من الصعب على كل مؤمن بعدالة القضية الفلسطينية، وبحجم الصمود الهائل الذي أظهره الشعب الفلسطيني المتمسك بأرضه والمدافع عنها حتى آخر رمق في حياته، أن ينكر حجم المخاطر التي تتعرض لها هذه القضية التي باتت مهدّدة تهديداً فعلياً بالتصفية التامة.
نجحت الفصائل الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة في معركة “سيف القدس” في تشكيل غرفة عمليات عسكرية مشتركة
كشف العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، ضمن ما كشف، عن تطور جديد في الاستراتيجية الإسرائيلية التي يعرف القاصي والداني أنها تستهدف تصفية القضية الفلسطينية وإعلان الانتصار النهائي للمشروع الصهيوني.
ففي الجولة الأخيرة من الاعتداءات المتكررة على قطاع غزة، نجحت “إسرائيل” في تحييد منظمة حماس وركزت ضرباتها العسكرية على منظمة الجهاد التي تعدها أكثر المنظمات تطرفاً وارتباطاً بالاستراتيجية الإيرانية.
صحيح أن هذه ليست المرة الأولى التي تحاول فيها “إسرائيل” دق إسفين بين أكبر منظمتين للمقاومة الفلسطينية المسلحة، حيث سبق لها أن حاولت استخدام هذا التكتيك عام 2019، حين اغتالت بهاء أبو العطا، أحد قادة “سرايا القدس”. غير أن الوضع الفلسطيني والإقليمي يختلف هذه المرة، خصوصاً بعد معركة “سيف القدس” التي نجحت في توحيد كل فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، وفي تعبئة وحشد جميع قوى الشعب الفلسطيني الحية أينما وجدت: في الضفة، وفي غزة، وفي الشتات، وداخل الخط الأخضر.
ولأن كل الفصائل الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة نجحت خلال هذه المعركة التاريخية في تشكيل غرفة عمليات عسكرية مشتركة، فقد اعتقد كل محبي الشعب الفلسطيني حينذاك أن النضال الفلسطيني يشهد تطوراً نوعياً جديداً ومهماً، وأن المواجهات المسلحة مع “إسرائيل” ستدار منذ الآن فصاعداً من خلال آلية مؤسسية تقضي على مظاهر العشوائية والفوضى التي شهدتها الساحة الفلسطينية في مراحل سابقة.
غير أن جولة المواجهة الأخيرة، التي نجحت فيها “إسرائيل” في تحييد حماس، بددت هذه الآمال وأعادتنا إلى المربع الأول.
لا يخفى على أحد أن الحركة الصهيونية تبنت استراتيجية واضحة المعالم، لتحقيق هدفها الساعي لتصفية القضية الفلسطينية نهائياً، تضمنت 3 مراحل، يمكن تحديد أهم معالم كل منها على النحو التالي:
المرحلة الأولى: استهدفت فصل القضية الفلسطينية عن عمقها العربي والإسلامي.
وفيها نجحت الحركة الصهيونية في تحقيق سلسلة من الاختراقات، كان أولها وأهمها استدراج مصر الساداتية إلى الخروج من معادلة الصراع العسكري، وهو ما تحقق بإبرام مصر “معاهدة سلام” منفردة مع “إسرائيل” عام 1979، ثم راحت بعد ذلك تركّز جهودها للحيلولة دون قيام جبهة عربية موحدة من دون مصر تستهدف مواصلة النضال ضد “إسرائيل”، وهو ما نجحت فيه حينما أمكنها استدراج العراق وإشغاله بحرب طويلة الأمد على إيران.
وبعد أن تمكنت من استنزافهما معاً في تلك الحرب التي طالت إلى ما يقارب 8 سنوات، سعت “إسرائيل” لاستدراج العراق لغزو الكويت عام 1990 ونجحت في تهيئة أوضاع إقليمية ودولية أسفرت عن تدمير العراق وتمزيق شمل العالم العربي وانعقاد مؤتمر مدريد الذي شكّل نقطة تحول في مسار الصراع العربي الإسرائيلي.
ولأن الحركة الصهيونية كانت تدرك أن لا حرب من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا، فقد بدأت تبحث عن وسيلة لاستدراج سوريا نحو تسوية بشروطها، وحين أخفقت، بدأت تسعى لعزل سوريا عربياً إلى أن حانت أمامها فرصة لمحاولة تدميرها عقب اندلاع ثورات الربيع العربي.
وهكذا أصبح الطريق أمامها ممهداً للاستفراد بالدول العربية الواحدة بعد الأخرى ودفعها إلى إبرام معاهدات سلام معها قبل تسوية القضية الفلسطينية.
المرحلة الثانية: استهدفت بيع “وهم السلام” في مقابل تخلي الحركة الوطنية الفلسطينية عن سلاحها.
وعلى هذا الصعيد، نجحت الحركة الصهيونية في تحقيق سلسلة من الاختراقات، بدأت باستدراج منظمة التحرير الفلسطينية لإبرام “اتفاقية أوسلو” الكارثية عام 1993، وهي الاتفاقية التي لم تتمكن حتى من إجبار “إسرائيل” على وقف الاستيطان، ممهدة بذلك الطريق أمام الأردن لإبرام “اتفاقية وادي عربة” عام 1994، ثم أمام عدد كبير من الأنظمة العربية بعد ذلك للتطبيع مع “إسرائيل” وانتهاء باتفاقيات “أبراهام” التي أبرمت في السنوات الثلاث الأخيرة.
وكاد التحرّك على هذا المنزلق أن يفضي إلى تصفية نهائية للقضية الفلسطينية لولا إدراك الرئيس ياسر عرفات في اللحظة الأخيرة، خصوصاً إبّان انعقاد مؤتمر “كامب ديفيد” الثاني عام 2000، أنه يجري وراء سراب، وأن الحد الأقصى لما يمكن أن تقبل به “إسرائيل” أن تقبل به، أو أن تسعى الولايات المتحدة لتحقيقه، لا يلبي الحد الأدنى لمطالب الشعب الفلسطيني، ولا يتيح إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس على حدود عام 1967، أي على 28% فقط من أرض فلسطين التاريخية، وهو ما يفسر قرار عرفات رفض شروط التسوية التي عرضت عليه في هذا المؤتمر.
صحيح أنه دفع حياته فيما بعد ثمناً لهذا الموقف المبدئي، لكن رحيل عرفات وهو يمسك براية النضال ويرفض الاستسلام، ساهم في التخلص من وهم السلام والتسوية السلمية، ومهّد الطريق لمرحلة جديدة من مراحل النضال الفلسطيني الرافض لأي تفريط جديد في قضيته الوطنية.
المرحلة الثالثة: استهدفت تمزيق وحدة الشعب الفلسطيني وإثارة التناقضات بين مكوناته.
وعلى هذا الصعيد نجحت الحركة الصهيونية في تحقيق سلسلة من الاختراقات، بدأت بقرار الانسحاب من غزة في أيلول/سبتمبر عام 2005. صحيح أنه ما كان لهذا الانسحاب أن يحدث لولا ضغط المقاومة المسلحة، لكن كان للانسحاب مآرب سياسية أخرى سعت “إسرائيل” لتحقيقها، في مقدمها فصل غزة عن الضفة، وإثارة مزيد من التناقضات بين حركة حماس، المتجذرة في غزة التي ترفع شعار المقاومة المسلحة وتطالب بالتخلي عن “اتفاقية أوسلو”، والسلطة الفلسطينية، خصوصاً بعد رحيل ياسر عرفات وتبني محمود عباس سياسة مهادنة لـ”إسرائيل” وحريصة على التنسيق الأمني معها.
ولا شك في أن “إسرائيل” أدت دوراً محورياً في دفع هذه التناقضات نحو الانفجار الذي انتهى بتمكين حماس من الانفراد بالسلطة على قطاع غزة وبوجود حكومتين فلسطينيتين متصارعتين. ولم يكن هذا الفصل مقدّمة لتقطيع أوصال الشعب الفلسطيني ومنع التواصل بين مكوناته المختلفة وحسب، وإنما للاستفراد كذلك بكل فصيل مقاوم على حدة، بغية الفتك بكل الفصائل التي تجرؤ على حمل السلاح في وجه “إسرائيل” في النهاية.
حين بدأت المناوشات التي انتهت باندلاع معركة “سيف القدس” في أيار/مايو من العام الماضي. فوجىء العالم كله بمكونات الشعب الفلسطيني، في الضفة وغزة والشتات وداخل الخط الأخضر، تتوحد جميعها وتقف على قلب رجل واحد دفاعاً عن القدس والمسجد الأقصى، وفوجئ كذلك بكل فصائل المقاومة المسلحة توحّد صفوفها وتنسّق عملياتها وتخوض معركة بطولة تمكّنت خلالها من تحقيق إنجازات كبيرة.
وقتذاك تصوّرنا أن النضال الفلسطيني دخل في مرحلة جديدة وأن الشعب الفلسطيني، بفصائله ومكوناته المتعددة، سيتجاوز مرحلة تشرذمه وانقساماته ويعيد بناء حركته الوطنية على أسس جديدة، وبالتالي ستتبلور تدريجاً استراتيجية وطنية فلسطينية تديرها مؤسسات موحدة تأخذ في اعتبارها مصالح الشعب الفلسطيني قبل مصلحة هذا الفصيل أو ذاك.
غير أن الوقت راح يمر ويهدر من دون أن تتحقق المصالحة الفلسطينية إلى أن حدثت المواجهة المسلحة الأخيرة التي استطاعت فيها “إسرائيل” تركيز عملياتها المسلحة ضد الجهاد، وهي المعركة التي أثبتت من جديد تغليب الرؤى والمصالح الفصائلية على الرؤى والمصالح الوطنية الفلسطينية.
لا يستطيع أحد أن ينكر التضحيات الهائلة التي قدمتها فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، كما لا يستطيع أحد إنكار المنجزات الكبيرة التي حققتها هذه الفصائل أمام عدو يمتلك إمكانات وقدرات هائلة تفوق كثيراً إمكانات وقدرات الشعب الفلسطيني.
ومع ذلك فمن الصعب على كل مؤمن بعدالة القضية الفلسطينية، وبحجم الصمود الهائل الذي أظهره الشعب الفلسطيني المتمسك بأرضه والمدافع عنها حتى آخر رمق في حياته، أن ينكر حجم المخاطر التي تتعرض لها هذه القضية التي باتت مهددة تهديداً فعلياً بالتصفية التامة، خصوصاً بعد نجاح “إسرائيل” في فصلها هذه عن عمقها العربي والإسلامي، وفي شل قدرة منظمة التحرير الفلسطينية على الحركة والفعل، وفي بث بذور الفرقة والتناقضات بين فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية، بما في ذلك أجنحتها العسكرية، وكلها أخطار وتحديات جمة تواجه القضية الفلسطينية وتستدعي أن تغير الفصائل الفلسطينية كلياً سياستها الحالية.
أدرك بالطبع حجم المسؤولية التي تتحملها السلطة الفلسطينية في عرقلة المحاولات الهادفة إلى تحقيق المصالحة الفلسطينية وتبنّي استراتيجية وطنية جديدة أكثر فاعلية. غير أن ذلك لا يقلل من مسؤولية الفصائل الأخرى، خصوصاً الفصائل التي ترفع شعارات المقاومة المسلحة. فالمقاومة المسلحة لا يمكن أن تختزل في ردود أفعال انفعالية أو انتقامية لمقتل هذا القائد أو ذاك وإنما يجب أن تدار من خلال مؤسسة وطنية واحدة تتخذ قراراتها وفقاً لمصالح الشعب الفلسطيني ومصالح قضيته الفلسطينية، لا مصلحة فصيل أو تيار بعينه.
لقد أثبتت الجولة الأخيرة من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أن أوراق القضية الفلسطينية لا تزال مبعثرة وأنها في أمس الحاجة إلى من يلملمها، فهل على الساحة الفلسطينية رجل أو فصيل رشيد يستطيع أن يضطلع بهذه المهمة النبيلة؟!
المصدر: الميادين