قد يحدث الاجتماع بين بايدن والمسؤولين العرب، وقد يعلن أسماء كيانات جديدة في المنطقة، ولكنَّ فكرة “ناتو شرق أوسطي” ستولد ميتة. وهو ملف أمامه تحديات كبيرة ستحتّم فشله عاجلاً أم آجلاً.
زيارة بايدن.. مصالح أميركا ومستقبل الكيان على حساب أمن المنطقة وحقوقنا المشروعة
تقوم رؤية بايدن على دمج الكيان الصهيوني في الإقليم وشرعنة وجوده من دون حلّ الصراع
بدأ الرئيس الأميركي جو بايدن بزيارة المنطقة، واستهلَّها بزيارة فلسطين المحتلة، ولقاء القيادة الصهيونية، ومن ثم سيختمها (زيارة فلسطين) بلقاء مجاملة مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس في بيت لحم.
بعد ذلك، سينطلق في زيارة المملكة العربية السعودية. وللأسف الشديد، ستكون عبر طيران مباشر من “تل أبيب” إلى الرياض، وفق تصريح الرئيس الأميركي لصحيفة “واشنطن بوست”، في إشارة إلى أهم أهداف الزيارة: “تطبيع” علاقات الكيان بمحيطه.
وسيختم بايدن الزيارة بمؤتمر جامع يلتقي فيه عدداً من قادة الدول العربية للإعلان عن تأسيس منتدى أمني جديد يجمع بين هذه الدول والكيان، برعاية أميركية، أَمَلاً بأن يشكّل هذا المنتدى “ناتو” شرق أوسطياً لتنسيق ردود الفعل تجاه أيّ تطورات أمنية في الإقليم، ويكون خطوة كبيرة على طريق دمج الكيان في المنطقة بشكل مؤسساتي على قواعد جديدة تشكل انقلاباً جذرياً على تاريخ المنطقة وقيمها.
يزور بايدن المنطقة محمّلاً بسنة ونصف سنة من سوء الإدارة في الداخل، قد تسبب له هزيمة مدوية في الانتخابات النصفية القادمة، وتخبّط في إدارة الشأن الدولي، ما قد يدفع العالم نحو حرب عالمية ثالثة. يأتي بايدن إلى المنطقة، ويحمل خطّة لتحقيق 3 أهداف أساسية:
أولاً: حلّ أزمة النفط العالمية التي بدأت تنعكس على الاقتصاد العالمي، بما فيه الاقتصاد الأميركي، غلاءً في الأسعار وتضخماً هو الأعلى منذ 40 سنة، ينبئ بركود اقتصادي عميق، فضلاً عن تداعيات ذلك السياسية والاجتماعية.
وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، من خلال رفع معدّل إنتاج النفط اليومي لخفض الأسعار وحرمان روسيا من عوائد ارتفاع أسعار النفط، تراجع بايدن عن الكثير من السياسات التي أعلنها في بداية ولايته، من التمسك بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وإعلاء شأن الحكم الرشيد.
ثانياً: إعادة هندسة المنطقة من جديد، بحسب الرؤية الأميركية، بما يسمح بدمج الكيان الصهيوني في الإقليم وشرعنة وجوده، من دون حلّ الصراع، وتقديمه، أي الكيان، للإقليم قائداً للحالة الأمنية والعسكرية، بإشراف أميركي في الظاهر، تعويضاً عن تراجع الوجود الأميركي في الإقليم لحساب التركيز على صراعات أخرى مع الصين وروسيا.
ثالثاً: شراء الهدوء الفلسطيني في مقابل زيارة مجاملة ووعود سياسية فارغة وبعض الدراهم (الكلام عن 200 مليون دولار أميركي والسماح بتفعيل نظام 4G في الاتصالات الفلسطينية).
لا يحمل بايدن في جعبته أيّ رؤية سياسية عملية لحلّ الصراع، حتى بحسب السياسة الأميركية المعتمدة منذ عقود، والقائمة على حل الدولتين ورفض الضمّ والاستيطان، بل إنَّ الإدارة الأميركية الحالية تبنت الرؤية نفسها التي سطرها الرئيس السابق دونالد ترامب في “صفقة القرن”، والتي تتحدَّث عن “السلام الاقتصادي”، بمعنى تحسين شروط الحياة في السجن الصهيوني المفتوح، وتعتبر إدارة بايدن ذلك خطوة متقدمة على الموقف الصهيوني الذي يعتمد اليوم بالإجماع استراتيجية “إدارة الصراع”، وليس حله.
في المقابل، وصل بايدن إلى الكيان، والتقى قيادته المؤقتة (رغم أن هذا مخالف لأعراف العلاقة بين الطرفين)، وحمل إليه استثمارات سياسية وآفاقاً اقتصادية ضخمة، بكسر الطوق المضروب عليه منذ عقود، استكمالاً للاستراتيجية التي دشنها ترامب الجمهوري عبر “الاتفاقيات الإبراهيمية”.
كلّ المؤشرات على المديين المتوسط والبعيد تشير إلى أنَّ بايدن سيفشل في تحقيق أيٍّ من أهدافه، ولن يستطيع إنقاذ نفسه وحزبه على المستوى الوطني، ولن يفلح في شرعنة هذا الكيان العنصري الفاشي أو دمجه في المنطقة، كما أنّه لن ينجز توافقاً إقليمياً مع سياساته، سواء على مستوى الموقف من الكيان أو من إيران أو في المواجهة مع روسيا والصين.
على المستوى الفلسطيني، قد تطيل هذه الإجراءات السطحية عمر سلطة أوسلو قليلاً، التي لم تكن يوماً في مثل هذا السوء والرفض الشعبي، ولكن هذه السلطة، وأساسها السياسي والقانوني “اتفاقية أوسلو”، استنفدت أغراضها، وقتلتها السياسات الصهيونية المدعومة أميركياً.
يعرف شعبنا بكلِّ قواه الحية حجم الدمار والتيه الذي جلبته لنا هذه الاتفاقيات، ولن يسمح باستمرار هذه المهزلة، وسيتمسك بحقوقه التاريخية، ويصر على تحقيق أحلامه بالحرية والاستقلال والعودة، مهما طال الزمن، وبكل السبل، وفي مقدمتها المقاومة المسلحة.
لقد قرأ شعبنا تاريخه وتجارب الشعوب جيداً، ومدّ يده للعدل والسلام المبني على الحقوق الأصيلة طويلاً، ولكنَّ هذه اليد قوبلت بعنصرية ووحشية غير مسبوقة، وللأسف بغطاء ودعم دوليين، وخصوصاً من الولايات المتحدة الأميركية.
بدأ شعبنا مقاومته المشروع الصهيوني قبل نشأة الكيان منذ أكثر من 100 عام، وهو جاهز للاستمرار في هذه المقاومة مدة 100 عام أخرى حتى زوال آخر صهيوني من أرضنا وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
أمّا محاولات تشكيل “ناتو” شرق أوسطي بهدف دمج الكيان في الإقليم وشرعنة وجوده، فهو تعبير عن سطحية التفكير الاستراتيجي وجهل بطبيعة المنطقة.
قد يحدث الاجتماع، وقد يعلن أسماء كيانات جديدة في المنطقة، ولكنَّ هذه الفكرة ستولد ميتة. هذا الترتيب الجديد أمامه تحديات كبيرة ستحتّم فشله عاجلاً أم آجلاً.
بالمناسبة، تَشكَّل في المنطقة أكثر من كيان سياسي واقتصادي على مدار العقود الماضية، وفشل في تحقيق أهدافه، رغم ما يمتلكه من مقومات النجاح الكبيرة، كالقرب الجغرافي ووحدة الأهداف والمشتركات التاريخية والدينية والثقافية.
ولعل من أهم أسباب ذلك الفشل أن هذه الكيانات لا تستند إلى إرادة شعبية حرة وتدافع عن مصالح أنظمة أو سياسات لا تنسجم مع تاريخ الأمّة وعقيدتها، فكيف بتحالف يقوم على تهديدات استراتيجية لبعض دول المنطقة من بعضها الآخر، وعلى تعريفٍ للكيانات في المنطقة وعلاقتها مع بعضها البعض يصطدم بسياقاتها التاريخية والجيوسياسية، ويتناقض مع هُويتها وذاكرتها!
شئنا أم أبينا، اتفقنا أم اختلفنا، فإنَّ دولاً مثل إيران وتركيا ستبقى دولاً مركزية في المنطقة، ساهمت طويلاً في صناعة تاريخها وهويتها، والمشترك بينها وبين دول المنطقة أكبر من أن تقوّضه مثل هذه المخططات.
هذا الكيان العنصري الفاشي، الذي ساهم بشكل مباشر في إضعاف المنطقة وتفكيكها، سيبقى غريباً على “DNA” الإقليم، ولن تتمكّن كلّ الأدوية المثبطة للمناعة من إجبار جسم الأمة على قبوله. وفي أول فرصة يستعيد فيها جسم الأمة عافيته، سيلفظه إلى غير رجعة.
المشكلة الحقيقية ليست في السياسة الأميركية، ولا في الطموحات الصهيونية، ولكنها مشكلة ذاتية في المنطقة ودولها، فكيف تعقد هذه الدول تحالفات مع كيان لم يدخر جهداً على مدار عقود لتفكيك المنطقة ودولها وإشعال نيران الفتنة بين شعوبها.
كيف ستسمح دول في الإقليم بوضع قواعد صهيونية على أراضيها لتهديد جيرانها العرب والمسلمين. البعض يثير مخاوف تجاه السياسات الإقليمية لبعض الدول، مثل إيران، ولكن في نهاية المطاف إيران دولة جارة ومقررة، وتجمعنا بها مصالح استراتيجية، ولن يغير ذلك مثل هذه التحالفات المصطنعة، بل إنها ستستنزف المنطقة وتهدر طاقاتها في معارك عبثية لن تحقق أهدافها، حتى لو طالت عقوداً من الزمن.
وهنا، لا بد من التذكير بأنَّ هذا الكيان الوظيفي، يعاني، بحسب خبرائه الأمنيين والاستراتيجيين، أمراضاً مستعصية داخلياً وتهديدات استراتيجية خارجياً. هذا الكيان يعيش استعصاءً سياسياً داخلياً، وهو غير قادر على إنتاج منظومة قيادية مستقرة، وسيُجري انتخاباته الخامسة في أقل من 4 سنوات، وتشير كل المؤشرات إلى أنها ستفضي إلى انتخابات سادسة.
هذا الكيان عاش أياماً صعبة لمجرد تحرّك الشعب الفلسطيني الأعزل في كلّ ساحاته ضد الاحتلال في معركة “سيف القدس” التاريخية. لقد فشل في حماية مدنه ومستوطناته من صواريخ المقاومة المحلية الصنع، رغم كل ما يمتلكه من تكنولوجيا متطورة. واليوم، يتحدث كل قادة الصف الأول فيه عن قرب زواله وفرص انهياره بسبب أزماته العميقة والمستعصية.
هل يقدر مثل هذا الكيان المصطنع، والمرتكز على أساسات هشة، والغريب على محيطه، على حماية الآخرين؟
الحلّ الوحيد لمنطقتنا هو الحوار الاستراتيجي بين كلّ مكوناتها للخروج برؤية للتوافق على توجيه بوصلة المنطقة نحو مستقبل أفضل عنوانه الوحدة والاستقلال والازدهار وتحرير فلسطين بعد تفكيك الكيان، ليس كمغتصب للأرض والحقوق الفلسطينية فقط، ولكن كعنصر تخريب وتدمير مستمرّ للمنطقة ومقدراتها أيضاً، وكمشروع وظيفي يشكل امتداداً للاستعمار الغربي للإقليم.
المهمة الثانية لقيادات المنطقة الحريصة على مستقبلها هي تشكيل تحالف سياسي صلب مناهض لهذا المشروع – مشروع هندسة المنطقة من جديد بما يخدم دمج الكيان ومصالحه الاستراتيجية – يرتكز على قوى الأمة الحية، دولاً وأحزاباً، فالولايات المتحدة وربيبتها “إسرائيل” لن تتراجعا عن مثل هذه المشاريع، ما لم تشعرا بأنهما تواجهان مقاومة صلبة ومتماسكة وممتدة على طول المنطقة وعرضها، تستنزف مقدراتهما، وتضع مصالحهما على المحك، والدروس على ذلك في التاريخ الحديث كثيرة، من فيتنام، مروراً بالصومال والعراق، وصولاً إلى أفغانستان.
وفي هذا السياق، إن هذا التحالف الإقليمي بين مكونات المنطقة يمكن تعزيزه بعلاقات مفتوحة واستراتيجية مع كل القوى الصاعدة دولياً، وفي مقدمتها روسيا والصين.
أما القيادة الرسمية الفلسطينية، وبعدما فشلت المرة تلو الأخرى في اتخاذ خطوات جدّية لإصلاح النظام السياسيّ الفلسطيني، حتى يكون معبراً عن إرادة الشعب وممثلاً للجميع، فما زالت تمارس القمار السياسي، مراهنةً على أطراف ثبت على الدوام أنها لا تولي حقوقنا المشروعة أيّ اهتمام، ولا تضعه في سلم أولوياتها.
على قوانا الحية، السياسية والمدنية، ألا تتأخر في تشكيل جبهة إنقاذ وطني لتصحيح المسار وإصلاح النظام بما يخدم مشروعنا الوطني الأصيل وتطلعات شعبنا العادلة.
إننا مطمئنون إلى عدالة قضيتنا وحتمية النصر والعودة وزوال هذا الكيان الوظيفي.
المصدر: الميادين