حدَّد الرئيس الروسي في الاجتماع الأخير لكبار القادة العسكريين قيمة المواجهة الدائرة بوضع تضحيات الجنود المشاركين فيها في مرتبة الجنود الذين دافعوا عن روسيا في الحرب الوطنية العظمى ضد الجيش النازي.
رسم كلّ من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير دفاعه سيرغي شويغو مسار التوجهات الروسية العسكرية للعام 2023 في الاجتماع الموسع الذي ضمّهما إلى كبار القادة العسكريين في موسكو. رسائل عديدة خرجت من القادة الروس في هذه المناسبة، بعضها يوضح أفق المواجهة مع الغرب وأولويات موسكو في هذه اللحظة المفصلية من تاريخ العلاقات المشتركة التي وصلت إلى نقطة الصدام بفعل الأزمة الأوكرانية وغيرها من الملفات الشائكة التي جهّزت صواعق الانفجار ومكوناته الأكثر قابلية للاشتعال.
وتشير تصريحات بوتين وشويغو بمجمل معانيها إلى أبعاد مختلفة. نحو الداخل، حدد الرئيس الروسي قيمة المواجهة الدائرة بوضع تضحيات الجنود المشاركين فيها في مرتبة الجنود الذين دافعوا عن روسيا في الحرب الوطنية العظمى ضد الجيش النازي وقائده أدولف هتلر، وفي الحرب العالمية الأولى؛ يوم حارب الروس للدفاع عن الإمبراطورية القيصرية قبل أن ينسحبوا من الحرب في ظل قيام الثورة البلشفية وانشغالهم بأوضاعهم الداخلية، وأبعد من ذلك، في الحرب التي شنها نابليون عام 1812 ومحاولته احتلال موسكو.
في هذا السياق، عبّر بوتين من ناحيةٍ عن أهمية المواجهة الحالية بالنسبة إلى روسيا، وهي ليست أقل من المحطات الأكثر حسماً في تاريخ روسيا. ومن ناحيةٍ ثانية، كانت الإشارة إلى تلك الحروب الثلاث بعينها مشبعةً بالمعاني المرتبطة مباشرةً بالعقيدة الجيوبوليتيكية لروسيا الاتحادية، التي ترى مصدر الخطر دائماً من جهة الغرب، الأمر الذي يمتد إلى زمن بطرس الأكبر الذي جمع الإمارات ضمن دولة واحدة تحولت لاحقاً إلى إمبراطورية كبرى.
قبل ذلك، كان مصدر الخطر على إمارات القبائل السلافية في الشمال يأتي من سهوب آسيا الوسطى، حيث القبائل المغولية القوية، في حين لم يكن للروس ما يقيهم تلك الهجمات وفتكها بقدراتهم على التحول إلى دولةٍ قادرة على تأمين الحماية والأمان.
لقد شهدت القرون الثلاثة الماضية محطاتٍ فعلية أكّدت صحة هذه الرؤية؛ فكلّما فاضت قوةٌ غربيةٌ عن حدودها، كانت تفيض باتجاه الشرق، ونحو موسكو تحديداً، ذلك أن الأقدار شاءت أن تكون الأرض – السيئة الحظ – الواقعة بين موسكو وقلب أوروبا الغربية مسطحةً بصورةٍ مثالية لانتقال الجيوش والعربات والأسلحة التي تحمل معها طموحات القادة وهوامات القوة والسيطرة. لا مسطحات مائية فاصلة، ولا تضاريس جبلية مانعة، ولا حتى صحاري.
أرض مطيعةٌ تحمل بين راحتيها الخطر وتذيب الأمن. هواؤها مشحونٌ بالقلق من هذا المسار اليسير على البلاد والمصير. حاول نابليون تحقيق الإمبراطورية الشاملة للغرب والشرق من خلال حيازة موسكو تحت مُلكه، وحاول هتلر الأمر نفسه، وسعت الولايات المتحدة -ولا تزال- بالقوى المتنوعة لتطويع بلاد الشمال، من دون أن يستقر لها ذلك. الآن، يشير بوتين إلى أن المواجهة الحالية تعبيرٌ عن حملةٍ جديدة للريح الغربية.
واليوم، يأتي استرجاع بوتين تلك المحطات، بموازاة تضمين مخاطر النازية في المناهج الدراسية الروسية، ليؤكد اتصال الزمن واستمرار ورود الخطر من مصدره الدائم، وليؤشر إلى دنو مصير الحرب الحالية من مصائر الحروب السابقة التي أشار إليها، والتي انتهت في اثنتين منها بانتصار بلاده على نابليون وهتلر، وتوسعها في المناسبة الثالثة من خلال الثورة التي أسَّست للاتحاد السوفياتي السابق.
في مقابل المخاطر، ثمّن بوتين، وشويغو أيضاً، تضحيات الجنود والضباط الروس في المعركة، معبّرين عن الثقة باستكمال أهداف العملية الخاصة، على الرغم من تحديدهم إطار المواجهة بأنه بحجم حلف شمال الأطلسي، وليس بحجم أوكرانيا.
وفي الاجتماع ومخرجاته، إشارات روسية إلى فهم الأخطاء التي تضمنتها الأشهر الماضية على المستوى العسكري وسعي لتصحيحها، وأهم من ذلك تعبيرٌ واضحٌ عمّا هو أهم من الأخطاء والتكتيكات، وحتى من المعطيات الميدانية الحالية.
إنه التعبير الذي أطلقه بوتين عن أنَّ مبادئ الردع النووي هي الحاكم الفعلي لقوانين المواجهة الكبرى بين روسيا و”الناتو”، وهي بحسب بوتين “أساس الاستقرار في العالم”. وفي هذا الإطار، لا تبدو روسيا خائفة من موازين القوى الحالية مع الغرب، فهي تتفوق في مجال الترسانة النووية والصواريخ الفرط صوتية والعابرة للقارات.
الردع مضمون لكنه لا يكفي للانتصار
كانت إشارة بوتين وشويغو إلى صنوف الأسلحة التي تتفوق فيها روسيا مهمةً جداً من باب الردع وتوازن القوى، وليس من باب التفاصيل العسكرية المهمة في الميدان، فالحديث عن قرب نشر صواريخ “سارمات” (وهي صواريخ سنتحدث عن تفاصيلها ودلالاتها بالنسبة إلى روسيا في مادة لاحقة)، وعن تسلم الجيش صواريخ تسيركون “التي لا مثيل لها في العالم”، يؤكد أن بوتين أراد الإشارة إلى الأسلحة التي لا يمتلك الغرب سبيلاً لمواجهتها حالياً.
أتى هذا إضافةً إلى إشارته إلى أنَّ “العمليات العسكرية طَرحت عدداً من القضايا التي علينا التعامل معها، مِن مِثل الاتصالات والأتمتة وتكتيكات حرب البطاريات”، وأنه “لا بدّ من تطوير العمل مع الوزارات المختصّة والتنسيق مع المختصّين في مجال الإدارات الهندسية والمراكز البحثية”، كذلك ضرورة “توسيع استخدام الذكاء الاصطناعي على جميع مستويات الإدارة”. هذه كلها ضرورات حاسمة في مسار روسيا نحو النصر إذا كانت تريده، فالردع يكفي لمنع الهزيمة، لكن النصر يتطلب تحقيق تفوق في مجالات العصر وترجمتها في الميدان وفي السياسة.
لكن في مقابل ذلك، كان مهماً بالنسبة إلى الرئيس الروسي أن يخاطب الروس والعالم انطلاقاً من مخاوف الذاكرة، حين أكَّد عدم تكرار أخطاء الماضي بعسكرة الاقتصاد التي كانت أحد أسباب ضعف الاتحاد السوفياتي في سنواته الأخيرة.
أراد بوتين قولها بصورةٍ واضحةٍ ومباشرة: “لن نكرر أخطاء الماضي، عندما كان ذلك في مصلحة زيادة القدرة الدفاعية، وحين كان ذلك ضرورياً، وحين لم يكن ذلك ضرورياً حقاً، فقد دمرنا اقتصادنا. لن ننخرط في عسكرة البلد وعسكرة الاقتصاد، وذلك أساساً لأن مستوى التنمية الذي تحقق اليوم وهيكل الاقتصاد وما إلى ذلك لا يتطلب ذلك”.
كان الاجتماع العسكري الكبير يحدث في موسكو، حين كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يصل إلى واشنطن للقاء الرئيس الأميركي جو بايدن. روسيا رأت في الخطوة توغلاً جديداً في الأزمة، ورفضاً للخروج منها، وابتعاداً بخطواتٍ مضافةٍ عن المسار الذي يمكن أن يوصل إلى حلٍ في المدى المنظور.
وفي العاصمة الأميركية، كان الحديث عن تسليم منظومة “باتريوت” لأوكرانيا. وقبل ذلك بأيام، كان حديثٌ آخر عن تطور نوعي في التدريب الأميركي للجنود الأوكران على مناورات قوات المشاة، إلى جانب التدريب على الأسلحة المرسلة إلى هناك. بين هذا وذاك، ماذا يحاول الأميركيون فعله الآن؟
خلال الأسابيع القليلة الماضية، ومنذ بدء فصل الشتاء، توالت التصريحات الأميركية عن ضرورة بدء المسار السياسي، وترويج أخبار إيجابية عن قرب انطلاق المفاوضات، وعن دعم القوى الغربية لهذا المسار. كان ذلك لافتاً جداً للمراقبين الذين يدركون إلحاح الإدارة الديمقراطية على ضرورة هزيمة روسيا في أوكرانيا.
لكن التدقيق في توقيت تلك الدعوات، وضمها إلى التطورات الميدانية المتوقعة، والمعطيات التي عطّلت استمرار تقدم القوات الأوكرانية في أواخر الصيف، كان يشير إلى أنَّ واشنطن سعت في مطلع الشتاء إلى شراء الوقت وإشغال الروس بمفاوضات طويلة لا طائل منها، من أجل تمرير الوقت وتعطيل قدرة الروس على شن الهجوم المضاد المنتظر، الذي دائماً ما كان يناسب الروس خوضه خلال الشتاء (كما حصل في الحروب المذكورة آنفاً).
اصطدمت المحاولات الأميركية ببرود روسي حيال إطلاق المفاوضات الآن. في الوقت نفسه، أصرت القيادة الأوكرانية على رفع السقوف، ولم تظهر استعداداً حقيقياً للمفاوضات. على العكس من ذلك، وبعد فشل استدراج موسكو إلى “مفاوضات تمرير الشتاء”، رفعت كييف مجدداً نسق تصريحاتها إلى حدّ الحديث عن حتمية تحرير كل المناطق التي دخلتها القوات الروسية، بما فيها شبه جزيرة القرم.
وإلى جانب هذا التصعيد، كان لا بد للتحالف الغربي من أن يواكب النسق على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية. لذلك، شهدت الأسابيع تلك اتفاق الاتحاد الأوروبي على تسقيف سعر الغاز الروسي، وعادت وتيرة زيادة تسليح أوكرانيا -أو على الأقل التصريح حول ذلك- إلى الواجهة.
الآن، يُفهم من تصريحات بايدن خلال استقبال زيلينسكي أنه يريد هزيمة روسيا بأي ثمن، من دون دخول “الناتو” الحرب، وذلك يعني شيئاً واحداً هو إطالة أمد الحرب من دون أن يكون ممكناً تحقق هدفه المعلن هذا.
أما بالنسبة إلى موسكو، فلا تزال تعتمد إستراتيجية التقدم خطوة بخطوة، ببطءٍ شديد، وبمقاربة شاملة تولي أولويةً خاصة للعبء الاقتصادي الذي تفرزه الحرب على التحالف الغربي، وتحول أوكرانيا إلى مصدر ضغوطٍ اقتصادية غير قابلة للاحتمال. وفي الوقت نفسه، تجهيز الميدان لمفاجأة لا يعرف أحد توقيتها، لكن الجميع يعلم أنها ستحدث.
انتهى الاجتماع، وتوجه شويغو إلى الميدان في الدونباس، فيما تتكثف الأنفاس الحارة في المنطقة من حدود أوكرانيا مع بيلاروسيا إلى حدود روسيا مع فنلندا، لتشكل مناخاً يلفّه الغموض.
المصدر: الميادين