدين.
أما إيران، فقد رأت في القمة فرصة لتكون مشاركاً بعد أن اكتسبت صفة العضوية الكاملة في المنظمة، وبعد أن شهدت المفاوضات النووية جموداً وتراجعاً، بل وربما عودة إلى التهديد باستخدام القوة ضد طهران من قبل الولايات المتحدة و”إسرائيل”، وهو ما يحتم عليها التوجّه شرقاً والبحث عن بدائل لعلاقاتها الاقتصادية والتجارية والنفطية والعسكرية، وهو ما أعلنته إيران في القمة من خلال تعهّدها بوضع كل إمكاناتها النفطية في تصرف دول المنظمة.
كذلك فقد رأت الهند في القمة فرصة لها، وهي الدولة التي تتقدم بخطى ثابتة وبعيدة عن التجاذبات الدولية، فقد نجحت هذا العام في إزاحة بريطانيا لتصبح خامس أكبر اقتصاد في العالم. كما استطاعت الحصول على موافقة المجتمعين في سمرقند لتتولى الرئاسة الدورية لمنظمة شنغهاي للتعاون في دورتها 2022-2023.
أما تركيا التي كانت قد نالت صفة “شريك محاور” ضمن المنظمة عام 2012، فقد حرص رئيسها إردوغان على المشاركة والتقارب مع دول المنظمة، وخصوصاً روسيا، في محاولة منه لتعزيز صداقاته وتنويعها، لا سيما أن تركيا دولة في حلف الناتو، وأن منظمة شنغهاي تضم أكثر الدول التي يعدها الناتو عدواً له، وهذا ما يشير إلى البراغماتية الشديدة والواقعية التي تصل حد الانتهازية في سياسة تركيا الخارجية التي رأيناها بوضوح منذ بدء الحرب في أوكرانيا، ففي حين وافقت على انضمام كل من السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، وقامت بإمداد الجيش الأوكراني بمسيرات بيرقدار التي كان لها دور كبير في مواجهة تقدم الجيش الروسي، عادت لتتحالف مع روسيا وتعقد الصفقات معها لإخراج الحبوب من أوكرانيا، والتنسيق مع روسيا وإيران في عدد من الملفات وخصوصاً الملف السوري. لكن الولايات المتحدة لن تسمح بذلك مطلقاً، لذا فقد أصدر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن قراراً قضى برفع حظر الأسلحة المفروض على قبرص منذ سبعينيات القرن الماضي، في مقابل قيام قبرص بمنع السفن العسكرية الروسية من الوصول إلى الموانئ لتزود الوقود والصيانة، وهو القرار الذي استنكرته ونددت به وزارة الخارجية التركية، معتبرة أنه سيؤدي إلى سباق تسلح في الجزيرة، ما يضر بالسلام والاستقرار في شرقي البحر الأبيض المتوسط.
عالم أكثر عدلاً.. تغيير للنظام الدولي أم حوكمته؟
يعد النظام الدولي انعكاساً لتوزع مراكز القوى الدولية. وعليه، فقد شهد العالم أنواعاً عدة من النظم الدولية (النظام الدولي متعدد القطب، النظام ثنائي القطب، النظام أحادي القطب).
أما مؤسسات النظام الدولي القائم حالياً (بدءاً من الأمم المتحدة، مروراً بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وانتهاء بنظام بروتون وودز وهيمنة الدولار كعملة دولية) فليست سوى انعكاس لنتائج الحرب العالمية الثانية.
لقد كانت تلك المؤسسات والهيئات مقبولة إلى حد ما في ظل النظام الدولي ثنائي القطب الذي ساد في فترة الحرب الباردة. لكنها أصبحت بلا فائدة، وغير قادرة على العمل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وهيمنة القطب الواحد الذي استطاع تطويع تلك المؤسسات وإخضاعها لإرادته، وهو ما تسبب بمشكلات عدة أدّت إلى عدم رضا سائر القوى الدولية. لكن فائض القوة الأميركية حينذاك، جعل النظام الدولي أقرب إلى ما يمكن تسميته نظاماً دولياً أحادي القطبية الصلبة.
واليوم، يشهد العالم غياباً لدور الأمم المتحدة ومجلس الأمن في حفظ الأمن والسلم الدوليين. على الرغم من الدور الكبير الذي تؤديه الأمم المتحدة في مواجهة بعض القضايا مثل: الاحتباس الحراري ومكافحة الفقر و(كوفيد 19)، لكن مجلس الأمن وهو الهيئة الأهم من هيئات الأمم المتحدة، أصبح دوره مغيباً نتيجة لاستخدام حق الفيتو، فلم يعد يناقش القضايا التي تمس الدول الخمس الكبرى، بل اقتصر دوره على مناقشة قضايا الدول الصغرى، وقد أخفق في اتخاذ قرار في عدد من تلك القضايا، ومنها القضية السورية. نتيجة للخلافات والتضارب في المصالح بين الدول الكبرى. لذا، لا بد من إلغاء حق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن الدولي وتفعيل دور الأمم المتحدة التي تمثل غالبية دول العالم، من أجل تحقيق عدالة عالمية حقيقية وشاملة. عدالة ترسيخ قوة الحق، لا حق القوة، وتضمن تطبيق العدالة في عالم يصبح به المحق قوياً، لا القوي محقاً.
لقد كان النظام الدولي القائم يعكس بعض المبادئ والقيم الأميركية، التي كان أولها مبدأ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وحرية انتقال السلع والبضائع، ونظام الأمن الجماعي الذي أسهم في تحرير دولة ذات سيادة مثل الكويت. لكن تلك القيم والمبادئ بدأت بالتلاشي منذ عام 2001، وبعد الحرب الأميركية على أفغانستان التي شنت بذريعة مكافحة الإرهاب. وكانت نهاية تلك المبادئ عام 2003 عندما أقدمت الولايات المتحدة على احتلال العراق بعيداً من التأييد الدولي، ومن دون قرار من مجلس الأمن. بل إن الدول الأوروبية القريبة من الولايات المتحدة، ولا سيما فرنسا وألمانيا، كانت بمعظمها ضد الغزو الذي شكل علامة فارقة في استخدام القوة خارج إطار الشرعية الدولية التي أصبحت شيئاً من الماضي. لذا، فقد ظهر عدد من الطروح النظرية، والدراسات الاستراتيجية التي نادت بضرورة تغيير النظام الدولي. ولم تقتصر على التنظير الأكاديمي، بل تحدث عدد من الساسة عن حتمية إصلاح الأمم المتحدة وضرورة تغيير النظام الدولي القائم. فعلى سبيل المثال، كان الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك قد تحدث عن ضرورة قيام نظام دولي متعدد القطب، كما تتحدث عنه روسيا والصين اليوم. أما بريجينسكي فقد رأى أنه “إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية تريد أن تبقى القوة الوحيدة المسيطرة على العالم فعليها أن تؤمن بالشراكات”.
لكن الواقع عكس ذلك، فالنظام الدولي القائم حالياً هو نظام متعدد القطب من الناحية الشكلية فقط، إذ تسيطر الدول الخمس الكبيرة عليه. ولكن من الناحية العملية، هناك سيطرة وهيمنة أميركية على هذا النظام، فالولايات المتحدة تسيطر على مجلس الأمن الدولي وتوجّه قراراته، كما تسيطر على الدولار، وعلى شبكة الإنترنت التي أصبحت عصب الحياة في القرن الحالي، وتسيطر أيضاً على نظام سويفت للتبادلات المالية وسوى ذلك. والعالم تالياً يعيش حالاً من الديكتاتورية الأميركية، التي أسهمت وبصورة كبيرة في افتعال الحرب في أوكرانيا.
ومن المفارقات أن كلمة أوكرانيا تعني في اللغة العربية الحافة، ولربما تكون أوكرانيا هي الحافة أو الحد الفاصل بين دولتين أو بين نظامين دوليين. فبعد الحرب في أوكرانيا طرحت روسيا فكرة أن يكون الأمن متكافئاً، لا أن يكون أمناً لدولة على حساب سائر الدول. ولو تراجعت أوكرانيا عن مطلبها الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي لانتهت فكرة الحرب في ذلك الوقت.
لذا فقد أصبحت فكرة ولادة نظام عالمي جديد فكرة عملية يجري العمل عليها وفقاً لما أشار إليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حين رأى أن الحرب في أوكرانيا سوف تنهي النظام الدولي أحادي القطب، وتنتج نظاماً عالمياً جديداً متعدّد القطب. فروسيا دولة تريد استرجاع هيبتها ومكانتها على الساحة الدولية، وتسعى لدور لها في زعامة العالم. وتشاركها في ذلك بكين، التي تعتقد أن من يمتلك القوة الاقتصادية وحده من يمتلك مسار ومصير أي نظام دولي مستقبلي. لذا فقد طرحت بكين فكرة نظام عالمي أكثر عدلاً، وهي فكرة قد تبدو طوباوية إلى حد ما.
وما هو أكثر عدلاً من وجهة نظرها قد يبدو أكثر سوءاً من وجهة نظر دولة أخرى. كما أن العدالة ليست المعيار لبناء أي نظام دولي، بل إن القوة كانت، وما زالت العامل الحاسم في صعود القوى العظمى وهبوطها. وهنا يتبادر إلى ذهننا سؤال جوهري وهو: هل لبكين مصلحة في تغيير النظام الدولي القائم، وهو الذي سمح لها بالتطور والصعود؟
لقد حرصت بكين دوماً على القول إنها لا تريد تغيير بنية النظام الدولي القائم، ولا تريد منافسة الولايات المتحدة على زعامته. لكنها تريد أن يترك لها العمل على بناء قوتها على نحو أكبر، لضمان حياة أفضل لشعبها، ثم، انتقلت إلى الحديث عن حياة أفضل لشعوب العالم جميعاً، بناء على التعاون في مشروع الحزام والطريق الذي انطلق من فكرة الفوز المشترك (رابح رابح). فالصين ما زالت مع استخدام القوة الناعمة، فيما روسيا هي مع استخدام القوة الفظة. وصحيح أن كلتا الدولتين ترغب في التغيير، أي إنهما تفكران بالطريقة نفسها، ولكن ليس بالأسلوب نفسه لأن روسيا هي من يعيش الحرب مع الغرب. فالخطر الراهن بالنسبة إلى الولايات المتحدة هو الخطر الروسي. وبالتالي، فالقضية بين روسيا وأميركا قضية عداء من وجهة نظر الولايات المتحدة.
أما الخطر الاستراتيجي على الولايات المتحدة فهو الخطر الصيني. حيث ترى أميركا أن قضية الخلاف مع بكين قضية منافسة، وهم يعتقدون أن الصين ستأخذ مكانها في هذه المنافسة في آخر المطاف، فالصين منافس، أما روسيا فهي خصم وعدو يجب الانتصار عليه. فالصين لا يمكن أن تكون خارج النظام العالمي الجديد. وحتى الآن، ليس هناك مؤشرات حقيقية إلى أنها تريد التخلص نهائياً من النظام الدولي الحالي، أو قطع علاقاتها بالولايات المتحدة التي تربطها بها علاقات اقتصادية كبيرة جداً.
وهناك وجهة نظر ترى أن الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، بدأت تعتقد أنها تدفع ثمن حماية نظام دولي قائم، وليست هي المستفيدة الوحيد منه، بل ربما الصين هي المستفيد الأكبر. لذا فقد بدأ الرئيس ترامب بفرض عقوبات اقتصادية على الصين، ودخل البلدان في حرب تجارية استمرت حتى اليوم. كذلك نفّذت الولايات المتحدة الأميركية استراتيجية انكماشية تمثّلت في الانسحاب من أفغانستان بعد أن اكتشفت أنها كانت تحمي حدود الصين من خلال وجودها هناك.
وختاماً:
من المؤكد أن العالم يشهد ولادة نظام عالمي جديد، ولكن هل يكون هذا المخاض سلمياً أم دموياً؟ أعتقد أن ذلك يتوقف وعلى نحو كبير على إمكان إنتاج أفكار جديدة خلاقة وقادرة على إيجاد حلول لعدد من المعضلات التي سببها النظام الدولي أحادي القطب، وخصوصاً في مسألة التخلص من هيمنة الدولار.
المصدر: الميادين