يسعى الجميع لإنقاذ الكيان الإسرائيلي من نهايته الحتمية، أي الزوال، وهو ما يتخوَّف منه حكام “تل أبيب” بعد الانتكاسات السياسية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية في “المجتمع” الإسرائيلي المنقسم على حاله.
تحت شعارات “الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان”، تبنّت واشنطن وحلفاؤها الغربيون وعملاؤها الإقليميون ما يسمى “الربيع العربي”، الذي ألحق أضراراً مباشرة وغير مباشرة بجميع دول المنطقة، بدرجات متفاوتة، ليكون الكيان الإسرائيلي هو المستفيد الوحيد.
وحتى لو تركنا جانباً سخافة وسفسطة الشعارات التي رفعتها الدول الإمبريالية والاستعمارية، فلا بد لنا من أن نتذكر أن الأكثر سخافة، بل وقاحة، في الموضوع، أن الدول الإقليمية التي استنفرت كل ما لديها خدمة للمشروع الإمبريالي الاستعماري الصهيوني ليس لها أي علاقة بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، بل إنها الأكثر استبداداً وفساداً، ليس في المنطقة فحسب، بل ربما في العالم أجمع أيضاً.
ومع اختلاف الحسابات الإقليمية والدولية، كلّف الربيع الدموي دول المنطقة ما لا يقل عن تريليون دولار من الخسائر المباشرة وغير المباشرة، وخصوصاً في العراق وسوريا واليمن وليبيا ولبنان ومصر والسودان وتونس والجزائر، وحتى دول الخليج، التي خصّص حكامها ثرواتهم خدمة لمشروع الدمار.
وحتى إذا تجاهلنا الخسائر البشرية في دول “الربيع”، إذ لا يعرف أحد العدد الحقيقي للقتلى والمعوقين والجرحى والأرامل واليتامى، فلا بد من التذكير بملايين الناس الذين اضطروا إلى الهجرة من أوطانهم، وهو ما ألحق أضراراً بالغة بالمجتمعات المذكورة التي خسرت خيرة شبابها ورجال أعمالها وأدمغتها المنتجة.
أما تدني مستوى التعليم وارتفاع نسبة الأمية بشكل خطر وانتشار الجهل المدقع بكل أشكاله، فهو الأخطر بالنسبة إلى مستقبل دول المنطقة وشعوبها التي ستواجه الكثير من المشاكل الاجتماعية والنفسية مع انتشار ظاهرة التدين، بعيداً عن المعاني الحقيقية للإسلام، وهو ما استغلته المجموعات المسلحة، مثل “داعش” و”النصرة” وأمثالهما، والتي رفعت شعارات دينية خدمت من خلالها المشروع الإمبريالي الاستعماري الصهيوني، وهو ما شهدناه في سوريا والعراق وليبيا ومصر وتونس ولبنان ودول أخرى بدرجات متفاوتة.
لقد كانت كل هذه السلبيات كافية بالنسبة إلى الدول الإمبريالية وحليفاتها لتحقيق أهدافها الكبرى في سنوات “الربيع العربي”، ويمكن تلخيصها كما يلي:
1- تدمير كل البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية لدول المنطقة وشعوبها واستعداء بعضها بعضاً.
2- بعد هذا التدمير، العمل على خلق قناعات جديدة وفرضها على الإنسان العربي ليستسلم للأمر الواقع، ويؤمن بأن لا أمل بعد الآن في مستقبله ومستقبل وطنه وأمته العربية من المحيط إلى الخليج، ليكون همه الوحيد هو مصالحه الفردية الضيقة فقط.
3- فقدان الأمل بالمستقبل، وهو ما استغلَّته الدول المذكورة، ومعها الأنظمة العميلة، لإقناع المواطن العربي “بأن السبب الأهم، إن لم يكن الوحيد، في أزمات المنطقة هو القضية الفلسطينية والخلاف مع إسرائيل، وأن المصالحة معها هي الحل الوحيد لمعالجة هذه الأزمات”.
4- جاء تطبيع الأنظمة العربية، ومعها تركيا، مع “إسرائيل” كنتاج لهذه الحرب النفسية التي تهدف إلى إقناع شعوب المنطقة “بأن إسرائيل جزء من نسيجها الطبيعي، وأن التعايش معها حالة إنسانية ذات قيم عليا تتضمن الديمقراطية والتنمية والتقدم”.
واستنفرت أنظمة التطبيع العربية والإسلامية كلّ إمكانياتها السياسية والمالية والإعلامية لتسويق هذه الأفكار والتأثير في أدمغة المواطنين العرب والمسلمين، أياً كانت أوطانهم.
5- تكتسب كل هذه الفعاليات أهمية إضافية بسبب توقيتها الزمني الذي صادف تطورات الواقع الإسرائيلي الذي يواجه أخطر تحدياته التاريخية منذ قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين.
بمعنى آخر، يسعى الجميع لإنقاذ الكيان الإسرائيلي من نهايته الحتمية، أي الزوال، وهو ما يتخوَّف منه حكام “تل أبيب” بعد الانتكاسات السياسية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية في المجتمع الإسرائيلي المنقسم على حاله، من دون أي احتمال لمعالجة هذا الانقسام والتفسخ الطبيعي جداً.
ومهما كان نجاح المشروع الصهيوني في خلق “مجتمع يهودي متجانس”، يعرف الجميع أنَّ ذلك يتناقض مع أبسط قواعد علم الاجتماع والنفس، ما دام ما يُسمى “الشعب اليهودي” ليس إلا خليطاً غير متجانس يضمّ أناساً لا تجمعهم إلا رابطة واحدة، هي الدين، وبمعايير صهيونية متناقضة.
ويعرف الجميع أن الحظ لن يحالف هؤلاء في تحقيق الأهداف “السامية للنظرية الصهيونية” إلا بشرط واحد، هو اعتراف الأنظمة العربية والاسلامية بهذه النظرية التي ولدت في الغرب المسيحي، رغم صلب اليهود للسيد المسيح، فكما تجاهل الغرب المسيحي بمضمونه الإمبريالي الاستعماري هذه الحقيقة، يراد الآن من أنظمة التواطؤ العربية والإسلامية أن تتجاهل كل ما جاء في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة عن اليهود وتاريخهم الأسود عبر جميع مراحل التاريخ الإسلامي.
باختصار، إنَّ تآمر الأنظمة العربية والإسلامية وتواطؤها وعمالتها، وهي حالة جينية بالنسبة إلى معظمها، يراد لها أن تساعد الكيان الصهيوني على إطالة عمره ومنعه من الزوال الحتمي جغرافياً وتاريخياً، حتى من خلال السفسطات الدينية.
من المستحيلات المئة، بل الألف، أن يستمر هذا الكيان الغريب كالورم الخبيث في جسد المنطقة العربية، حتى لو استهلك كلّ منشطات العالم، ومن المستحيل أن يحكم 8 ملايين يهودي 400 مليون عربي، مهما تواطأ حكامهم، كما من المستحيل أن ينسى العرب، ومعهم المسلمون، دينهم، ويستسلموا لليهود، أياً كانت التسميات والعناوين، سواء حوار الأديان أو تحالف الحضارات، وأخيراً الاتفاقيات الإبراهيمية.
ومن المستحيلات الألف أن يتقبل الملايين من الشرفاء من أبناء الأمتين العربية والإسلامية احتضان أي يهودي يغتصب أرض فلسطين وسوريا ولبنان، ويقتل الفلسطينيين كل يوم، ويستولي على أراضيهم وممتلكاتهم، وهو يعتقد “أن الله منحها لهم وليس للآخرين”.
يفسر كل ذلك فشل ما يسمى بـ”الربيع العربي”، وقبله كلّ الحروب والمؤامرات، في فرض الأيديولوجيا الصهيونية على دول المنطقة وشعوبها، رغم خيانة العديد من أنظمتها، ويفسر أيضاً صمود وانتصارات الشعب الفلسطيني والمقاومة العربية والإسلامية بكل أشكالها، ليس ضد الكيان الصهيوني فحسب، بل ضد عملائه أيضاً، الذين جن جنونهم لأنهم فشلوا، فتمادوا في الخيانة، وهذا هو سلوكهم منذ زمن طويل، لأنهم السبب في قيام “إسرائيل”، ومن قبلها سايكس بيكو ووعد بلفور والنكبة وغيرها.
ويبقى الرهان دائماً على الحقائق التاريخية التي لا يمكنها أن تتحدّث عن انتصار الظالم وهزيمة المظلوم إلى الأبد، فذلك يتناقض مع الكثير من المعطيات العملية والعلمية، وأهمها حقيقة أن حزب الله مصدر الرعب الحقيقي للكيان الصهيوني وكل المتآمرين والخونة. ويعرف الجميع أنَّ هؤلاء الخونة والمتآمرين مهمتهم الوحيدة خدمة هذا الكيان ومنعه من الزوال، لأنهم سيزولون بزواله أيضاً، ولا مفر من ذلك.
المصدر: الميادين