منذ احتلال القدس القديمة في حزيران/يونيو 1967، بدأت عملية الحفر تحت المسجد الأقصى وفي جواره بهدف خلق رابط أثري مع الخرافات والمزاعم بوجود آثار للهيكل الافتراضي.
منذ نهاية الحكم العثماني لفلسطين، وضعت الحركة الصهيونية نصب عينيها إقامة مدينة يهودية في القدس، بهدف خلق رابط روحي بين المستوطنين الأوروبيين اليهود وبين أرض فلسطين المستهدفة بالمشروع الاستيطاني.
كيف لا؟ والمشروع الاستيطاني لا يحتاج إلى محفزات مادية فقط، وإنما إلى محفزات روحية وعقائدية وعاطفية، وهذا ما ظهر جلياً في مداولات المؤتمر الصهيوني الأول، عندما وضعت على طاولة أصحاب المشروع الاستيطاني مناقشة اختيار البقعة الجغرافية لهذا المشروع، بين أوغندا أو الأرجنتين أو فلسطين، عندها فهم هرتسل أن فلسطين هي أكثر ما يشد اليهود إلى الاستيطان، فأطلق مقولته الشهيرة “لتنساني يميني إذا نسيتك يا أورشليم”.
مذّاك، وضعت القيادات الصهيونية القدس نصب عينيها، وما تزال، لكن ليس بالكلام وحده، بل بالعمل، وبالخطط بعيدة المدى وأخرى متواضعة وهادئة في الاتجاه الاستراتيجي، بالتعاون مع الدول الاستعمارية الداعمة للمشروع الصهيوني. فأين كان العرب والمسلمون طيلة قرن وربع من التخطيط والتنفيذ الصهيونيين للاستيلاء على القدس، قلب فلسطين؟
التدمير الممنهج للهوية القومية
اشترت مؤسسات الحركة الصهيونية الأراضي خارج أسوار البلدة القديمة، وبالتعاون مع الدول الاستعمارية، استطاعوا جميعاً أن يحصلوا على إذن من السلطات العثمانية بالبناء خارج الأسوار، ومع زوال الحكم العثماني واحتلال فلسطين على يد الجيش البريطاني، بدأت المستعمرة الجديدة تتسع أكثر فأكثر، حتى أصبحت عام 1948 مدينة بحد ذاتها، فيها كل مؤسسات المدينة العصرية، بما في ذلك المستشفيات والجامعات. وما إن احتلت العصابات الصهيونية مدينة “القدس الغربية”، حتى هجّرت أهلها الفلسطينيين وأعلنتها عاصمة لـ”الدولة” الصهيونية.
خلال حرب حزيران/يونيو 1967، استكملت الحركة الصهيونية احتلال القدس، بما في ذلك البلدة القديمة، في ظل تواطؤ دولي وتقصير عربي أو حتى تآمر من بعض الحكام.
بعد الحرب، تحولت القدس المحتلة إلى قلب العاصفة الاستيطانية للحركة الصهيونية، فصودرت الأراضي وأقيمت المستوطنات حول القدس واتسع الاستيطان في ما سمّي “القدس الجديدة” أو “الغربية”، وازداد الخناق على أهل المدينة الفلسطينيين، فمُنِعوا من البناء وحُرِموا من التطور الطبيعي حتى من بناء مدارس جديدة، وطرد من المدينة عشرات الآلاف بأساليب ناعمة أو خشنة، وفتحت لهم الأبواب للبحث عن عمل في الخارج وأغلقت الأبواب أمامهم عند رغبتهم في العودة إلى مدينتهم…إلخ من الإجراءات التي يعرفها الجميع.
هل حل السلام في مدينة السلام؟
ظن المقدسيون أن اتفاقيات “السلام” ستحمي حقوقهم وتحمي القدس من الوحش الاستيطاني، لكن النتيجة كانت عكسية. اتفاق أوسلو لم يحمِ القدس، ولا اتفاق وادي عربة، بل جعلا المحتل الإسرائيلي يسرع في خلق أمر واقع جديد أسوأ من الواقع الذي خلقه خلال العقود السابقة، إذ فهم المحتل أنه كلما خلق واقعاً جديداً تأقلم معه الحكام العرب وقبلوا به.
تضاعفت حملة بناء المستوطنات حول القدس، وتضاعف جهد سلطات الاحتلال في سحب هويات المقدسيين الفلسطينيين، واشتد الخناق على المؤسسات الفلسطينية السياسية والتعليمية والسياحية والاقتصادية حتى الثقافية منها إلى درجة إلغاء وجودها.
التهويد الديني للقدس
حتى اتفاق وادي عربة لم يحمِ حقوق المسلمين في الأقصى، فالممارسة الإسرائيلية للسيطرة على الأماكن المقدسة الإسلامية، بغياب رد فعل أردني، أو عربي أو إسلامي، سمح لها بتغيير ما يسمى “الستاتيكو”، وخلق واقع جديد. فالاتفاق لم يتضمن أي بند لإيقاف الحفريات تحت المسجد الأقصى، ولا أي ضمانات لاحترام حقوق المسلمين في إدارة أوقافهم بأنفسهم، إنما ترك كل شيء إلى الحل النهائي لقضية فلسطين.
الحفريات
منذ احتلال القدس القديمة في حزيران/يونيو 1967، بدأت عملية الحفر تحت المسجد الأقصى وفي جواره بهدف خلق رابط أثري مع الخرافات والمزاعم بوجود آثار للهيكل الافتراضي. لكنهم، وفق أكبر علماء الآثار اليهود وأهمهم، فنكلشتاين، لم يجدوا إلا آثاراً إسلامية وكنعانية. ومع ذلك، لا يتورع المستوطنون عن اختلاق تاريخ وهمي يروجون له من خلال طواقم إعلامية ودبلوماسية بتمويل صهيوني عالمي وتمويل حكومي إسرائيلي. ولم يعمل أي من الأنظمة العربية أو الإسلامية على وقف ذلك التدمير والتزييف للتاريخ القديم لمدينة القدس.
هذه الحفريات وإجراءات احتلالية أخرى، أدت إلى مواجهات عنيفة مع المقدسيين، لا سيما المرابطين المسلمين في الأقصى، كانت نتيجتها عشرات الشهداء ومئات الجرحى والمعتقلين. ولعلّ أهمها، مجزرة الأقصى الأولى في 2/12/1992 التي أدت إلى استشهاد 31 مصلياً وإصابة 152 بجروح مختلفة بعد محاولة مجموعة من المستوطنين وضع حجر الأساس لبناء الهيكل المزعوم، ومجزرة الأقصى الثانية، أو هبّة النفق، في 25/9/1996، راح ضحيتها 51 شهيداً وإصابة 222 فلسطينياً آخرين، بعدما فتحت قوات الاحتلال النار على المصلين في الأقصى، أولئك الذين هبّوا رافضين افتتاح النفق بالقرب من الجدار الغربي للأقصى.
أيضاً، اقتحام رئيس وزراء الاحتلال، أرييل شارون، المسجد الأقصى المبارك في 28 أيلول/سبتمبر 2000 بحماية جنود الاحتلال، ومعركة البوابات الإلكترونية 2015، ومعركة “سيف القدس” أيار/مايو 2021، وآخرها معركة مسيرة الأعلام الإسرائيلية 2022، وما زالت المواجهات مستمرة كل يوم.
الصراع على الطابع الديني للمدينة
بعد أن نامت “جامعة النعاج” ومعها الأمة العربية، ونجح المحتل الإسرائيلي في تدمير الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية للفلسطينيين في القدس، دخل الآن في مرحلة حاسمة لتدمير الطابع الإسلامي للمدينة المقدسة، وذلك من خلال تعاظم الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من العقارات خارج البلدة القديمة وداخلها، إضافة إلى الاستيلاء على البوابات الرئيسية للبلدة القديمة. فبعد أن استولى الاحتلال، بالكامل، على باب المغاربة، أي البوابة الجنوبية، ومنها يدخل اليهود فقط إلى ساحة البراق، واستولى على باب الخليل بالتواطؤ مع البطريركية اليونانية، ومن يدعمها، حان الوقت، بموجب مخططهم، للاستيلاء على باب العمود، المدخل التجاري والديني الأهم للبلدة القديمة.
المعركة على بوابات القدس القديمة وبوابات الأقصى
أيضاً تسعى سلطات الاحتلال للسيطرة على بوابات الأقصى وإدخال المقتحمين اليهود من عدة بوابات، لتسهيل مهمة التقسيم الزماني والمكاني للأقصى، كما هي حال المسجد الإبراهيمي.
كل هذه الإجراءات حصلت ضمن منهج “حساب المخاطر” الذي تتبعه “إسرائيل” منذ نشوء الحركة الصهيونية إلى اليوم. تخطط، تستهدِف، تنفِّذ على مراحل، بهدوء وخبث، وحين تطمئن إلى انعدام رد فلسطيني أو عربي أو إسلامي، تتقدم لتحقيق الهدف المنشود، وتعمل لاحقاً للحفاظ على هذا الإنجاز بشتى الوسائل.
وفي مراجعة بسيطة، يثبت التاريخ أنه كلما نجحت في تحقيق هدف من أهدافها، وجعلته أمراً واقعاً، ازدادت شهيتها لتحقيق أهداف أخرى. هذه هي طبيعة الحركة الصهيونية ونهجها الخبيث.
وفي مراجعة بسيطة أخرى للتاريخ منذ عام 1948 وحتى اليوم، يمكن القول، إن “إسرائيل” والحركة الصهيونية عموماً، لم تحقق أي إنجاز سياسي، أو حتى عسكري بقواها الذاتية، وإنما بقوة عاملين إضافيين أولهما، دعم استعماري مطلق، وثانيهما خيانة عربية من نظام أو حاكم خائن.
في المراجعة ذاتها، علينا أن نلاحظ، أنه كلما راهنوا على يأس الفلسطيني بعد حصار دولي وعربي، خرج الشعب الفلسطيني بقواه الذاتية ليجدد العهد وليعلن عزمه على نيل حقوقه، بإيمان وثقة، واستعداد للتضحية مهما بلغت التضحيات. هذان الاستنتاجان يجب أن يبقيا مصباحين يُضيئان الطريق عندما تَدْلَهِمّ الأجواء وتبدو الرؤية مشوشة.
هذا التدمير للحياة الدينية الإسلامية والمسيحية للقدس لم يبدأ اليوم، وإنما شهد تصعيداً كبيراً في السنوات الأخيرة، من خلال الاقتحامات الأسبوعية للحرم القدسي الشريف.
بدأت هذه الاقتحامات بشخص أو اثنين بذريعة الحق في السياحة للجميع، مع إخفاء طاقية المتدين (الكيباه)، ثم تحول إلى مجموعة من السياح اليهود، ثم مجموعات متدينة علناً، من دون السماح لهم بالصلاة، حتى أصبح الاقتحام أسبوعياً وأحياناً أكثر مع صلوات يهودية، ومظاهر تقاسم زمني للمكان بين المقتحمين اليهود، وبين المصلين المسلمين، في وقت يتم دعم المقتحمين بقوات كبيرة من الشرطة وحرس الحدود والقوات الخاصة والمخابرات على شكل مستعربين مدربين، حتى أصبحت هذه الاقتحامات إجراءً عادياً يطمح المستوطنون أن يعتاد عليه المسلمون ويصبح أمراً واقعاً، ويكتفي المسؤولون العرب والمسلمون بالاستنكار وتسجيل عدد المقتحمين وعدد الاقتحامات، من دون أن تتحرك السلطات الأردنية أو الفلسطينية، ومن دون رد عربي أو إسلامي، جدي وحازم، لمنع ذلك، بل على العكس، ازداد التقارب بين بعض الأنظمة الخليجية (العربية الإسلامية) و”إسرائيل”، كذلك ازداد التقارب بين ملك المغرب، رئيس لجنة القدس الإسلامية، والمحتل الإسرائيلي.
أما عن المسيحيين الفلسطينيين، باستثناء المسيحيين المقدسيين، فهم ممنوعون من الصلاة طيلة أيام السنة في كنيسة القيامة إلا بموجب تصريح من سلطات الاحتلال الإسرائيلي. أما في سبت النور، وهو أعظم الأيام الدينية في المسيحية، فممنوع على المسيحيين الفلسطينيين عامة الوصول إلى الكنيسة باستثناء حاملي بطاقة يحصلون عليها مسبقاً بعد التنسيق بين سلطتي الاحتلال اليوناني والإسرائيلي، بذريعة إتاحة المجال للحجاج الأجانب بالمشاركة في طقس تدفق النور من القبر المقدس.
أما هذه السنة، وبسبب جائحة كورونا، فقد ظن المسيحيون الفلسطينيون أن بإمكانهم المشاركة في طقوس سبت النور لعدم وجود سياحة أجنبية، إلا أنهم مُنعوا من ذلك باستخدام القوة المفرطة من قبل شرطة الاحتلال الإسرائيلي والقوات الخاصة التابعة لها، وبالتنسيق المسبق بين سلطتي الاحتلال أيضاً.
أخيراً….
إضافة إلى الهجمة الصهيونية على الأماكن المقدسة للمسلمين، في ظل صمت عربي وإسلامي، يراقبه الإسرائيليون من كثب، أعلنت سلطات الاحتلال عن حملة لتسوية ملكية الأراضي في القدس العربية، بعد أن كانت عام 2010 قد أعلنت سريان مفعول قانون أملاك الغائبين على القدس العربية التي احتلت عام 1967.
بموجب هذا القانون والحملة، يتم إخراج المقدسيين من أراضيهم ومنازلهم ما لم تكن لديهم ملكية مسجلة على العقار. ثم، عرض هذه العقارات على اليهود لشرائها وتسجيلها ملكاً لهم في الطابو الإسرائيلي.
مع بداية السنة الدراسية الحالية، أعلنت سلطات الاحتلال تغيير المناهج الدراسية في المدارس العربية في القدس من مناهج أردنية وفلسطينية إلى مناهج إسرائيلية، تعزز من خلالها الرواية التوراتية المزيفة لتاريخ القدس وانتمائها العربي، الإسلامي والمسيحي.
يشكل المنهاج الجديد محاولة لهندسة الوعي والهوية الفلسطينيين لمصلحة الرواية الصهيونية، وهو في نظر المفكرين الصهاينة آخر حلقات المخطط الصهيوني. في مشروع ما يسمى “مشروع انتصار إسرائيل”.
ويشمل “مشروع انتصار إسرائيل” الذي يقوم عليه ويديره معهد منتدى الشرق الأوسط في واشنطن، تطبيعاً وتعاوناً بين العالم العربي والإسلامي و”إسرائيل”، وخلق قوى فلسطينية متنفذة تتم تغذيتها بالمال والمصالح، وتسليحها لخدمة الاحتلال أمنياً.
كما يتضمن أسرلة الفلسطينيين في الداخل المحتل منذ عام 1948، وضمّهم إلى الحكومات الصهيونية في مقابل امتيازات مادية، من دون السماح لهم بالتدخل في القرارات الأمنية والسياسة الخارجية والقدس.
فهل تأسرل أو تصهين العرب والمسلمون أم ماتوا، أو ناموا نوم أهل الكهف؟!
المصدر: الميادين