تقول الدول الغربية التي أشرفت على الاتفاقية التي أدت إلى تقسيم السودان، إنها “حزينة لعدم تحقّق وعود السلام والازدهار”، فيما الحقيقة أن ما وصل إليه جنوب السودان كان منتظراً.
في وقت يركّز العالم أنظاره على الحرب الروسية الأوكرانية، هناك أكثر من 11 مليون إنسان في دولة جنوب السودان على موعد جديد مع أزمة ناجمة عن نقص الغذاء. وفيما يبدو فإن مصطلح “المجاعة” لم يعد بغريب على هذا البلد غير الساحلي الذي انقسم عن السودان في تموز/يوليو عام 2011، فيما كان العرب مشغولين بـ”ربيعهم”، وأصبح يملك عاصمةً مستقلة خلافاً للخرطوم هي جوبا.
تطلق الأمم المتحدة تحذيرات ونداءات منذ أشهر بأنّ ملايين المواطنين واللاجئين في جنوب السودان مهددون بالجوع الشديد، وذلك حالما يصل موسم جفاف إلى مداه، حيث تحدث ندرة في الغذاء ويصبح المخزون عاجزاً عن سد الحاجات، فيكون عدد الجوعى مرشحاً لأن يتخطى المستويات التي سجّلت في أثناء النزاعات التي وقعت في ذروة الحرب الأهلية خلال العقد الماضي.
المشكلة الكبرى أن تحذيرات الهيئات الأممية تكرّرت كثيراً على مدار العام الجاري والأعوام الفائته، لكنّ العالم يُغمض عينيه عما يجري، ويترك هذا البلد يواجه أزمته، التي هي نتاج مزيج من العوامل البيئية والبشرية، تتمثل الأولى في الفيضانات والجفاف، أما الثانية فهي نتاج الصراعات المسلحة التي لا تنتهي بين المكوّنات التي تشكّل نسيج هذا البلاد.
وكانت دولة جنوب السودان قد دخلت في حرب أهلية طاحنة فور إعلانها الاستقلال عن السودان قبل نحو 11 عاماً، تشابكت الأسباب التي أدّت إلى الحرب، لكن صُلبها هو التنافس على السلطة بين الرئيس ونائبه، وامتداده إلى “صراع عرقي”، وقتال بين قبائل (الدينكا) و(النوير) على كعكة الحكم، وقد خلّفت الحرب حتى عام 2018 نحو 400 ألف قتيل، فضلاً عن فرار مليون ونصف مواطن إلى الدول المجاورة (السودان وأوغندا)، فيما نزح مليونان داخلياً.
أزمة الحرب الأهلية في جنوب السودان أنها لا تعرف كلمة “النهاية”، وكلما وقّعت اتفاقية سلام أو معاهدة لوقف إطلاق النار نقضها أحد الأطراف، فحتى أيلول/سبتمبر الماضي كانت الأمم المتحدة تعلن سقوط أكثر من 170 قتيلاً وحدوث العشرات من حالات الخطف والعنف الجسدي للفتيات، بسبب القتال الدائر بين القوات الموالية للرئيس سيلفا كير والموالين لنائب الرئيس رياك مشار، وقدّر المركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية أن ما يقارب 75 في المئة من البلاد غرقت في العنف عام 2021.
وكانت الهيئات الدولية قد رعت اتفاقاً للسلام قبل 4 أعوام، ينص على تقاسم السلطة داخل الحكومة حيث يكون كير رئيساً لها ومشار نائباً له، لكنّ الاتفاق ظلّ غير مطبّق، تاركاً البلاد في حال من انعدام الأمن والفوضى، وظلّت الحرب سارية، وعجزت الحكومة عن مهمتها في توحيد راية الفصائل العسكرية المختلفة.
جنوب السودان بين الماضي والحاضر
يتكون سكان جنوب السودان على الغالب من الشعوب النيلية، وهو يضم عدداً من القبائل، الكبرى بينها عدداً الدينكا، ويليها النوير، ثم قبائل أخرى مثل الباري والزاندي والشلك، ويعتنق معظمها المسيحية أو الديانات المختلفة للسكان الأصليين.
في فترة الاحتلال البريطاني، شُجّع المبشّرون على بدء المدارس في جنوب السودان، وقد أدى هذا إلى انتشار المذهب الكاثوليكي على خلاف المسيحية الأرثوذوكسية المتوطنة سواء في مصر أو إثيوبيا.
كان للسياسة الاستعمارية في السودان تاريخ طويل في العمل لتنمية الشمال الذي يغلب عليه الطابع العربي، وتجاهل الجنوب، ما جعله يفتقر إلى المدارس والمستشفيات والطرق والجسور والبنية التحتية الأساسية. بعد الاستقلال استمرت السياسات نفسها إلى حدٍ ما حيث أهملت المناطق الجنوبية.
لم تكن سياسات الحكومة متعمَّدة بالضرورة، فقد كانت امتداداً للنمط الذي ترسّخ طوال عقود، كما أن عادة الحكومات، في ظل فقر الموارد، الاهتمام بالعاصمة والمدن الكبرى الأقرب إلى حركات التجارة والأكثر اتصالاً بمسارات التحديث، وإهمال باقي المناطق، التي تكون في حكم النائية، ويشكو أبناؤها التهميش.
في مناخ عام يغلب عليه الفقر والتأخّر والفساد وقلة الحيلة، كانت البلاد عاجزة عن بناء مشروعها الوطني الحديث الذي يستطيع أن يضم أبناء البلد في سبيكة واحدة، ويمحو الولاءات الطائفية والعرقية والمناطقية لمصلحة ولاء مشترك إلى الوطن، أدى غياب المشروع إلى سقوط البلاد في حربين أهليتين (الأولى من 1955 إلى 1972، والثانية من 1983 إلى 2005)، أسفرت عن مئات الآلاف من القتلى.
تعززت الحرب بفعل 5 عوامل:
الأول: وصول بعض الأصوليين إلى الحكم في الخرطوم وسعيهم لتعميم أفكارهم الخاصة على أهل الجنوب بالقوة.
الثاني: التدخلات الخارجية التي شجعت المعترضين على حمل السلاح والدعوة إلى الانفصال كحل نهائي للأزمة.
الثالث: طبيعة البلاد القبلية غير الحداثية وسهولة دخول السلاح.
رابعاً: بعض النخب الجنوبية التي شعرت بأن روابطها الثقافية والدينية بالعالم الأوروبي أكبر من روابطها بالشمال العربي، وتجلى هذا في بدء الحرب الأهلية الأولى.
خامساً: الصراع على الموارد الطبيعية وحقول نفط.
انتهت الحروب بين حكومة الخرطوم و”الحركة الشعبية لتحرير السودان” التي قادت القتال في الجنوب، بتوقيع اتفاقية سلام عام 2005، تمنح الجنوب حكماً ذاتياً لمدة 6 أعوام، يتلوها استفتاء، أدّت نتائجه إلى استقلال الجنوب، وإعلان دولة جديدة، على النحو الذي جعلها أحدث دولة معترف بها في العالم، وفي حين صنّفت معظم اللغات الأصلية التي يتخطي عددها الـ60 لغات وطنية، أصبحت الإنكليزية، التي دخلت البلاد في الحقبة الاستعمارية، هي لغة البلاد الرسمية.
معاناة جنوب السودان مستمرة بعد “الاستقلال”
خرج الجنوب منهكاً بفعل حروب استمرت نحو 60 عاماً، وفي بلد يخلو من النشاط الصناعي الحديث تقريباً، كان القطاع الزراعي هو الأكثر تضرراً، إذ أجبر العنف كثيراً من المزارعين على الفرار والتخلي عن أراضيهم. لكن هذا القطاع بدوره، كان يعتمد على “زراعة الكفاف”، أي أن يقوم المزارعون بزراعة المحاصيل الغذائية لتلبية احتياجاتهم واحتياجات أسرهم فقط، وهذا ما جعل البلد يعتمد على النفط في 98 في المئة من دخله، بينما تأتي الزراعة في المرتبة الثانية، بمشكلات ضخمة، إذ إنه وبحسب منظمة الأغذية والزراعة، فإن دولة جنوب السودان تستغل أقل من 6% من الأراضي الصالحة لهذا الغرض.
وفقاً لتقارير المنظمات الدولية، فإن الملايين من مواطني جنوب السودان عاجزون في الوقت الحالي عن الحصول على ما يكفي من الغذاء لإطعام أنفسهم أو أسرهم، وأصبحت الدولة الوليدة، التي كانت تحتفل في يوليو/تموز الماضي بمضي 11 عاماً على استقلالها، من أكبر بلدان العالم التي تتلقى المعونات الإنسانية، وتعثّرت عجلة التنمية تعثراً كبيراً.
وصل معدل الفقر في جنوب السودان خلال السنوات الأخيرة إلى 67.3 في المئة، حيث يعيش أكثر من 6 ملايين من سكان البلاد البالغ تعدادهم نحو 11 مليون نسمة بأقل من دولارين في اليوم، كما يُقدر أن أكثر من ثلثي سكان جنوب السودان في أمس الحاجة إلى المساعدة الإنسانية.
ومن المرجح أن يستمر الاقتصاد في تسجيل معدلات نمو سالبة، والسبب يعود إلى تراجع إنتاج النفط الذي يشكل المورد الرئيس لاقتصاد البلاد.
وتسود حال من الإحباط بين الشباب والشيوخ في ولايات جنوب السودان العشر، حيث يشكو الناس جراء حال عدم الاستقرار واستمرار الحرب الأهلية المرّة، إضافة إلى عجز الحكومة عن استخدام الموارد بالطريقة المناسبة وانتشار الفساد.
أما على مستوى التعليم، فهناك 27% فقط من السكان، يستطيعون القراءة والكتابة، معظمهم من الذكور، ما يجعلها واحدة من أكثر الدول احتضاناً للأمية في العالم.
“الدواء الغربي” كان حنظلاً!
تقول الدول الغربية المشرفة على اتفاقية الحكم الذاتي التي أدت إلى تقسيم السودان، إنها “تحزن لعدم تحقق وعود السلام والازدهار التي قطعت عند الاستقلال”، فيما الحقيقة أن ما وصل إليه الجنوب كان منتظراً، في ظل فقر الموارد واستمرار تدهور البنية الاجتماعية وغياب مسارات التنمية.
فأبناء جنوب السودان لم يتخلصوا من معاناتهم طوال الـ11 عاماً الماضية، حتى نار الحروب لم تنطفئ، الفرق الوحيد أن الاقتتال صار داخلياً بين أبناء الجنوب، بعد أن كانوا يخوضونه مع الجيش السوداني. لكن المتأمّل لأوضاع الجنوب طوال النصف الثاني من القرن العشرين، كان عليه أن يتوقع ببساطة نشوب حرب بين قبائل الجنوب نفسها، ففي الحرب الأهلية الأولى والثانية كانت الاشتباكات تندلع بين القبائل نفسها تبعاً للولاءات السياسية والمصالح، إضافة إلى ذلك فإنه في ضوء ضعف وفساد الأجهزة الأمنية وغياب البنية الحديثة للمجتمع، وهي أمور متوفرة في جنوب السودان، تكون أمور القبائل مرشحة بسهولة للانفلات والميل إلى تحقيق مصالحها الخاصة باللجوء إلى العنف.
بحسب تقرير نشر العام الماضي في مجلة “فورين بوليسي”، فإن انفصال الجنوب ما كان ليحدث لولا الدعم الذي قدمه الساسة الأميركيون، ويتقدّمهم جورج بوش الابن، هذه النخبة هي التي أنجزت اتفاقية السلام بين حكومة الخرطوم ومقاتلي جنوب السودان.
ما يؤسف له، أن وسائل الإعلام اليوم لم تعد تخصّص الوقت الكافي من نشراتها الإخبارية، لتغطية أخبار جنوب السودان، كما حدث طوال عقود، حينما كان يروّج “الانفصال” باعتباره الحل النهائي لمشكلات سكان الجنوب.. نأسف لذلك لأنه ربما نحن جميعاً في حاجة إلى تأمل حجم “الإنجاز” الأميركي في جنوب السودان، وحجم ما “تنجزه” الحكومات التي يضع البيت الأبيض فيها ثقته.
المصدر: موقع أنصار الله