رسالتَي الرئيسين بوتين للقمة العربية والرئيس شي جين بينغ إلى الرئيس الجزائري تبون تؤشران إلى أهمية ما يقارب نصف مليار عربي في إرساء نظام عالمي متعدد الأقطاب.
عقدت القمة العربية في الجزائر الشقيقة في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر، ولهذا التاريخ ذكرى مجيدة بانتصار شعب الجزائر الأبي وثورته التحررية في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر على الاحتلال الفرنسي الوحشي، الذي جثم على صدر الجزائريين بجرائمه الشنيعة مئة وثلاثين عاماً، وليستمد المشككون في أهمية المقاومة العربية من أجل التحرير من هذه الذكرى أملاً متجدداً ويقيناً بأن حق العرب لا يموت في أرضهم وحريتهم واستقلالهم، متى كانوا متحدين ضد العدو الغربي الغاشم الطامع بالأرض والثروات، وتاريخ أمتنا طوال الألف عام الماضية يوضح أن هناك دوماً من يسعى فعلاً وقولاً لاستعادة هذه الحقوق.
وعلّ كلمتيّ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ووزير خارجية الجزائر رمطان العمامرة كانتا الأكثر تعبيراً عن أفكار وطموحات يشاطرهما إياها الملايين من العرب المؤمنين بالعروبة ومستقبلها من اقتراح توحيد الصف ونقل القضية الفلسطينية باسم العرب جميعاً إلى أروقة الأمم المتحدة؛ للمطالبة جدياً بعضوية دولة فلسطين، حتى وإن كانت فرص النجاح قليلة، إلى المطالبة بخلق تكتل اقتصادي عربي وتأمين الاكتفاء الغذائي الذاتي للعرب، وتحقيق لمّ الشمل من أجل السعي لمعالجة ملفات يتم ترحيلها منذ 77 عاماً، وهو عمر الجامعة العربية، من قبل الأنظمة التابعة للغرب الاستعماري.
ولكنّ قراءة “إعلان الجزائر” المنبثق من القمة العربية والذي يمكن أن يكون قد أعلن في أي تاريخ من القمم السابقة لولا مؤشرات بسيطة عن دعم لحدث لا علاقة له بقوة العرب ومستقبلهم، أي يمكن لهذا الإعلان أن يكون قد صدر منذ عشرات السنين؛ لأنه يتضمن النهج ذاته واللغة ذاتها من “استذكار” و”تأكيد” و”إشادة ” و”تجديد” و”تثمين” و”التزام” (لغوي فقط طبعاً) و”ترحيب” من قبل الدول الغربية المتصهينة عبر الأنظمة العربية التابعة لها على ألا تتم ترجمتها إلى برنامج عمل في أي من المواضيع التي جرى تثمينها أو دعمها أو الإشادة بها، بل يأخذ هذا الإعلان، كما الإعلانات السابقة، له رقماً في سلسلة إعلانات الجامعة العربية، ويأخذ مكانه في الأرشيف من دون التعويل عليه من قبل الشعب العربي في أي من بلدانه.
وهنا، يجب التمييز بين الإرادة الجزائرية الساعية فعلاً إلى إحداث فرق في العمل العربي المشترك، والتي اتخذت عنواناً للقمة “لمّ الشمل” توطئة لعمل عربي حقيقي يواجه المشكلات المستعصية لهذه الأمة، ويعمل على تقديم الحلول والرؤى لها، وبين من هو مصمم على استمرار تفكيك الشمل العربي كما يريد الغرب المعادي، وظهر ذلك من تغيب عدد من الحكام العرب عن القمة، واكتفاء الباقين بدرء نشوب الخلافات بينهم، كما يظهر الإعلان، وعدم الارتقاء إلى حجم التحديات التي يفرضها الوضع الدولي الراهن على العرب ككتلة وازنة في الإقليم وكحجم اقتصادي وحقيقة تاريخية وحضارية يحسب كل عاقل لها ألف حساب.
من هنا، نرى أن رسالتَي الرئيسين بوتين للقمة والرئيس شي جين بينغ إلى الرئيس الجزائري تبون تؤشران إلى أهمية ما يقارب نصف مليار عربي في إرساء نظام عالمي متعدد الأقطاب، وإلى أهمية الدور المتزايد لهذه الكتلة في هذه العملية، وأكد الرئيس الصيني “أن الصين مستعدة للعمل مع الدول العربية وتقديم مساهمات للسلام والتنمية العالميين”.
هذه دعوة لا يستهان بها من قبل قوة دولية تتسلم بكفاءتها ورؤاها وعملها مفاتيح تشكيل العالم الجديد على أسس الجهود المشتركة والاحترام المتبادل والمنفعة للجميع. إذا كان المستشار الألماني شولتس قد تجاهل انتقادات كل زملائه الأوروبيين وذهب إلى الصين باحثاً عن عقد شراكة مع الذين يسيّرون دفة المستقبل الاقتصادي للعالم، فكيف يجب أن تكون ردة فعل حكام الدول العربية على مثل هذه الدعوة الصينية الهامة جداً.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فقد عقدت القمة العربية، مصادفة، بالتزامن مع انتخابات كيان الاحتلال الصهيوني والتي أسفرت عن انتخاب المستوطنين “للصهيونية الدينية” العنصرية الاستيطانية التي تمارس أبشع أنواع الكراهية للعرب جميعاً، والتي تغتصب عنوة الأرض من أصحابها، وتسعى بالقوة النووية الغاشمة وبتطويع الحكام العرب وبالإرهاب للسيطرة على المنطقة العربية برمتها، وتزيل من يدعي ملكيتها تماماً كما فعل المستوطنون قبل قرون في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا.
وللمرة الأولى في تاريخ هذا الكيان، لم يكن الملف الفلسطيني مثار جدل أبداً بين الأحزاب المتنافسة، بل اعتبر الجميع أن الملف الفلسطيني هو مجرد ملف أمني، وأن الحزب الذي يقوده إيتمار بن غفير والذي يسير على خطى الحاخام الدموي الإرهابي مائير كهانا قد أصبح الآن ثالث أكبر قوة سياسية في “إسرائيل”.
ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أن تطبيع بعض الحكام مع كيان الاستيطان الصهيوني للأرض العربية ومحاولة استرضائه أملاً، كما يعبّر البعض، في تحقيق شروط أفضل للفلسطينيين، قد زاد من عنصرية هذا الكيان وتعنّته، وأن أمل المستوطنين والصهاينة اليوم معقود ليس على مصادرة الأرض العربية في فلسطين فقط وإنما على وضع يدهم على المنطقة العربية برمتها في المئة عام القادمة. وهذا يعني أن التهديد الوجودي يحيط بالعرب جميعاً من المحيط إلى الخليج، وأن الأمل الوحيد لهم معقود على استدراكهم حجم هذا الخطر، وتدارك خطورة هذا التهديد الوجودي بوضع الرؤى ومخططات العمل التي تستنبط عوامل قوتهم وترفع من قدراتهم إلى مستوى مواجهة هذا التهديد الخطر.
لقد أثبتت تجربة المقاومة في لبنان وغزة وفلسطين مع هذا الكيان الغاشم أن الطريقة الوحيدة لدرء خطره هي في تأسيس معادلة توازن الرعب، وأن كل اتفاقات ما سمّوه سلاماً لم تعد على عاقديها بالأمن أو العيش بسلام أو الازدهار، كما كانوا يدعون، بل حولتهم إلى أتباع ينفذون الأطماع الصهيونية بالأرض والثروات والوجود العربي كله.
أي من ناحية هناك فسحة دولية في عالم على عتبة تغيير جوهري في نظامه الموروث منذ القرن الماضي، وانتقال المركز من الغرب الاستعماري المتوحش إلى الشرق الساعي للحرية والتنمية والعيش المشترك، ولذلك وجهت الصين وروسيا دعوات للعرب ليشكلوا كتلة وازنة في هذا العالم الجديد إذا ما اتحدوا على كلمة سواء بينهم، ومن ناحية أخرى، فإن خطر الصهيونية العنصرية الإرهابية المتطرفة يهددهم جميعاً، ويهدد وجودهم الحيوي في منطقتهم التاريخية، وما كل أعمال الصهيونية من مسار أبراهام إلى خلق الفتن الطائفية وتدمير الآثار وتزوير التاريخ من جهة، وتنظيم جماعات القتل والاغتيال والإرهاب وتمويلها وتسليحها من جهة أخرى إلا براهين واضحة للعيان عن حجم المخططات وشمولها لآليات متنوعة ومختلفة، وعلى صعد متعددة، لتحقيق هدف واحد وهو السيطرة على الفضاء العربي الإقليمي.
ولمن يرى تضخيماً في هذه القراءة أذكّره أن مؤتمر بازل الصهيوني الذي عقد في عام 1893 قد وضع “السيطرة على الإعلام في العالم” هدفاً أساسياً له، وها نحن اليوم والصين وروسيا وأميركا اللاتينية وكل العالم يواجه إعلاماً متصهيناً مموّلاً وممنهجاً وأخطبوطياً يلعب دوراً أساسياً في الحروب الغربية المتواصلة على شعوب العالم، وفي استمرار الهيمنة الغربية والصهيونية على إرادة العديد من الحكومات، وعبرها على دول العالم وشعوبه.
لن نكون هنا لنحكم على نتائج استقرائنا هذا لما سيحدث في العالم من تغيير، ولكن قراءة الماضي وترجمة الواقع بدقة توصلان بالتأكيد إلى الاستنتاج الأسلم.
إنّ ما يشكل ضرورة للعرب جميعاً اليوم ليس الإشادة والاستذكار والتأكيد وإنما استحضار النخب السياسية الحقيقية المفكرة والحريصة فعلاً على مستقبل الأمة وعلى العرب والعروبة لوضع الرؤى والخطط الفكرية والعملية والتنفيذية لإحداث تغيير جذري في هذا الواقع العربي الذي أهدر قوته بانصياع الحكام العرب لوعود أعدائهم الكاذبة بينما المطلوب هو تأسيس تكتلات عربية اقتصادية وتقنية حقيقية يحسب لها حساب على المستوى العالمي بدلاً من الانشغال باسترضاء الأعداء، وتفاصيل لا تقدم ولا تؤخر ولا تضيف إلى الوزن العربي شيئاً لا حاضراً ولا مستقبلاً، بل تهدر الوقت وتضيع الفرص الثمينة.
المصدر: الميادين