الموقف التركي كان من المواقف التي يُبنى عليها في الحرب الأوكرانية الروسية نظراً إلى أهمية موقع أنقرة الجيوستراتيجي وعلاقاتها بين البلدين.
على قاعدة أن تركيا مؤيدة لأوكرانيا من دون أن تكون معادية لروسيا، حافظ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على علاقات منتظمة بكل من الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والأوكراني فولوديمير زيلينسكي منذ الرابع والعشرين من شهر شباط / فبراير الفائت، تاريخ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
كان الموقف التركي من المواقف التي يُبنى عليها في هذه الحرب، نظراً إلى أهمية موقع تركيا الجيوستراتيجي بداية، ولعلاقاتها بأوكرانيا التي أخذت تتعزز، تحديداً بعد ضم القرم إلى روسيا في العام 2014 ثانياً، فضلاً عن العلاقات الروسية-التركية التي تنحو باتجاه التعاون لا المنافسة ثالثاً.
فقد رأينا تركيا تستضيف في الأيام الأولى للحرب، أي حتى قبل انقضاء شهر على العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، جولات من المفاوضات في كل من إسطنبول وأنطاليا، تعثرت جميعها، وكان ذلك متوقعاً، إذ إن التطورات الميدانية لم تكن قد أخذت مداها بعد، ولم يحقق أي من الأطراف المعنية أهدافه. ولعلّ أوضح مثال أن الكلمة الفصل كانت لا تزال للميدان لا للدبلوماسية، كان مقتل عضو الوفد الأوكراني المفاوض، دينيس كيريف، في ظروف غامضة في قلب العاصمة الأوكرانية كييف.
علاقة تركيا بكل من روسيا وأوكرانيا
لا شك في أن هناك ساحات نفوذ مشتركة بين كل من تركيا وروسيا، تمتد من آسيا الوسطى، مروراً بالشرق الأوسط ودول القوقاز، وصولاً إلى دول البلقان.
وبالرغم من تضارب المصالح في أحيانٍ كثيرة بين هذين البلدين، ساهمت الحرب الروسية-الأوكرانية في تمتين العلاقات السياسية كما الاقتصادية، فالتواصل بين الرئيسين الروسي والتركي لم يتوقف. كما نأت تركيا بنفسها عن حرب العقوبات الشاملة التي خاضها الغرب بدوله في وجه موسكو.
في نظرة سريعة على الأرقام التركية الرسمية، نرى أن صادرات تركيا إلى روسيا قفزت إلى 929.78 مليون دولار أميركي في أيلول / سبتمبر الماضي في حين كانت قبل شهر فقط أي في آب / أغسطس، 735.09 مليون دولار أميركي.
هذا فضلاً عن تدفق الروس إلى تركيا بعد محاصرتها ومواطنيها وتحديداً أصحاب الأموال منهم، حتى وصل عددهم إلى ثلاثة ملايين حتى الشهر الثامن من هذا العام، فاحتلوا المرتبة الثانية بزيارتهم تركيا بعد الألمان.
كذلك العلاقات الاقتصادية الآخذة بالتحسن لم تتوقف عند هذا الحد، فإلى جانب الحديث عن أن أنقرة طلبت تأجيل مدفوعاتها من الطاقة الروسية حتى عام 2024، كان الاقتراح الروسي بجعل تركيا التي أمنت 45% من احتياجاتها لهذا العام من الطاقة الروسية مركزاً لبيع غازها إلى السوق الأوروبية.
على المقلب الآخر، سعت تركيا للمحافظة على علاقات دفاعية وتجارية متينة مع كييف التي كانت الأخيرة بأمسّ الحاجة إليها.
ومن هنا رأينا تزويد تركيا لأوكرانيا بأسلحة حيوية، كمسيّرات “بيرقدار” ذائعة الصيت، إضافة إلى ناقلات جند مدرعة من طراز “كيربي” أو “القنفذ” وطراد ميلغيم من فئة “آدا”، وهو بمنزلة سعي عملي لزيادة القدرات الأوكرانية البحرية القتالية بمساعدة تركيا.
أما الأهم من العون العسكري وهو متوافر لكييف، التي تحوّلت إلى مستودع للأسلحة الغربية التي تنهال من كل حدب وصوب، كان اتفاق الحبوب (أو مبادرة البحر الأسود) الذي يعدّ بمنزلة إنجاز دبلوماسي خالص لتركيا وتجاري جيدٍ لأوكرانيا، إذ سمح بتصدير القمح الأوكراني من جديد إلى العالم.
مؤشرات يبنى عليها لمفاوضات ما
لكل تحرك تركي بعدان داخلي وخارجي. ويأتي البعد الداخلي هنا من نقطتين لا بد من الوقوف عندهما، هما: أولاً، ميل الشعب التركي إلى الموقف الوسطي الذي تنتهجه تركيا، ما يعزز بالتالي الرضى عن الرئيس أردوغان. وثانياً، وقوف الرئيس الروسي إلى جانب أردوغان لإعادة انتخابه في عام 2023، وهذا ليس حال الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة ورئيسها جو بايدن.
أما خارجياً فهناك أكثر من مؤشر:
أولاً: ما قاله المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالين، في برنامج تلفزيوني عن سعي أنقرة لاتفاق سلام شامل، أو البحث عن حلول جزئية كوقف إطلاق النار هنا، ووقف تصعيد هناك، إضافة إلى صفقات جديدة لتبادل الأسرى.
ثانياً: تمديد اتفاق الحبوب أربعة أشهر إضافية، وهو ما شكرت واشنطن عليه أنقرة خلال لقاء الـ 15 دقيقة بين الرئيسين الأميركي والتركي على هامش قمة مجموعة العشرين في بالي، وقول الرئيس رجب طيب أردوغان بأنه سيسعى إلى نقل الحبوب الروسية إلى الدول النامية والفقيرة.
ثالثاً: سرعة التحقيقات بخصوص هوية الصاروخ الذي سقط في الأراضي البولندية، ففي حين أصر الرئيس الأوكراني على أن روسيا هي من أطلقت الصاروخ، في محاولة للدفع باتجاه تفعيل المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي، مع ما قد يعني ذلك من نقل الحرب، إلى مستوى آخر أكثر حدة وغموضاً، أكد أكثر من مسؤول غربي (أميركي وبولندي وأطلسي) بأن الصاروخ كان أوكراني الهوية. ولعل الرئيس التركي هو أول من أعلن ثقته بالنفي الروسي لناحية ضلوعه في هذه الحادثة. بينما نقلت صحيفة “الفايننشال تايمز” عن دبلوماسي إحدى دول “الناتو” في كييف قوله إن تعليقات الأوكرانيين تعد أمراً سخيفاً ما يبدد الثقة بهم، لأنهم يكذبون علانية ولهذا أثر مدمر أكثر من الصاروخ.
رابعاً، وربما الأهم، استضافة أنقرة لاجتماع بين رئيسي الاستخبارات الأميركية والروسية. وبصرف النظر عن المعلومات الشحيحة التي خرجت إلى الإعلام، وهي في معظمها تتعلق بخطر استخدام السلاح النووي على الاستقرار العالمي، فإن اللقاء كأول اتصالٍ علني بين الدولتين المعنيتين بالحرب الأوكرانية مهم بحدّ ذاته. وهنا، نضيف أيضاً ما ذكرته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية أن مستشار الأمن القومي الأميركي، جاك سوليفان، أجرى محادثات سرية مع كبار مساعدي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
بناء على ما سبق، تتقدم المؤشرات الإيجابية برعاية تركيا لناحية خفض الجنوح إلى حرب أوسع نطاقاً على ما عاداها. لن يتم استخدام النووي من أي من أطراف الحرب الأوكرانية، تـأكيد نقله رئيس الاستخبارات التركية للرئيس أردوغان الذي تبقى بلاده الطرف الأكثر ديناميكية للوصول إلى صيغة حلحلة ما، والوسيط الذي لا غنى عنه بين روسيا والغرب.
المصدر: الميادين