الدور، الذي تقوم به حركة الجهاد الإسلامي في عهد أمينها العام الحالي، القائد زياد النخالة، يشبه، إلى حدٍّ كبير، ذلك الدور الذي أدّته في إبّان فترة مؤسِّسها وأمينها العام الأول، الشهيد فتحي الشقاقي.
بينما كنت أجلس في بيت عزاء الشهيد القائد خالد منصور ورفيقيه، زياد المدلّل ورأفت الزاملي، في رفح جنوبي قطاع غزة، جلس إلى جانبي، من دون تخطيط مسبّق، أحد الأصدقاء الذين رافقوا، عن قرب، مؤسس حركة الجهاد الإسلامي، الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، وقادنا الحديث إلى أعوام خلت؛ إلى بدايات تلك الحركة وما واجهته من صعوبات وتحديات كبيرة، وصولاً إلى إقدام جهاز الموساد الصهيوني على اغتيال الدكتور الشقاقي في جزيرة مالطا في 26 تشرين الأول/أكتوبر 1995.
وسمعت من محدّثي تفاصيل ومعلومات عن حركة الجهاد لم أكن أعرفها من قبلُ، بالإضافة إلى إطلالة سريعة على الدور الذي أدّته الحركة خلال تلك الفترة، وهو ما دفع الاحتلال إلى اتخاذ قرار استراتيجي وخطير، قضى باغتيال الدكتور الشقاقي، رحمه الله.
في نظرة متأنّية يمكن أن نلاحظ اليوم أن الدور الذي تقوم به حركة الجهاد الإسلامي، في عهد أمينها العام الحالي القائد زياد النخالة، يشبه إلى حدٍّ كبير ذلك الدور الذي أدّته في إبّان فترة مؤسسها وأمينها العام الأول، الشهيد فتحي الشقاقي، وأن التحديات التي واجهتها، في تلك الفترة الصعبة والحاسمة من عمر الحركة، تكاد تتكرّر، بصورة أو بأخرى، بعد أكثر من 41 عاماً من انطلاق تلك الحركة المقاومة.
وحتى لا نعود من جديد إلى فتح صفحات التاريخ الذي يكاد يعرفه كل من عايش تلك الفترة المهمة من نضال الشعب الفلسطيني وكفاحه، نذهب مباشرة إلى السؤال الأهم، والذي بدأ يراود عقول كثيرين من المتابعين والمختصين، وهو: هل اتخذت حكومة الاحتلال الإسرائيلي قراراً استراتيجياً من الوزن الثقيل، يقضي باغتيال الأمين العام للجهاد الحالي، كما فعلت مع صديقه ورفيق دربه قبل أكثر من 27 عاماً؟
ولماذا يمكن أن تتخذ هذه “الدولة” المارقة مثل هذا القرار، في وقت تخيّم أجواء الحرب على مختلف أرجاء العالم، وهل يمكن لها أن تتحمّل تداعياته ونتائجه وهي تعاني مشاكل على مستوى الجاهزية القتالية لقواتها، وانخفاض الروح المعنوية لجنودها، والفشل المتكرر في حماية الجبهة الداخلية خلال الأعوام الماضية، وغير ذلك الكثير!
لكنْ، قبل الإجابة عن هذه التساؤلات، دعونا نتعرّف، في عجالة، إلى شخصية القائد زياد النخالة، أبي طارق، والذي ترقب دوائر متعدّدة في المنطقة والعالم أي إشارة أو تصريح يصدر عنه، وأصبح في فترة قصيرة محط أنظار كثير من أجهزة الاستخبارات المعادية لشعبنا وأمتنا، والتي رصدت في مقابل رأسه 5 ملايين دولار عام 2014، حتى قبل أن يتولى قيادة الجهاد بأعوام طويلة.
فهذا الرجل، الذي شُرِّفت بلقائه قبل 10 أعوام تقريباً، خلال مؤتمر داعم للقضية الفلسطينية، عاش مرارة السجن 14 عاماً متواصلة، ثمَّ تعرض لمحنة الإبعاد عن أرض الوطن من دون الأمل في العودة إليه، وفق قرار من “دولة” الاحتلال، حتى وقتنا الحالي، في أقلّ تقدير، ودُمِّر بيت عائلته في غزة في عدوان عام 2014. واستمعت إليه في حديث مطوّل لا يُمل، خرجت بعده بانطباع مفاده أن هذا الرجل بسيط إلى حدّ التواضع، لا يميل إلى التكلّف أو التكبّر أو العجب بالذات، ولا تكاد تعرفه، وهو بين جمع من إخوانه، إلّا إن عرّفك أحدهم إليه، ويملك كاريزما خاصة به لا تكاد تجدها في أقرانه، ولديه خبرة واسعة في الشؤون السياسية والعسكرية؛ مَرِن وليّن عندما يتعلق الأمر بشعبه وأمته، وشديد إلى أقصى درجة عندما يتعلق الأمر بالمحتل وجرائمه. وكان يتابع شؤون الجرحى الذين يسافرون للعلاج بنفسه، ويواسي ذوي الشهداء، ويقدّم إليهم كامل الدعم، مالياً ومعنوياً، ويهتمّ بأدق التفاصيل على الرغم من انشغالاته الكثيرة ومهمّاته الكبيرة.
لكنْ، هل هذه الصفات هي السبب في وضع اسم الرجل في رأس قائمة الاغتيالات لدى المؤسسة الأمنية الصهيونية، أم أن هناك أسباباً أخرى! وهل تلك الأسباب الأخرى تستحقّ أن يتخذ الكيان الصهيوني، من أجلها، قراراً بهذا الحجم على الرّغم ممّا له من تداعيات خطيرة قد تمتد إلى الإقليم، ويمكن أن تكلّف “إسرائيل” ثمناً باهظاً!
قبل أن نخوض في الأسباب، يجب أن نُعيد التذكير بأن العدو الإسرائيلي أشار صراحة إلى إمكان استهداف قيادة الجهاد في الخارج، وعلى رأسها الأمين العام، في أثناء معركة “وحدة الساحات”، بحيث قال وزير الحرب الصهيوني، بيني غانتس، في 6 آب/أغسطس الحالي: “إن قيادة الجهاد الإسلامي التي تجلس في الخارج، وتقيم بطهران وسوريا ولبنان، ستدفع الثمن أيضاً”. هذا التهديد الواضح يبدو أنه تطلّب رداً سريعاً وحاسماً، جاء هذه المرة على لسان سماحة الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، عندما توعّد صراحة بالرد على أي عملية اغتيال تقع في الأراضي اللبنانية، حتى لو كان المستهدَف غير لبناني. ويبدو، من خلال هذا الردّ، أن قيادة محور المقاومة تأخذ التهديد الإسرائيلي على محمل الجد.
والآن، لنَعُدْ إلى عرض الأسباب التي نعتقد أنها قد تكون دفعت الاحتلال إلى وضع رأس الحاج أبي طارق في قائمة أهداف القتل والاغتيال.
في الحقيقة، يمكن أن نلاحظ 3 أسباب رئيسة قد تدفع العدو إلى اتخاذ قرار خطير كهذا، ويمكن أن نجملها فيما يلي:
أولاً: الصفات الشخصية التي يتمتع بها القائد زياد النخالة، وما يمتلكه من كاريزما وصفات قيادية، وضعته في خانة القائد الملهم. ومن خلال المتابعة لوسائل الإعلام الصهيونية، نجد أن المؤسسة الأمنية الصهيونية تعدّ النخالة أكثر القادة الفلسطينيين تشدداً تجاه “دولة” الكيان، ولديه قناعة تامة بأن الطريق الوحيد للتعامل مع هذه “الدولة” المحتلة والمجرمة هو القتال والنضال مهما تكن الظروف والتداعيات، وأنه ما من داعٍ لتأخير هذا القتال أو تأجيله، تحت حجج وذرائع، من قبيل عدم تكافؤ الإمكانات، أو اختلال موازين القوى.
ثانياً: قيامه بتعزيز علاقات حركته بكل أطراف محور المقاومة، وإعلان ذلك على الملأ، من دون حساسيات كانت سائدة قبل ذلك، نتيجة أسباب متعددة. فعلاقة الجهاد في زمن القائد النخالة أصبحت أكثر وضوحاً مع إيران، وأكثر متانة مع حزب الله، وأكثر صراحة مع فصائل المقاومة في العراق وأنصار الله في اليمن. وكذلك، بات موقف الجهاد تجاه الدول المطبّعة، والتي أقامت علاقات بـ”إسرائيل”، يتّسم بالجرأة ولا مجال فيه للمداهنة أو حسابات الربح والخسارة.
ثالثاً: وهذا السبب، في اعتقادي، هو الأهم، بحيث أعاد الأمين العام للجهاد الاعتبار إلى العمل المسلح ضد قوات الاحتلال في مدن الضفة الغربية المحتلة، وأعطى الأولوية القصوى لإعادة تأهيل مقاتلي حركته هناك وتسليحهم. وأصبحت الكتائب، التي تم تشكيلها في شمالي الضفة، وهي مرشحة للتمدد إلى الوسط والجنوب، مصدرَ قلق وإزعاج حقيقيَّين لقوات الاحتلال بعد نحو 20 سنةً عِجافاً سادها الاستسلام لمشيئة المحتل، والسكوت عن تغوّله وعدوانه.
فمن جنين وطولكرم، مروراً بنابلس، وصولاً إلى طوباس، أصبحت الكتائب المسلحة، التي شكلتها سرايا القدس، الجناح العسكري للجهاد، بأمر مباشر من أمينها العام، تقُضّ مضاجع العدو، وحوّلت الاجتياحات والتوغلات، التي كانت بمثابة نزهة لجنود الاحتلال، إلى كمائن للموت ومصائد للقتل لقادة قوات النخبة في جيش العدو، كما حدث في جنين، ومقتل الضابط في قوات اليمام نوعم راز، وكما جرى في نابلس، حيث أُصيب قائد قوات الجيش الصهيوني في شمالي الضفة المحتلة.
بالإضافة إلى ذلك، شهدت كتائب سرايا القدس موجة كبيرة من الإقبال على الانخراط في صفوفها، من العناصر والمقاتلين في فصائل المقاومة الأخرى، واستطاعت أيضاً جذب عدد من منتسبي قوى الأمن في السلطة الفلسطينية، في ظاهرة زادت في قلق الاحتلال.
ليس هذا فحسب، بل ربط القائد النخالة بين ساحات الوطن، في معادلة لم يجرؤ أحد على القيام بها، نتيجة جملة من التداعيات، التي يمكن أن تنتج منها. وفي هذه المعادلة، أصبح اجتياح واسع لجنين مثلاً يعادل اجتياح غزة، وباتت الاعتداءات على المسجد الأقصى تتطلّب رداً من كل الجبهات والساحات الأخرى. وبناءً على هذه المعادلة، كانت معركة وحدة الساحات، في 5 آب/أغسطس الحالي، والتي خاضتها حركة الجهاد في غزة دفاعاً عن جنين، وإسناداً للأسرى المضربين عن الطعام في سجون العدو.
هذه الأسباب وأخرى لا مجال لذكرها حالياً قد تبدو كافية لاتخاذ العدو قرار اغتيال القائد النخالة، مضافاً إليها حساسية التوقيت الذي تمر فيه “دولة” الاحتلال من جهة، والمنطقة والإقليم من جهة أخرى. زياد النخالة
فالاحتلال مُقْدِم على انتخابات تشريعية خامسة في بداية تشرين الثاني/نوفمبر من هذا العام، وتبدو أحزاب السلطة، التي تشكّل الائتلاف الحاكم المأزوم، في أمسّ الحاجة إلى إنجاز كبير، قد يدفع الناخب الإسرائيلي، المتطرّف في طبعه، إلى منحها صوته، وخصوصاً في ظل تخييم شبح عودة رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو.
كذلك، “إسرائيل” في حاجة ماسّة، في هذا التوقيت بالذات، إلى استعادة جزء من قوة الردع المفقود، وإظهار ذلك أمام أعداء آخرين في المنطقة، كإيران وحزب الله، وهذا الأخير يشكل التهديد الأبرز لـ”دولة” الكيان خلال الشهر المقبل فيما يتعلق بأزمة حقل غاز “كاريش”، والتي يمكن أن تفجّر مواجهة عسكرية كبيرة بين الجانبين.
في المجمل، نستطيع أن نقول إن هذا التوقيت، الذي يمكن أن تغامر فيه “إسرائيل” باستهداف قائد فلسطيني، في هذا الحجم، يمكن أن يعود عليها بفوائد جمّة، لكنه يمكن، في المقابل، أن يسبّب لها خسائر لم تكن تتوقعها، ويكون في مقدمتها سقوطُ تحالف لبيد – غانتس بالضربة القاضية. زياد النخالة
ختاماً، أرجو أن يكون كل ما تقدَّم، من توقّعات وعرض للأسباب والنتائج، مجردَ تخرّصات لا أساس لها في أرض الواقع، وألّا نُفَجع، كشعب فلسطيني، بخسارة قائد له هذا الحجم، كما فُجعنا بالشقاقي وياسين وأبي عمار وأبي علي، وكل رُفقائهم الشهداء.
المصدر: الميادين