بدأت المعلومات تتحدث عن سيناريوهات جديدة وفق مزاج الرئيس رجب طيب إردوغان، الذي يبدو واضحاً أنّه لن ينسحب من ليبيا كما هو لن ينسحب من سوريا إلا في إطار صفقة إقليمية.
قبل ألف ليلة وليلة وفي السابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 2019 وقّعت تركيا مع حكومة فايز السراج (لا يدري أحد أين هو الآن) اتفاقية ترسيم الحدود البحرية والتعاون العسكري والأمني بين البلدين، وأصبحت أنقرة بموجب هذه الاتفاقيات طرفاً مباشراً ورسمياً في أحداث ليبيا التي كانت جزءاً من الدولة العثمانية في الفترة الممتدة بين عامي 1551 و1911 عندما تخلت عنها لإيطاليا، وهي الآن حليف لتركيا في الأزمة الليبية. واستغل الرئيس إردوغان هذه الاتفاقيات فأرسل جيشه إلى ليبيا بعد أن تغنّى بأمجاد العثمانيين هناك، وقال “إننا مضطرون إلى الدفاع عن حقوق مليون من ذوي الأصول التركية الذين هم من بقايا الحكم العثماني هناك”، كما سبق له أن تغنى في بدايات “الربيع العربي” بأمجاد العثمانيين في الشرق العربي، حيث تحدث غير مرة عن خريطة الميثاق الوطني لعام 1920، وكان الشمال السوري والعراقي فيها جزءاً من تركيا.
وأذكر أنني وبعد الاتفاقية المذكورة كنت قد كتبت عدداً من المقالات عن الوضع الليبي وانعكاساته على المعادلات الإقليمية والدولية، ومنها المقال الذي نشر في 6-8-2020 وعنوانه “المعركة في ليبيا.. كيف انتصر إردوغان على السيسي وحلفائه” تحدثتُ فيه عن دور الجيش التركي في معارك طرابلس، وانتصار القوات الموالية لحكومة الوفاق على قوات حفتر بفضل الدعم والتدخل التركي المباشر، واستمر في نقل نحو 15 ألفاً من المرتزقة السوريين إلى ليبيا لدعم وترسيخ الوجود التركي هناك، ومن دون أن يبالي إردوغان بردود الفعل العربية والإقليمية والدولية، خصوصاً بعد أن انتُخب الدبيبة ذو الاستثمارات الضخمة في تركيا رئيساً لحكومة الوحدة الوطنية في شباط العام الماضي بدعم أميركي عبر المنسقة الدولية ستيفاني وليامز ذات التاريخ الاستخباري العريق، وهو ما تحدثتُ عنه في مقالي الأخير في 7-8-2022 بعنوان: “بوتين و إردوغان.. بعد سوريا ليبيا”.
وشهدت ليبيا منذ ذلك التاريخ تطورات مثيرة، أهمها الاشتباكات العنيفة بين القوات الموالية لفتحي باشاغا (من أصول عثمانية)، وهو رئيس مجلس الوزراء المنتخب من البرلمان (شباط/فبرير الماضي) المدعوم من خليفة حفتر والقوات الموالية لرئيس مجلس الوزراء عبد الحميد الدبيبة المعترف به دولياً، على الرغم من انتهاء ولايته بعد أن رفض إجراء الانتخابات في 24 من كانون الأول/ديسمبر العام الماضي. وتحدثت المعلومات عن تدخل تركي مباشر وبكل التقنيات العسكرية المتطورة بما فيها المسيرات التي أجبرت قوات باشاغا على الانسحاب، كذلك انسحبت قوات حفتر المدعومة من مصر والإمارات في معارك ربيع 2020 من طرابلس والغرب الليبي عموماً وأصبح تحت سيطرة مختلف الفصائل الإسلامية، المعتدلة منها والمتطرفة والمدعومة من أنقرة.
ومع الهدوء النسبي الذي خيم على الوضع الليبي بعد معارك طرابلس الأخيرة، عادت الدبلوماسية إلى مساعيها من أجل التوصل إلى صيغة ما تساعد الجميع في التوصل إلى حل مقبول للأزمة الليبية، وهي ليست أقل تعقيداً من الأزمة السورية، والسبب في ذلك أيضاً إصرار الرئيس إردوغان على البقاء هناك ما دامت معطيات الواقع العربي لمصلحته وهو يستغل ذلك. ويثبت ذلك فشل القاهرة في كل مساعيها لتحقيق أي تفوق عسكري ودبلوماسي، بل ونفسي على أنقرة التي يبدو واضحاً أنها تساوم الرياض وأبو ظبي أيضاً في هذا الموضوع، وهي تعرف أن هاتين العاصمتين تتحالفان مع القاهرة، فيما تحظى بدورها بتحالف الدوحة ودعم نفسي من “تل أبيب”.
ويفسّر كل ذلك سكوت القاهرة والرياض وأبو ظبي عن أحداث طرابلس الأخيرة، في الوقت الذي استعجل فيه وزير الخارجية القطري محمد عبد الرحمن آل ثاني السفر إلى طرابلس الخميس (الأول من أيلول) ولقاء الدبيبة، الذي توجه بعد ذلك بيوم إلى إسطنبول والتقى الرئيس إردوغان في جلسة مطوّلة بحضور القيادات العسكرية والاستخبارية، في الوقت الذي بدأت المعلومات تتحدث عن سيناريوهات جديدة وفق مزاج الرئيس إردوغان، الذي يبدو واضحاً أنه لن ينسحب من ليبيا كما هو لن ينسحب من سوريا إلا في إطار صفقة إقليمية ودولية تضمن له أولاً البقاء في السلطة في تركيا، وثانياً تحقّق لتركيا الأهداف التكتيكية والاستراتيجية بعد انتكاسات الإسلام السياسي الذي عقد إردوغان عليه آمالاً كبيرة على طريق إحياء ذكريات السلطنة والخلافة العثمانية بشقّيها الغربي (ليبيا وتونس) والشرقي (سوريا والعراق)، بعد أن بايعه إخوان مصر.
وعودة إلى حساباته الخاصة فيما يتعلق بضمان بقائه في السلطة بعد الانتخابات المقبلة، تتحدث المعلومات عن مساومات معقدة بين أنقرة وأبو ظبي، اللتين تبادلتا في الفترة الماضية الاتصالات المكثفة والزيارات بين محمد بن زايد (24 تشرين الثاني/نوفمبر 2021) وإردوغان (14 شباط/فبراير 2022)، واضطر بعد ذلك زعيم المافيا سادات باكار المقيم في دبي إلى التوقف عن بث فيديوهاته عبر حسابه على اليوتيوب، وكان ما لا يقل عن 25 مليون مواطن يشاهدونها يومياً. وكان باكار يتحدث في هذه الفيديوهات عن تورط المقربين إلى إردوغان، ومنهم وزير الداخلية سليمان صويلو، ونجل رئيس مجلس الوزراء السابق بن علي يلدرم، ومستشار إردوغان للشؤون الأمنية محمد آغار في قضايا فساد خطرة جداً، بما فيها تهريب المخدرات بل تنفيذ الاغتيالات الغامضة.
وبعد غياب دام أشهراً عاد باكار إلى أحاديثه عن قصص الفساد الخطرة، وهذه المرة ليس على اليوتيوب أي بالصوت والصورة بل عبر حسابه على التويتر مهدّداً بالحديث عن قصص أخطر مع اقتراب موعد الانتخابات في أيار/مايو المقبل.
وتوقعت أوساط المعارضة أن تستهدف تهديدات باكار هذه الرئيس إردوغان مباشرة، لأنه كان مقرّباً إليه ويعرف كثيراً عنه، بما في ذلك سياساته في سوريا وليبيا، وهو ما تحدث عنه سابقاً باختصار وعلى نحو خاص نقل الأسلحة إلى الجماعات الإرهابية في سوريا وهو ما فعله باكار شخصياً.
والسؤال هو، هل يفكر حكام أبو ظبي في استخدام سادات باكار ورقة ضغط على الرئيس إردوغان لإجباره على الانسحاب من ليبيا وسوريا، بل والانسحاب من الصومال، حيث المنافسة التركية-الإماراتية هناك أيضاً، أم أن الجميع سيستمر في التمثيل في المسرحية الأميركية التي يبدو واضحاً أنها لا تتضمّن أي فقرة لإنهاء الأزمة الليبية، كما هي الحال في سوريا ما دام لروسيا دور فيها أيضاً.
المصدر: الميادين