من تعقيدات المحادثات النووية إلى توتر الأجواء في محطة زاباروجيا في أوكرانيا، يسير الصراع في العالم على إيقاع النووي؛ ما يدفع بهيئة دولية مثل الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى واجهة الأحداث.
على السكة الإيرانية، أعاد تشكيك الوكالة الدولية للطاقة الذرية في سلمية البرنامج النووي الإيراني عقارب الساعة إلى الوراء، وأثار رد الفعل الإيراني باتهام الوكالة بتسييس الملف. وعلى السكة الروسية، أثار تقرير الوكالة بشأن محطة زاباروجيا وباقي المنشآت النووية في أوكرانيا، والمكوّن من 52 صفحة والمنشور في موقع الوكالة، رد الفعل الروسي على التوصيات الواردة فيه، وعدم الإشارة إلى مصادر قصف محطة زاباروجيا.
لماذا استيقظت الوكالة على الشك في البرنامج الإيراني؟
مع الشعور العام في الآونة الأخيرة بتقدم المفاوضات النووية، لم يكن تشكيك الوكالة في سلمية البرنامج النووي الإيراني “حدثاً مفاجئاً” على المستوى السياسي فحسب، وإنما أيضاً على المستويين التقني والفني.
مثّل التشكيك في سلمية البرنامج مفاجأة تقنية، لأنه ببساطة لا يتسق مع مسار تعاون إيران ومرونتها مع الوكالة على امتداد السنوات الماضية، قبل توقيع الاتفاق، وحتى بعد الانسحاب الأميركي منه.
بين عامي 2013م و2017م، كانت بروتوكولات المراقبة التي قبلت بها إيران تتجاوز المعايير السائدة في مراقبة الوكالة لأي منشأة أخرى في أي بلد آخر؛ فعدد الكاميرات التي سمحت إيران بتنصيبها في منصاتها ازداد بنسبة 89%، وعدد الأختام الإلكترونية على المعدّات النووية، التي نصبتها الوكالة ارتفع من 1846 ختماً عام 2013م إلى 2626 ختماً عام 2017م، وفعاليات التحقق ارتفعت بنسبة 152%، وكذلك الوجود الميداني للوكالة ارتفع من 1500 يوم (Man day)، عام 2013م إلى 3000 يوم عام 2017م. كما عملت المعدات التقنية التي نصبتها الوكالة على تجميع البيانات المتعلقة بعمل المفاعلات بشكل إلكتروني.
كل هذه البروتوكولات من الرقابة التي لم تحدث إلا في الحالة الإيرانية، تجاوبت معها إيران، ويمكن القول إن الشق الأكبر من هذا التجاوب حدث في مناخات إبرام الاتفاق النووي الإيراني.
مع الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي عام 2018م، يحق لإيران إيقاف العمل بالبروتوكول الإضافي، ويحق لها التخلص من آليات المراقبة المشددة التي صيغت جنباً إلى جنب مع بنود الاتفاق النووي، إلا أنها لم تفعل ذلك؛ وأبقت على الأختام والمعدّات وتسهيل دخول المفتشين والكاميرات، حتى إن الوكالة شعرت وكأن كل ذلك حق طبيعي لها، وإلى اليوم تعنون تقاريرها بشأن البرنامج النووي “بالعودة إلى الاتفاق النووي، وبالعودة إلى قرار مجلس الأمن 2231”.
في الثالث والعشرين من شباط/فبراير عام 2021م، أوقفت إيران العمل ببنود الاتفاق؛ أي بعد 3 سنوات من الانسحاب الأميركي منه. ومع ذلك، مجدداً، لم تغلق الأبواب في وجه الوكالة، وحافظت على مستوى عال من المرونة في التعامل معها.
أصدرت الوكالة في نهاية شهر أيار/مايو من العام الجاري، تقريراً تقنياً مفصلاً بشأن المنشآت النووية الإيرانية، تحققت فيه من مفاعل أراك للماء الثقيل، وغرف التحكم، وعدد كبير من المعدّات والكاميرات. وبالرغم من أنها اشتكت من عدم تمكنها من التحقق بمستوى البروتوكول الإضافي نفسه (وهو ما لا يحق لها أساساً بسبب الانسحاب الأميركي من الاتفاق)، لم تشكك في سلمية البرنامج، فلماذا إذن استيقظت الآن على الشك فيه؟
يبدو أن مجلس المحافظين في الوكالة (board of governer) والمكوّن بشكل دائم من أغلبية من الدول الغربية، فضّل دخول لعبة السياسة مع الترويكا الأوروبية والولايات المتحدة، ومشاركتهم الطمع في إنجاز المعادلة المستحيلة “القضم على الفكين معاً”؛ اتفاق نووي مجحف بحق إيران، يتم توقيعه بسرعة وعلى عجالة، لحل أزمة الطاقة التي أنتجها الصراع في أوكرانيا، وبالتالي التخلص الجزئي من الضغط الروسي، والاستمرار في تقييد إيران ولو جزئياً بضربة واحدة، وهو الأمر الذي يبدو غير قابل للتحقق!
لماذا تجاهلت الوكالة مصادر القصف على زاباروجيا؟
أصدرت الوكالة تقريراً مفصلاً بشأن محطة زاباروجيا وتضمن أيضاً المنشآت النووية الأخرى في أوكرانيا. ركّز التقرير على عناصر الأمان السبعة، وهي عناصر ضرورية لأي منشأة نووية، وأرفقت ملاحظاتها وتوصياتها بخصوص كل عنصر:
1. سلامة المنشآت وتكاملها.
2. أنظمة السلامة والأمان.
3. بيئة العمل وفريق العمل.
4. إمداد الكهرباء.
5. استمرار عمل شبكات التوريد من المنشأة وإليها.
6. أنظمة مراقبة الإشعاع.
7. أنظمة الاتصالات والإنترنت في المنشأة.
كل ما يتعلق بالوجود الروسي في المنشأة انتقدته الوكالة، إذ انتقدت استقرار المركبات العسكرية في المنشأة، والسيطرة على المختبرات وغرف التحكم وقاعات التدريب، كما انتقدت حضور فريق من الوكالة الروسية للطاقة الذرية، وعدّت حضورهم عاملاً موتّراً لباقي الكوادر، ويضرّ ببيئة العمل والجو النفسي للعاملين. ولكن العامل الأكثر خطراً على المحطة هو القصف، وبالتحديد القصف عليها، أكثر مما هو من المناطق القريبة منها باتجاه أماكن بعيدة.
القصف هو الذي زعزع أمن المنشأة في المحاور السبعة التي أصدرتها الوكالة؛ فهو الذي هدّد خزانات الوقود والنفايات ومولدات الكهرباء عالية الجهد، وهو الذي تسبب في انقطاع الانترنت والاتصالات، وكذلك أضرّ بشبكات التوريد وتسبب في أضرار لأنظمة الأمن والمراقبة.
وليس هنالك من عامل توتير لبيئة العمل والعاملين أكثر من احتمالات تعرضهم لإصابات دقيقة في مكان العمل. لولا أن المحطة مجهزة بأنظمة عمل احتياطية كثيرة، ولولا أن عمليات إصلاح الأضرار كانت تتم نسبياً بسرعة، لكانت الحال أسوأ بكثير مما هي عليه اليوم.
الانتقاد الروسي لتقرير الوكالة ينطلق أساساً من استخدام صيغة المبني للمجهول في كل ما يتعلق بالقصف الأوكراني على المنشأة، فهي تقول “القصف المتجدد سبب تدمير محولات الكهرباء… نوصي بوقف كامل للأعمال العسكرية في تلك المنشأة (في محاولة هنا لمساواة الوجود العسكري الروسي في المنشأة بالقصف الأوكراني عليها)”.
انطلاقاً من طبيعة عمل المنظمة وتعريفها بنفسها، يمكن القول إنها غير مسؤولة عن تحديد جهة القصف فعلاً، وربما غير مسؤولة عن تسميته في تقاريرها، ولكن لماذا كانت تفترض، من دون دليل، جهة القصف في سوريا؟ وتشير باستسهال إلى الدولة السورية؟ مع الإشارة إلى أن سوريا، آنذاك، امتلكت دليلاً وافياً على دحض التهمة، وأوكرانيا اليوم لا تستطيع نفيها عن نفسها. لو كان عدم ذكر الجهات أو الأسماء هو مسار أو قاعدة في عمل المنظمة، لما كانت روسيا عدّت عدم ذكر المصدر انحيازاً وتسييساً واستنسابية، إلا أن الوكالة كانت تسير على السكة المقابلة تماماً في الحالة السورية.
منذ بداية العملية الروسية في أوكرانيا، كانت المنشآت النووية من أولويات الجيش الروسي، وذلك منعاً لانزلاق الحرب إلى لحظة يأس، تفكر فيها أوكرانيا ومعها الغرب في استسهال أي مغامرة. روسيا لا تثق بالوكالة كي تقبل بتحويل زاباروجيا إلى منطقة آمنة، كما أنها لا تثق بقدرات الجهات الدولية على حماية المحطة، ولا تثق بنيات الغرب لتوظيف هذه المنشآت، لذلك كله، يبدو لروسيا أن توصيات الوكالة كان لها أن تختصر في توصية واحدة… إيقاف القصف الأوكراني باتجاه المنشأة.
العالم يتغير وعلاقات القوة فيه تتغير، وسوف تجد الهيئات الدولية نفسها (من الوكالة الدولية إلى الأمم المتحدة)، أمام خيارين؛ إما تغيير الممارسات والأنظمة الداخلية بما يستجيب لمتطلبات علاقات القوة الجديدة، وإما أن تجد نفسها في طور الاستبدال من قبل هيئات جديدة.
المصدر: الميادين