يائير لابيد يتولى كرسي رئاسة وزراء الاحتلال الإسرائيلي، بعد مرحلة من عمره قضاها في أروقة القناة الثانية الإسرائيلية، فما هو تاريخه وكيف تولى منصباً سياسياً؟
تولى يائير لابيد كرسي رئاسة وزراء الاحتلال الإسرائيلي؛ لابيد الذي كان مكان عمله، حتى عام 2012م، استديوهات القناة الثانية الإسرائيلية، كمقدّم لبرنامج “استديو الجمعة”؛ يائير الأشكنازي، ابن مدينة “تل أبيب”، العلماني، المنتمي إلى الطبقة الوسطى، والذي عاش حياة الصعاليك الفوضوية في شبابه، فلعب الملاكمة، واتُّهم بتعاطى المخدرات؛ يائير الذي لم يحصل على شهادة الثانوية العامة (البغروت)، نجح في أن يكون رئيس الوزراء الرابع عشر في تاريخ “الدولة” الموقتة “إسرائيل”.
يائير لابيد، الذي كل تاريخه العسكري أنه خدم مراسلاً صحافياً في صحيفة “المعسكر”، التابعة لجيش الاحتلال، الأمر الذي يمنحه صفة أنه أقل رؤساء الوزراء خبرة، عسكرياً وأمنياً، في تاريخ الكيان. فعلى الرغم من أن يائير لابيد رئيس للحكومة الانتقالية التي ستسيّر الحُكم حتى انتخابات الكنيست المقبلة في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، فإن وصوله إلى المنصب الأهم في “دولة” الاحتلال، يطرح تساؤلات عميقة عن طبيعة مسار صعوده لتصدُّر القيادة السياسية في “إسرائيل”، وبالتالي التعرّف إلى الخطوط العامة لتعامله مع التحديات الداخلية والتهديدات الخارجية والتغيرات الإقليمية والدولية المحيطة بالكيان في الفترة المقبلة.
بدأ مشوار لابيد السياسي من خلال رافعة القضايا الاقتصادية والاجتماعية، والمرتبطة بهموم الطبقة الوسطى الإسرائيلية، وخصوصاً بعد التغيرات العميقة التي حدثت في الاقتصاد الإسرائيلي منذ بدايات الثمانينيات من القرن الماضي، والتي أجرت تغييرات جذرية في الاقتصاد الإسرائيلي، الذي تحول من الاشتراكية العمالية وسيطرة نقابة العمال، الهستدروت، والكيبوتسات، والشركات التي تملكها الدولة، إلى الاقتصاد الرأسمالي، والذي تتحكّم فيه طبقة من رؤوس المال، والخصخصة، الأمر الذي زاد في الضغوط على الطبقة الوسطى المدينية في “إسرائيل”.
أضف إلى ذلك ما رافق الأمر من تحولات اجتماعية وسياسية، تتمثل بسيطرة اليمين بقيادة نتنياهو على الحكم، من خلال تحالفه القوي مع أحزاب الحريديم الدينية، وغير المشاركة في أعباء “الدولة” العسكرية أو الاقتصادية، بل تمثّل العبء الحقيقي على موازنة الحكومة الإسرائيلية، وخصوصاً أنها تمثّل ما يقارب 20% من سكان “إسرائيل”.
وبالتالي، بدأ نجم الحريديم الصعود سياسياً، كحليف حزبي مريح، وما تبع ذلك من استحقاقات مالية واقتصادية لمصلحتهم. لذا، باتت الطبقة الوسطى الأشكنازية ترى نفسها تُدفَع نحو الهوامش بعد أن كانت تقود “إسرائيل”، في كل المستويات.
بدأت الطبقة الوسطى الإسرائيلية، ذات الأغلبية الأشكنازية، الاحتجاج الاجتماعي، وخصوصاً في منطقة “تل أبيب”، عام 2011م، فيما سُمِّيَ مظاهرات الخيام، رفضاً لغلاء أسعار الشقق السكنية. ومن هنا، انطلقت مسيرة يائير لابيد السياسية في تشكيل حزب “هناك مستقبل”، عام 2013م؛ صاحب الأجندة الاجتماعية والاقتصادية، والذي رفع شعار المساواة في الأعباء بين كل سكان “دولة” الكيان، وخصوصاً في قضية التجنيد الإجباري للحريديم، ودمجهم في سوق العمل.
وحدّد حزب لابيد نفسه أنه من أحزاب الوسط. ورؤيته السياسية للقضية الفلسطينية، على الرّغم من عدم وجودها في سلّم أولوياته، فإنها لم تخرج عن “حل الدولتين”، لكن مع ضم المستوطنات الكبرى، مثل “أرئييل” و”معالي أدوميم” و”غوش عتسيون” و”كريات أربع”. لذلك، في أول حكومة ائتلافية شارك فيها يائير لابيد، تولى وزارة المالية، وقاد بعض القوانين الاقتصادية والاجتماعية، وخصوصاً قانون المساواة في الأعباء، والذي كان من أهم أسباب إقالة نتنياهو ليائير لابيد من الحكومة بعد عام ونصف عام تقريباً فقط.
وبالتالي، استطاع نتنياهو إطفاء نجومية لابيد، إلى حد كبير، الأمر الذي انعكس على تراجع حزبه في انتخابات 2015م، بحيث حصل على 11 مقعداً بدلاً من 19 مقعداً في انتخابات عام 2013م. ولم يشارك في الحكومة، وظنّ الجميع أن حزبه سيتفكك كعادة أحزاب الوسط في “إسرائيل”، والتي لا تصمد عادة في بقائها في صحراء المعارضة بعيداً عن وارف مكاسب الحكومة، وأن سيناريو حزب التغيير (شينوي)، الذي قاده تومي لابيد، سيتكرر مع ابنه يائير لابيد.
يُحسَب ليائير لابيد تنازله عدة مرات عن تصدُّر دفّة القيادة لمصلحة الآخرين، في سبيل تحقيق هدفه، فتنازل لبني غانتس، الجنرال القادم إلى السياسة آنذاك في قيادة ائتلاف كتلة “أبيض أزرق”، والذي انفضّ هذا الائتلاف بعد موافقة غانتس على الذهاب إلى حكومة ائتلافية مع نتنياهو في كانون الثاني/يناير 2020م. وتنازل لابيد، مرة أخرى، لنفتالي بينيت، عن أن يتولى منصب رئيس الوزراء في الفترة الأولى، على الرّغم من أن حزب بينيت لا يمتلك إلّا خمسة مقاعد في الكنيست، وأن يكون هو رئيس الوزراء البديل، على الرَّغم من أن حزبه الأكبر بين أحزاب الائتلاف الحكومي. لكن لابيد نجح في تشكيل حكومة أبعدت نتنياهو بعد 12 عاماً متتالية في الحكم.
ذهاب يائير لابيد، بعد توليه منصب رئاسة الوزراء، إلى متحف الكارثة والبطولة، ليقف أمام شعلة المحرقة، وعدم ذهابه إلى حائط البراق (المبكى) لتلقي البركات، يؤكد أن لابيد سيحافظ على خطه الداخلي، اجتماعياً وسياسياً، وبالتالي اللعب على استثارة الطبقة الأشكنازية المَدينية العلمانية، لتعود إلى قيادة دفّة الكيان مرة أخرى.
يائير لابيد تربطه علاقة قوية بالإعلام، واستفاد كثيراً من خبراته الإعلامية في التواصل مع الجمهور الإسرائيلي، أضف إلى ذلك تحدثه اللغتين الإنكليزية والإسبانية. لذلك، من السهل عليه البروز، سياسياً وإعلامياً، حتى لو لم يكن الرجل الأول في الائتلاف الحكومي.
وهذا تمّت ملاحظته عندما تولى وزارة الخارجية في حكومة بينيت، بحيث أعاد إلى الوزارة نشاطها وحضورها السياسيَّين في الشارع الإسرائيلي، واستطاع أن يستثمر تلك الفترة في التمهيد لجلوسه في منصب رئيس الوزراء، بحيث باتت تربطه علاقات متينة بالإدارة الأميركية، إلى درجة أن جو بايدن، في اعتقادنا، يعدّه الخيار الأفضل في منصب رئيس الوزراء، الأمر الذي يُعَدّ أحد أسباب دفع بايدن إلى عدم إلغاء زيارته “إسرائيل” على الرغم من أنها تأتي في فترة دعاية انتخابية، وستمنح لابيد نقاط قوة سياسية وانتخابية لمصلحته، ناهيك باجتهاد لابيد في إقامة علاقات شخصية بقادة “التطبيع العربي”، وقيامه بعدة زيارات لدول “التطبيع العربي”، الأمر الذي نعتقد أنه سيركّز عليه في الفترة المقبلة.
لا يمتلك لابيد خبرات عسكرية وأمنية، على الرغم من أنه كان عضواً في مجلس الوزراء المصغَّر للشؤون الأمنية والعسكرية، في حكومتَي نتنياهو عام 2013م، ونفتالي بينيت عام 2021م، وعضو لجنة الخارجية والأمن في الكنيست فترةً طويلة، الأمر الذي سيتطلّب من لابيد ضمَّ أحد الجنرالات العسكريين إلى حزبه في الانتخابات المقبلة، والحديث يدور عن غادي آيزنكوت، رئيس الأركان الأسبق.
لكن، حتى الانتخابات المقبلة، نعتقد أن لابيد سيفتح المجال للمؤسسة العسكرية لأخذ مزيد من المساحات في اتخاذ قرارات الأمن القومي، وخصوصاً أن وجهة نظر جيش الاحتلال الإسرائيلي بشأن الملف الإيراني تتقارب مع الرؤية الأميركية. وبالتالي، يحافظ لابيد على دعم الإدارة الأميركية له من جهة، ولا يخلق، من جهة أخرى، إشكالات جوهرية مع المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وهذا سيؤثّر، بلا شكّ، في حظوظه في الانتخابات المقبلة.
يائير لابيد أقرب إلى الرؤية اليمينية بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، فهو يدعم “حل الدولتين” نظرياً، لكنه، بالفعل، يؤكد أن الظروف لا تسمح بذلك، وأن ما يمكن فعله فقط هو الاقتصاد في مقابل الأمن، بمعنى وجود حلّ إنساني لمشكلة المواطن الفلسطيني من دون أي حقوق وطنية أو قومية، وبالتالي البقاء في إطار عقدة اللاحل، والعمل على تخفيف الاشتباك بين الفلسطينيين و”دولة” الاحتلال.
وهذا الموقف يفتح المجال أمام ناخبين كثر، من اليمين الغاضب على فساد نتنياهو، أن يمنحوا لابيد أصواتهم، كحزب وسط، ذي أجندة اجتماعية أقرب إلى اليسار، لكنه ذو رؤية يمينية تجاه القضية الفلسطينية.
المصدر: الميادين