يخطط إردوغان من خلال الاستمرار في الحديث عن أزمة اللاجئين للمساومة بهذه الورقة، ليس فقط مع الأطراف الخارجية، بل أيضاً مع اللاجئين أنفسهم، والمقربين منهم في الداخل السوري، ليقول لهم “إنه دافع ويدافع عنهم، ولن يتخلى عنهم في سوريا الجديدة.
يرى البعض في كل كلمة أو جملة أو عبارة تصدر عن أي طرف تركي، حتى لو كانت صحيفة تافهة موالية لإردوغان، الكثير من التفاؤل في احتمالات المصالحة التركية – السورية، وهو ما رفضه إردوغان منذ ما يسمى بمسار أستانة، الذي جعل منه طرفاً أساسياً ورئيسياً في تطورات الأزمة السورية، داخلياً وخارجياً، وباعتراف روسي وإيراني مشترك.
كما كان إردوغان الطرف الأهم في مجمل حسابات الغرب الخاصة بسوريا منذ ما يسمى بـ”الربيع العربي”، وذلك بدعم من واشنطن والعواصم الغربية والأنظمة العربية المتواطئة مع الغرب، بل و”إسرائيل” أيضاً.
وكان هذا الدعم الغربي –العربي، والرضى الروسي -الإيراني كافياً بالنسبة إلى إردوغان ليستمر في سياساته المعروفة في سوريا، إذ هو يعتقد أن غالبية الشعب السوري معه، وهو ما يقوله ويكرره هو وزراؤه بين الحين والحين، معلنين أن “تركيا ترعى وتساعد 9 ملايين سوري، 4 ملايين منهم في تركيا و5 في سوريا”.
ويعرف هو جيداً أن كل المعادلات الإقليمية والدولية، بما فيها الحرب في أوكرانيا، والتوتر بين الصين وأميركا، واستمرار التآمر العربي – الإسرائيلي على سوريا، ومعها إيران، هي لمصلحته ومصلحة حساباته الخاصة في سوريا، وعبرها في العراق وليبيا والمنطقة العربية عموماً. فالمصالح المشتركة والمعقدة بين موسكو وأنقرة، والحسابات المختلفة بين طهران وأنقرة، ونجاح هذه الأخيرة في إسكات العواصم العربية ضدها بشأن سوريا، كانت وما زالت كافية بالنسبة إلى إردوغان حتى يستمر في موقفه المتعنت في سوريا، بعد أن نجح في تكتيكاته الذكية، إذ انتقل من موقع الدفاع إلى الهجوم.
فبعد أن كانت موسكو وطهران والآخرون يضغطون عليه للالتزام بتعهداته في اتفاقيات سوتشي وموسكو والقمم الإيرانية-الروسية-التركية، ووقف الدعم لـ”النصرة”، والانسحاب من الأراضي التي تسيطر عليها القوات التركية وتشكل 9% من مساحة سوريا، نجح إردوغان في تغيير هذه المعادلة لمصلحته، بعد أن هدد بالتوغل من جديد في الشمال السوري بذريعة ملاحقة الإرهابيين، والمقصود بهم وحدات حماية الشعب الكردية، الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني التركي.
فإذا بموسكو وطهران ومن معهما يطالبون إردوغان بعدم القيام بمثل هذا التوغل، بعد أن نسي أو تناسى الجميع ملف إدلب والعلاقة العضوية بين إردوغان والفصائل السورية المسلحة التي جمعها تحت راية ما يسمى بـ “الجيش الوطني السوري”، الذي تأسس في أنقرة في أيلول/سبتمبر 2019. فلم يعد أحد في المنطقة وخارجها بما فيها روسيا وإيران والعواصم العربية يطالب إردوغان بسحب القوات التركية من سوريا (وهو الذي يؤكد دائماً التزامه باستقلال وسيادة ووحدة ترابها).
كما لم يعد أحد يتحدث عن الوجود الخطير لـ”النصرة” بعناصرها الأجنبية في إدلب، وتحوّل الوضع فيها إلى واقع عملي معترف به من الجميع بشكل مباشر أو غير مباشر. وكان كل ذلك كافياً بالنسبة إلى إردوغان، الذي نجح في إحكام سيطرته على المعارضة السياسية والمسلحة، و تغيير المعادلات في سوريا، ليقول إن “الرئيس بوتين يتوسل إليه للمصالحة مع الرئيس الأسد”. وهو ما يسوق له الإعلام التركي بين الحين والحين، وكأنه يريد أن يقول للخارج والداخل “إن الأسد استسلم له وقبل بشروطه للمصالحة، ولكنه هو الذي يرفض ذلك”.
ويهدف إردوغان من خلال هذا التسويق لإجبار دمشق على القبول بشروطه المسبقة، وأهمها الاعتراف لتركيا بالدور الريادي في مجمل التطورات في سوريا المستقبل، بما في ذلك صياغة الدستور الجديد.
وبمعنى آخر، لن ينسحب الجيش التركي وباقي الأجهزة التركية من الشمال السوري، والحل في إدلب سيكون وفق مزاج إردوغان، ومعالجة الوضع في شرق الفرات ستكون وفق الحسابات التركية، وأخيراً سيكون القول النهائي في أزمة اللاجئين السوريين لإردوغان فقط.
ويعرف الجميع أن إردوغان وضع من أجل اللاجئين وأجل الآخرين الموجودين في المناطق الشمالية العديد من الحسابات العقائدية، ولن يتخلى عنهم؛ لأن لذلك علاقة مباشرة بمجمل حساباته ومشاريعه ومخططاته القومية والدينية والاستراتيجية.
ويفسر ذلك تهرب إردوغان من أي حوار مباشر أو غير مباشر مع الرئيس الأسد، الذي لم يفعل أي شيء ضد تركيا، في الوقت الذي استنفر الرئيس التركي كل علاقاته ووساطاته للمصالحة مع الإمارات والسعودية و”إسرائيل”، وقريباً مصر، ومن دون أن يتذكر أنه هو الذي قال ما قاله عن زعامات هذه الدول التي هددها وتوعدها.
وهو الذي تراجع عن كل ما قاله سابقاً، وتخلى عن إخوان مصر وحماس (مؤقتاً) وصالحها، كما استعجل إقامة علاقات وطيدة مع الانقلابي عبد الفتاح البرهان، الذي أطاح حليفه العقائدي عمر البشير طالما أن الجميع ما زالوا ضد دمشق.
وشجعت مصالحات إردوغان هذه البعض على مزيد من التفاؤل حول احتمالات المصالحة مع الرئيس الأسد، وهو ما لا ولن يفعله إردوغان، إلا وفقاً لشروطه هو، وليس شروط دمشق، وحتى لا يقال عنه إنه استسلم للرئيس الأسد. وهو ما لا ولن يقبله خاصة في هذه المرحلة التي يستعد فيها للانتخابات التي ستقرر مصيره ومصير تركيا عموماً بدونه أو معه، طالما أنه ما زال مدعوماً من الجميع في الخارج، بما في ذلك واشنطن وموسكو.
فعلى سبيل المثال، في اليوم الذي تحدثت إحدى الصحف الموالية لإردوغان (وهي صحيفة تافهة) عن احتمالات إجراء اتصال هاتفي بين إردوغان والأسد بوساطة بوتين، خرج وزير الداخلية سليمان صويلو ليقول “إن الجيش التركي سيتوغل داخل الشمال السوري بأكمله بعمق 20-30-40 كم، ويقضي على الإرهابيين”، ومن دون أن يبالي بردود فعل الآخرين، ومن دون أن يتذكر الوزير صويلو بل والرئيس إردوغان أن سوريا، بدورها، ترى في “مسلحي النصرة في إدلب وجوارها إرهابيين”، وهي الحال بالنسبة إلى “الفصائل المدعومة من أنقرة والمنضوية تحت ما يسمى بالجيش الوطني السوري”، في الوقت الذي لا تحمي دمشق الميليشيات الكردية شرق الفرات، والتي تقول عنها أنقرة إنها إرهابية، وهي مدعومة من واشنطن وعواصم أوروبية حليفة لإردوغان داخل الحلف الأطلسي.
أما داخلياً، ومع استمرار الحديث عن أزمة اللاجئين السوريين، فيبدو أن إردوغان مرتاح لذلك لأنه يريد للأحزاب والقوى القومية والعنصرية التي تستغل أزمة اللاجئين أن تستمر في سياسات التصعيد هذه حتى تجذب أصوات الناخبين، وهو ما سينعكس سلباً على أصوات أحزاب المعارضة الرئيسية كحزب الشعب الجمهوري والحزب الجيد، المرشحين معاً للسلطة وفق استطلاعات الرأي الحالية القابلة للتغيير، وفقاً للتطورات اللاحقة بمفاجآتها المثيرة.
كما يخطط إردوغان من خلال الاستمرار في الحديث عن أزمة اللاجئين للمساومة بهذه الورقة، ليس فقط مع الأطراف الخارجية، بل أيضاً مع اللاجئين أنفسهم، والمقربين منهم في الداخل السوري ليقول لهم “إنه دافع ويدافع عنهم، ولن يتخلى عنهم في سوريا الجديدة، وهو مستمر في بناء المساكن لهم، وتأمين الخدمات كافة في جميع المناطق التي تسيطر عليها تركيا، وهو ما لا يفعله النظام”.
باختصار، ومع استمرار الموقف الروسي والإيراني والأميركي والعربي عموماً، فالأيام والأسابيع القليلة القادمة لا ولن تحمل معها أي مفاجآت لسوريا، التي عانى ويعاني شعبها الأمرّين منذ 11عاماً، والمسؤول الرئيسي هو الرئيس إردوغان، ولولاه وتدخله المباشر (باعتراف حمد بن جاسم وبايدن) لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه الآن، حيث ما زال الشخص الأهم إن لم نقل الوحيد “الذي بدونه لا ولن يكون الحل في سوريا ممكناً”، والقول هنا له شخصياً وباعتراف الأعداء والأصدقاء، وهم بانتظار المعجزة بل المعجزات!
المصدر: الميادين