إن كل ما يجري في المنطقة وتحديداً في فلسطين لا يعدو كونه كميناً أُعدّ على مهلٍ لترويض جزء مهم من قوى هذا الشعب الحية، وأن كل أساليب المكر والخداع المُعدّة في الغرف السود تستخدم من أجل الوصول إلى هذا الهدف.
قد يبدو الأمر ملتبساً جداً على كثير من المتابعين والمختصين وعموم الناس عند محاولتهم فك اللغز الخاص بإحجام أو امتناع بعض فصائل المقاومة الفلسطينية عن المشاركة في بعض جولات القتال ضد العدو الصهيوني، ووقوفها بشكل أو بآخر على الحياد، أو أنها تحولت على أقل تقدير إلى وسيط، وقد ظهر ذلك جلياً في معركة “وحدة الساحات” التي بدأها العدو الصهيوني باغتيال قائد المنطقة الشمالية في “سرايا القدس”، الشهيد تيسير الجعبري، ومجموعة من رفاقه في الخامس من آب/أغسطس الحالي.
وفي الحقيقة يجب أن نلتمس العذر لأولئك الذين لم يستطيعوا أن يحسموا خيارهم في تحديد ماهية ما جرى، وهل هو تكتيك مدروس بعناية وله أهداف استراتيجية بعيداً من التعجّل والانجراف وراء العاطفة كما يقول البعض، أم هو تعبير حقيقي لنجاح سياسة “الترويض” التي يمارسها العدو على بعض الفصائل، بمساعدة بعض دول الإقليم التي تملك خزائن من الذهب والفضة تنوء تحت وهج بريقها قامات وهامات، كما يقول البعض الآخر.
وهنا دعونا نعود على عجالة إلى الوراء، إلى عام 1965 من القرن الماضي، الذي شهد انطلاقة حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، التي شكّل ظهورها نقلة نوعية في مواجهة جبروت وبطش دولة الاحتلال، وأخذت على عاتقها العمل على تحرير فلسطين، كل فلسطين، ومنذ بيانها الأول الذي أعلنت فيه مسؤوليتها عن عملية “نفق عيلبون” مروراً بمئات العمليات النوعية ضد المصالح الإسرائيلية في غير مكان، ظلت فتح وفية لمبادئها التي انطلقت عليها، وملتزمة بخيار الكفاح المسلح كخيار وحيد في مواجهة الاحتلال الصهيوني، هذا الكفاح الذي قال فيه الشهيد صلاح خلف في كتابه “فلسطيني بلا هوية”: إن الحركة تعتمد بشكل واضح في تأسيسها على الكفاح المسلح.
بعد تلك الانطلاقة الباهرة لقائدة مشروع المقاومة في فلسطين، تورطت فتح في نزاعات مع بعض الأنظمة العربية، فطُردت من الأردن بعد أحداث أيلول الأسود الدامية، واكتسبت بعدها عداء القوى اليمينية في لبنان، فضلاً عن إصابتها بداء الفرقة والانقسام، فانشق عنها أبو موسى وصبري البنا وأبو خالد العملة وآخرون، ودخلت في دوامة من النزاعات الداخلية والتصفيات الجسدية أثّرت سلباً في مسيرتها.
في عام 1974 بدأت مسيرة التراجع والتقهقر لدى فتح، حيث قامت منظمة التحرير الفلسطينية التي سيطرت عليها فتح بعد إبعاد أحمد الشقيري بإقرار برنامج النقاط العشر، الذي دعت فيه إلى إقامة دولة فلسطينية على أي جزء من الأراضي الفلسطينية في مقابل الاعتراف بـ”إسرائيل”، مع ضرورة اعتراف جامعة الدول العربية بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني.
بعد هذه التغيّرات الجوهرية حظيت المنظمة بقيادة فتح بمساحة عمل دبلوماسي أكبر، وأصبح لديها مكاتب في دول عديدة، وحازت مقعداً في الأمم المتحدة، وانتقلت من خطاب أن الكفاح المسلح هو الخيار الوحيد لتحرير فلسطين إلى تنويع الخيارات، كما قال الشهيد ياسر عرفات في خطابه الشهير في الأمم المتحدة عام 1974: “جئت حاملاً غصن الزيتون بيد، وباليد الأخرى بندقية الثائر، فلا تُسقطوا غصن الزيتون من يدي”.
توالت بعد ذلك التراجعات حتى وصلنا إلى الاتفاقية المشؤومة المسماة “أوسلو”، التي أدخلت الشعب الفلسطيني بأسره في سنواتٍ عِجاف ذاق فيها حتى يومنا هذا مرارة الجوع والخوف والانقسام.
وحتى لا يأخذنا الغوص في السنوات الغابرة بعيداً من موضوعنا الأساسي نكتفي بما سردناه من أحداث حتى ننطلق منها للإجابة عن سؤالنا الحالي! هل نحن أمام مرحلة جديدة في تاريخ النضال الفلسطيني قد يُعيد فيها التاريخ نفسه مجدداً؟ وهل تتحوّل بعض الفصائل بفعل عوامل لا مجال لذكرها في هذه العجالة إلى نسخة مطابقةٍ لحركة فتح؟ أم الظروف مختلفة تماماً، والتراجع الذي دفع فتح إلى التقوقع في جسم سلطة شبه منهارة لن يتكرّر مرة أخرى؟ وأن ما تقوم به تلك الفصائل هو تكتيك مرحلي يشبه إلى حدٍ بعيد انحناءة السنبلة أمام العاصفة حتى لا ينكسر عودها.
وحتى لا نبدو منحازين إلى هذا الطرف أو ذاك يمكن أن نقول وبتجرّد كامل إن وصف ما يحدث بأنه عبارة عن تكتيك مدروس، ويحمل قدراً كبيراً من الذكاء والبراغماتية يمكن أن يُنظر إليه على أنه تبرير غير منطقي ويحمل قدراً كبيراً من محاولة الضحك على العقول قبل الذقون، كما يقول المثل الغزاوي الشهير، وأن ذلك الخيار يحمل كماً كبيراً من المغامرة غير محمودة العواقب، وأن مآلات ذلك التكتيك يمكن أن تودي بصاحبها إلى طريقٍ ضيقٍ وذي اتجاه واحد بحيث يصعب على سالكه الالتفاف أو العودة، والتجارب في التاريخ لا تعد ولا تُحصى.
خصوصاً إذا علمنا أن بعض الأطراف الإقليمية التي تعمل كعرّابة لذلك الطرح ليست جمعيات خيرية، ولا تصرف قرشاً واحداً من أجل سواد عيون الشعب الفلسطيني، وأن أياديها التي تظهر للبعض بأنها بيضاء ينطبق عليها قول المتنبي: “إذا رأيت نيوب الليث بارزة.. فلا تظنن أن الليث يبتسم”.
وهذا يأخذنا إلى الاعتقاد الذي يقول إن كل ما يجري في المنطقة وبالتحديد في فلسطين لا يعدو كونه كميناً أُعدّ على مهلٍ لترويض جزء مهم من قوى هذا الشعب الحية، وأن كل أساليب المكر والخداع المُعدّة في الغرف السوداء تستخدم من أجل الوصول إلى هذا الهدف، وأن بوادر نجاح هذا المخطط قد بدأت تظهر جليّاً على تصرفات البعض.
ولكن حتى لا نبدو مجحفين، وربما لافتقادنا لجزء مهم من الصورة التي تبدو عليها التطورات الأخيرة المتعلقة بهذا الموضوع، يتوجب علينا أن نتمهل في إصدار حكمٍ نهائيّ، ونحن بحاجة لمزيد من الوقت لنستطيع رسم صورة المشهد النهائي الذي يمكن أن نراه أمراً واقعاً خلال المرحلة القادمة.
ختاماً وحتى لا نُطيل نقول إن قوى الأمة الحية وفي مقدمها فصائل المقاومة الفلسطينية يمكن أن يُراهن عليها، وأن بعض الأخطاء في التقدير التي وقع فيها البعض لا يمكن أن تمحو تاريخها الزاخر بكل ما هو جميل، وأن قضية بقداسة القضية الفلسطينية، وشعب بحيوية وعنفوان هذا الشعب الطيب والعزيز، لا يمكن لكل قوى الشر في العالم أن تروّضه وتجعل منه مسرحاً للعرائس تحركه كيفما تشاء.
ثقتنا كبيرة وليس لها حدود بأن هذا الشعب بقواه الشريفة سينتصر، وأن ما يُحاك له من مؤامرات ستسقط وتتحطم على صخرة صموده وثباته، وأن فجر الانتصار الذي ننتظره منذ أكثر من 74 عاماً سيبزغ من قلب المعاناة، فقط مزيداً من الصبر ومزيداً من الصمود حتى ينقشع ظلام الاحتلال وينبلج فجر الحرية.
المصدر: الميادين