روسيا بنت نظريتها الجيوبوليتيكية الحديثة على أسس عدّة، بما يشمل نظرتها إلى تاريخها ومضامينه المتقلبة، وإلى مستقبلها بمخاطره وفرصه، بشراكاته البائنة، وذلك لحماية أمنها.
في خضم المواجهة الدائرة بين روسيا والغرب، في كل مضامينها العنيفة في مظاهرها، إلى درجة التراشق اليومي بالاتهامات بشأن نيّات استخدام الأسلحة النووية، والعميقة في أبعادها ومنطلقاتها التاريخية والحضارية، التي تتضمّن صراع قِيَمٍ ورؤى وتقاليد وعقائد، تبرز أسئلة كبرى عند المتابعين تتعلق بالأسباب الحاسمة التي تدفع روسيا إلى التركيز، بشأن حماية أمنها، على الواجهة الغربية، وتلك التي تدفع التحالف الغربي الأطلسي إلى التركيز على التوسع نحو الشرق تحديداً، على الرغم من المخاطر التي يُحْدثها هذا التناقض بين الطرفين على الأمن والسلم الدوليين، والتي وصلت إلى طرح سيناريوهات تهدد وجود البشرية كلها.
للقوى العظمى تفكير متباين
تتجاوز الإجابات المقترحة بشأن هذه الأسئلة التفاعلات اليومية للسياسة، بكل ما تحمله من صناعة قرار وتخطيط وصراع مصالح، لتصل إلى صلب التفكير الجيوبوليتيكي لدى الدول العظمى، ومن بينها روسيا.
فهذه الدول، تتباين في نظرتها إلى المستقبل، وهي تفهم نفسها بصورةٍ متباينة أيضاً عن سائر الدول. ففي الحالة الأولى، تنظر الدول العظمى إلى مستقبلها بعد مئة عام. وهي، نتيجة ذلك، ترى ما هو غير ملموسٍ في المتابعة اليومية الآن. الولايات المتحدة الأميركية، على سبيل المثال، نظرت إلى نفسها كإمبراطورية عالمية مسيطرة في القرن الحادي والعشرين، عندما كانت الحرب العالمية الأولى تضع أوزارها.
وفّرت طاقاتها وثرواتها، سحبت رؤوس الأموال العالمية (الأوروبية بصورة خاصة) إليها في أثناء الحرب. وعلى الرغم من أن ذلك ساهم في حدوث أزمة الكساد الأعظم عام 1929، فإنها تجنّبت التكاليف الهائلة لسباق التسلح الذي أنهك أوروبا بين الحربين، وركزت جهودها على تأسيس علاقاتٍ استراتيجية بالدول التي اكتشفت فيها احتياطيات النفط في الثلاثينيات من القرن العشرين، ولم تشارك في الحرب العالمية الثانية إلّا في نهاية المطاف حين نضجت ظروف تشكيل النظام العالمي الجديد قبيل نهاية الحرب، تاركة القوى العظمى التقليدية لتُعيد ترميم قدراتها، ثم أسست، من خلال “مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا”، خطةً تقوم على اعتماد أوروبي استراتيجي على حماية أمنية توفّرها للفضاء الأطلسي، وهو اعتماد استراتيجي، لا يزال حاكماً حتى اليوم، بشأن صناعة القرار الأوروبي، وهو أحد الأسباب الأساسية في تثبيط أيّ انتفاضة سيادية للنخب الأوروبية التي تصل إلى الحكم بين الفينة والأخرى.
في الحالة الثانية، أي حالة فهم الدول العظمى نفسها، فإنها تنطلق في هذا الفهم من عمق تاريخها، في كل ما يحمله من أمجاد ونكبات، وانتصارات وهزائم، وتمدّد أو تقلص. وفي حالة روسيا، فإنها نموذج مثالي عن الدولة العظمى، التي تنظر إلى نفسها من خلال تاريخها الطويل، في كل مضامينه التي تحمل في طياتها متناقضات اللوعة والزهو. تاريخ طويل من العذابات والأمجاد لا يزال حاضراً وصالحاً لمدّ مؤسسات صناعة القرار بالزخم والروح المطلوبين للاستجابة للمستقبل.
أسس الحقيقة الروسية
يختزن الكيان الروسي، الذي نعرفه اليوم، مفهوماً لروسيا يعود بالزمن إلى القرن التاسع الميلادي بصورةٍ واضحة المعالم. قبل ذلك، كانت روسيا مجالاً واسعاً لصولات قبائل السهوب الآسيوية الشاسعة. وبعد ذلك، تجمعت القبائل السلافية الشرقية فيما سُمِّي “كييفسكايا روس”، أو روسيا الكييفية، نسبةً إلى العاصمة الأوكرانية الحالية كييف. وكانت هذه القبائل منتشرةً حول كييف ونهر الدنيبر، في المنطقة التي تُعرَف اليوم بأنها أوكرانيا. ومنذ ذلك الوقت، كانت منطقة القبائل السلافية هذه تتعرض للغزوات المغولية من الجهة الجنوبية – الشرقية.
وطوال نحو 400 عام، تمدّد وجود القبائل السلافية في اتجاهات متعدّدة، لكن الاتجاه الأكثر تأثيراً سيكون مع أولئك الذين توجَّهوا نحو الشرق، في اتجاه المنطقة التي سوف تكون موسكو فيما بعدُ. وهناك استمرّ السلاف في مواجهة الهجمات المتكررة من الجنوب، لكنهم، في هذه الحال، وجدوا أنفسهم في فخٍّ جغرافيّ وجوديّ سوف يُنتج لاحقاً كل منابع استراتيجيات الأمن القومي الروسي. لقد وجدوا أنفسهم في مساحةٍ مسطَّحةٍ عصيةٍ على الحماية، ومفتوحةٍ على كل الاتجاهات من دون عوائق طبيعية مساعدة، وفي قلب مسطح سهل يحالف الغزاة عليهم. كان وجودهم على المحك في كل وقت. وانطلاقاً من هذه المعطيات التأسيسية، بدأت الأنثربولوجيا لعبتها معهم، لتجد حلولاً لأسئلة الجيوبوليتيك الكبرى.
بحلول منتصف الألفية الثانية، أنتجت تفاعلات الأنثروبولوجيا والجيوبوليتيك قيادةً شديدة القسوة تمثّلت بـ”إيفان الرابع”، الذي عُرف لاحقاً بلقب “إيفان الرهيب”، فوحّد جماعات هذه القبائل فيما عُرف بـ”إمارة موسكو الكبرى”، وبات أميراً عليها، ثم كان أول القياصرة الروس. اعتمد القيصر الأول أسلوب الهجوم سبيلاً إلى الدفاع عن هذه الإمارة، ذات الحقائق الأمنية الجاذبة للتهديدات، وصنع لها كياناً مَهيباً، حتى تمكن من توطيد الاستقرار، أمنياً وسياسياً، طوال فترة حكمه منذ عام 1533 حتى وفاته في عام 1584.
بعده، توارثت أُسَر متعددة حكم البلاد، لكن بين إيفان والاتحاد السوفياتي، كانت مرحلتا حكم بطرس الأكبر (1682-1725) وياكترينا الثانية (1762-1796) الأكثر ازدهاراً وتأثيراً في تاريخ روسيا.
خلال هاتين المرحلتين، أصبحت روسيا القيصرية، التي عرفها العالم، قوةً شماليةً كبرى. ومع بطرس ونظرته الدولتية تأسست سانت بطرسبورغ على طراز أهم المدن الفرنسية والإيطالية والألمانية. ولم يكن ذلك سوى نتائج لحاجات البلاد للتعبير عن نفسها، ورؤية القيصر التي نقلت أجمل ما في أوروبا الغربية من فنون وعلوم، بحيث أطلق “السفارة الكبرى” عام 1687، وجال خلالها، في سفينته، في أعظم المدن في بروسيا وفرنسا وهولندا وإنكلترا، وعاد حاملاً معه المهندسين والفنانين، الذين بنوا ملامح روسيا وصنعوا تحفها الأولى. ثم، عند عودته إلى بلاده، قضى على تمرد عسكري لقوات “ستريلتسي”، وصنع وجه الإمبراطورية الصاعدة. ومشت ياكترينا الثانية على خطى بطرس الأكبر، وصدّت هجمات الأتراك في الجنوب. خاضت حروب القرم، وتمكنت من هزيمة الأتراك، إلى أن أصبحت بطلةً في بلادها، وهي الآتية إليها من ألمانيا بالمصاهرة (اسمها الحقيقي صوفي زربست دورنبرغ، وهي ابنة أمير آنهالت في مملكة بروسيا).
لماذا الغرب؟
لقد أثّرت المعالم القاسية للتاريخ الروسي في الشخصية الروسية الجمعية، حتى باتت لا تقبل القادة الضعفاء، وتمجّد الأقوياء منهم، والذين يُظهرون قابليةً وقدرة على الدفاع عن البلاد في مساحة المخاطر المتنوعة التي تحملها العهود والعقود المتوالية.
ومنذ ذلك الوقت، حتى عصر الاتحاد السوفياتي، كان الخطر الدائم يأتي من جهة الغرب. فمن الجهة الشرقية، مساحات شاسعة قليلة الكثافة السكانية، لا يمكن السيطرة عليها والتثبيت فيها. وفي حال قامت قوة ما باتخاذ خيار دخول هذه الأراضي، فإنها لن تصل إلى أبعد من جبال الأورال؛ الحاجز الطبيعي الحامي لقلب روسيا. وفي المقابل، فإن القوات الغازية لن تستطيع حماية وجودها في مساحات هائلة شبه خالية. لا أهداف كبرى يُسعى من أجلها، وفي المقابل، لا إمكان للدفاع عمّا يحدث منها.
لذلك، مرت 500 عام تعرّضت فيها الإمبراطورية الروسية لغزواتٍ متكرّرة من القوى الغربية المسيطرة، كلّ في زمانها. البولنديون هاجموا روسيا من السهول الشمالية في عام 1605، ثم تبعهم السويديون بعد مئة عام، في عام 1708. لكن حملة نابليون كانت الأكثر صخباً، حين جهّز جيشاً ضخماً وحاول كسر هذا الحاجز التاريخي، الذي بقي صامداً على الرغم من عدم وجود حواجز جغرافية. وفي الحربين العالميتين، حاولت ألمانيا أيضاً تطوير فكرة نابليون وإعادة المحاولة، ولم تفلح في ذلك، حتى عندما توافرت لأدولف هتلر كل عناصر القوة.
كمعدّلٍ عام، كانت روسيا تخوض قتالاً من أجل أمنها القومي مرةً كل 33 عاماً، في الفترة الممتدة بين حملة نابليون عليها ونهاية الحرب العالمية الثانية. إنها الحقائق التي تراكمت عبر الأعوام، وتشرّبها وجدان صنّاع القرار في الكرملين. الرياح الدائمة بالنسبة إليهم تأتي من السهل المفتوح في اتجاه الغرب، حيث تشكّل بولندا مساراً سهلاً في اتجاه الحدود الروسية، وصولاً إلى موسكو. ومع أن الأخيرة بعيدة نسبياً عن الحدود، فهي تبقى معرّضة للخطر، وخصوصاً مع تطور الوسائل العسكرية التي يمكن أن تساعد القوى المهاجمة. في المقلب الآخر، فإن على قوى الهجوم أن تأخذ في الحسبان، بعد وصولها إلى الحدود، أكثر من ألفي ميل من المَسير حتى الوصول إلى موسكو.
طوال الوقت، كانت نعمة موسكو في المنطقة الفاصلة بينها وبين القوى الغربية المقتدرة، هي وجود الشعوب السلافية المنتشرة جنوباً في دول البلقان، وشمالاً في أوكرانيا. وفي مرحلة الاتحاد السوفياتي، كانت الإدارة العليا السوفياتية تحاول توسيع مجال الأمن القومي عبر تعزيز الدول غير الروسية في الاتحاد، الأمر الذي، وفق الفهم الروسي الحالي لتاريخ الاتحاد السوفياتي، أعطى بولندا وأوكرانيا أراضيَ لم تكن لهما في الماضي، على حساب الأمن القومي لروسيا تحديداً، وهو ما يشير بوتين إليه اليوم على أنه من الأخطاء الكبرى التي ارتكبها قادة الاتحاد. وهذا ما يفسّر أيضاً الموقف المتشدد لبولندا ضد موسكو خلال الأزمة الأوكرانية.
هنا بالضبط، تكمن نواة المسألة الروسية الحديثة، حيث يعارض الغرب هذه الفكرة برمّتها، ولا يعترف بما تراه روسيا ضرورات حاسمة في استراتيجية الأمن القومي الخاصة بها، بل يواصل دعمه الزخمَ الغربي في دول الاتحاد السوفياتي السابق، على قاعدة التشارُك في القِيَم، وهو ما أدّى إلى دخول دول حلف وارسو المنحلّ جميعها حلفَ شمال الأطلسي، أو الاتحادَ الأوروبي، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي.
لقد بنت روسيا نظريتها الجيوبوليتيكية الحديثة على الأسس أعلاه، على نحو يشمل نظرتها إلى تاريخها ومضامينه المتقلّبة، وإلى مستقبلها، في مخاطره وفرصه، في شراكاته البائنة، وعداواته المتوقَّعة. وفي مسيرها إلى ذلك ترى موسكو المخاطر نفسها من الاتجاهات التقليدية. وهي، والحال كذلك، لن تستطيع تجاهل حقائق الجيوبوليتيك الخاصة بها. فمكانها في الخريطة لن يتغير، ولا أماكن أخصامها بالطبع. وكل ما يفيد في هذا الإطار هو المحافظة على الجاهزية الدائمة، والذهاب إلى أبعد مما يتوقّعه الآخرون، من أجل المحافظة على الأمن القومي والمصالح الاستراتيجية.
تنطبق هذه النظرية على المواجهة الدائرة في أوكرانيا، بل إنها أشدّ ما تنطبق على هذه الحرب، بحيث إن أوكرانيا هي الساحة الجغرافية الفاصلة بين بولندا وروسيا، وبالتالي بين الغرب كله وروسيا. وأوكرانيا هي المساحة الزمنية للتاريخ الروسي، في كل مكتنزاته. وتحوّلها إلى دولة غربية بصورةٍ كاملة لا يعني، بالنسبة إلى روسيا، كارثة أمنية فحسب، بل يعني أيضاً، أبعد من ذلك، نهاية روسيا كقوةٍ عظمى.
الآن، يمكن للحلول في أوكرانيا أن تنطلق من الفهم المتبادل للحقائق الحاكمة على رؤى كل الأطراف، واحترامها، وتأسيس السلام على قواعد الفهم المتبادل، والمصالح المستقبلية، للقوى التي تتشارك في التاريخ والجغرافيا. فروسيا ودول أوروبا الغربية أعطت البشرية أروع ابتكارات العلوم والآداب والفنون في القرون الأخيرة، وبقاؤها في واجهة التاريخ معاً يعتمد على تقديرها اليوم، وفق قاعدتين مُفادهما: فهم الذات، انطلاقاً من الماضي، وفهم المستقبل، انطلاقاً من الاعتراف الحضاري المتبادل.
المصدر: الميادين