الطوفان يكشف هشاشة اقتصاد “بيت العنكبوت”
العين برس/ مقالات
أحمد فؤاد
أيقظ الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله، الضمائر والعقول والأرواح لتعاين واقعًا جديدًا يتشكل في مهده.. في خطابه يوم 6 آب/ أغسطس لمناسبة مرور أسبوع على ارتقاء القائد الجهادي الكبير، وآخر رفاق عهد العشرة، القائد الشهيد فؤاد شكر، ظلل السيد المواقف وخطوط القتال، ولوّن الخرائط بمناطق جديدة مستهدفة، تطالها أظافر المقاومة، وتجلى دوره التوجيهي والقيادي في رسالة مصانع العدو التي تقع في مرمى نيران المقاومة، إذا ما قرر العدو أن يرى بأس رجال الله.
الإيمان والصدق اللذان ميزا كل حرف ينطق به سماحة السيد، يفرض على العقل فورًا أن يستبعد فرضية أن السيد كان في صدد “رقمنة” جزء من الصراع، أو تحويل الحرب التي يشنها العدو إلى حرب أرباح وتكاليف أو خسائر ومؤشرات. قطعًا كان السيد يريد أن يقول للصهيوني إن قدرات الاستخبارات لدى حزب الله قد وصلت إلى مدى لا يخطر على باله. من المؤكد أنه كان يوجه رسالة أخرى مفادها، إن أية ضربة على لبنان سيُرد عليها بعشرات أضعاف أضرارها، لكن واجب السيد في استنهاض الوعي الجهادي للأمة كلها، أراد أن يحفز الوجدان للبحث عن إجابة على الأسئلة الآتية: ما الذي يخشاه الكيان؟وما النقطة التي تختنق عندها روحه؟ أين يمكن لنا أنا نأخذه إلى لحظة انهيار كامل؟.
في حديث سماحته، وهو كله رسائل صيغت من نور ونار، تستهدف إرباك الحسابات وزلزلة قلوب الأعداء، وتصدير الفزع من خطط حزب الله للأيام القادمة، كان سنا الإشارة غاية في الوضوح والبساطة. سنستهدف المركز العصبي لكيان الوهم و”الوهن العنكبوتي”،ط. سنستهدف قطاع الصناعات التي قام عليها واستمر الكيان، بدعم من الغرب، وهي بالنسبة له الدم الذي يجري في الشرايين حاملًا الغذاء والأوكسجين للجسد، لكن علينا أولًا أن نعود قليلًا للوراء، لأيام فكرة وإقامة هذا الكيان المحتل على أرض فلسطين، لفهم “نقطة مقتل” العدو هذه.
“الهولوكوست” المزعومة وقوة الكيان الصناعية.
في كتابه “الاقتصاد الصهيوني”، اقتفى الباحث الفلسطيني حسين أبو النمل أثر المساعدات الغربية ببداياتها على اقتصاد كيان الاحتلال، فكشف أن اتفاقية التعويضات الألمانية الأولى عن “الهولوكوست” المزعومة والتي وُقِّعت عام 1952، وبلغت قيمتها 846 مليون دولار دُفعت على مدار 12 عاماً، ليس نقدًا بل آلات وسلعاً رأسمالية ألمانية. تقاطع ذلك مع ما أورده كتاب “طريق ألمانيا” لرودولف فوجيل، حينما أشار إلى:”حصول ألفي مشروع صناعي من الحجم المتوسط على الآلات من الشحنات التي وردت بموجب الاتفاق”، ثم وصف تلك الشحنات بأنها كانت تشكل عنصراً أساسيًا ودائمًا في إنشاء قطاع الصناعة في الكيان من الصفر، إذ ارتفع نتيجة لذلك عدد المنشآت الصناعية في الكيان بين عامي 55 – 65 وهي سنة نهاية فترة التعويضات الأولى إلى الضعف تقريبًا، من سبع آلاف وخمسمئة ومنشأتين (7502) إلى 15458 منشأة، ليتضح أن كل هذا البرنامج التصنيعي الشامل الذي أعطى الكيان طابع القوة الصناعية كان ثمرة برنامج التعويضات الألمانية بامتياز.
أهداف الشمال الثمينة
هكذا بدأ نمو الكيان الاقتصادي على الصعيد الصناعي والزراعي.. فتركزت عدة صناعات وشركات كبرى لاحقًا شمال فلسطين المحتلة، لتكشف الحرب الدائرة منذ طوفان الأقصى أنها بمثابة روح إمداد للكيان، وفق أرقام حكومة العدو التي توضح أن 60% من الطاقة التكريرية للنفط تقع في الشمال، منها مصافي “بازان”، ثم مخازن “داغون”، وهي تحوي 80% من طاقة تخزين الحبوب والقمح في الكيان، ثم شركة كهرباء شمال الكيان، وهذه وحدها كفيلة بإحداث صدمة عصبية لدى كل القطاعات وشلها تمامًا.
منطقة الجليل تعد أيضًا موطنًا للصناعات الثقيلة، وهذه كلها في أقرب نقاط المواجهة المفتوحة في أي حرب قادمة، إذ توجد صناعات المعادن وماكينات الخراطة والتشكيل، كما توجد أكبر شركة لصناعة الأنابيب البلاستيكية المخصصة للبنية التحتية، كما أن 40% من اللحوم و70% من إمدادات الألبان ومشتقاتها يجري إنتاجها في مصانع بالشمال.
“فاروق”: خسائر اقتصادية وإستراتيجية
الخبير الاقتصادي المصري الدكتور عبد الخالق فاروق، رأى في تصريحات خاصة لـموقع “العهد الإخباري”، أن “الخسائر الاقتصادية الناتجة عن طوفان الأقصى لم يسبق لاقتصاد الكيان أن تعرض لها على الإطلاق في أي صراع سابق، حتى في حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973″، وقال فاروق:”هذه أكبر وأطول جولة قتال في تاريخه، والأرقام المسجلة حتى اللحظة تفيد بإغلاق ما بين 46-50 ألف شركة، إضافة للتأثير الفعال لطول مدة الحرب على قطاعات التصدير، وتعطل الاستيراد وإغلاق الموانئ، وهروب الاستثمارات الأجنبية، حيث تقدر المصادر الاقتصادية الإقليمية والدولية هذه الخسائر بنحو 50 مليار دولار، هذا إن توقفت الحرب اليوم، وقدّر “فاروق” الخسائر المباشرة لغاية أيلول/سبتمبر المقبل بنحو 70-80 مليار دولار، ورغم أن الغرب والمنظمات الصهيونية ستستطيع تحمل أغلب الأعباء، فإنها لن تعوض نزيف الثقة في قدرات وإمكانيات هذا الكيان الهش على الاستمرار، بالإضافة إلى تردي الحالة النفسية لقطعان مستوطني هذا الكيان المشوّه، بسبب طول مدة العدوان وما صاحبها من حرب إبادة مارسها جيش العصابات الصهيونية الذي تفوق بجدارة على النازية”.
أضاف فاروق أن التعرض إلى الخسائر الإستراتيجية للكيان الصهيوني خلال أكثر من 10 شهور في عملية “طوفان الأقصى” يلزمنا تصنيفها إلى أكثر من مستوى، أول المستويات وأهمها، هو إسقاط المشروعية الأخلاقية والسردية التاريخية للحركة الصهيونية ومطالبها في أرض فلسطين، فهي سقطت أمام معظم شعوب العالم، حتى أمام بعض حركات يهود العالم، وتحركات شباب الجامعات في أميركا وأوروبا وأميركا الجنوبية واليابان وكوريا الجنوبية، هذه الصرخات النبيلة من خارج منطقة الصراع وأطرافه تؤكد أن أهم انتصار للطوفان كان إسقاط المشروعية الأخلاقية والسياسية للكيان”.
وتابع “فاروق”:الخسارة الثانية هي أنها كشفت زيف دعاوى حكومات الغرب الاستعماري، وعرّتها أمام شعوبها والعالم من اعتبارها مدافعًا عن السلام والعدالة وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الطفل، وهذه من مآثر طوفان الأقصى. كل الأقنعة سقطت أمام إرادة وشجاعة محور المقاومة، وأمام صمود أسطوري للمدينة البطلة غزة”.
ولفت “فاروق” إلى أن من ضمن خسائر الكيان وحلفائه، سواء في الغرب أو المنطقة العربية، كان “كشف المستور” عن أنظمة الحكم العربية العميلة والمتعاونة، على كل المستويات.. هذه الأنظمة كلها فضحت بصورة لا لبس فيها.. وسقطت في اختبار الصلاحية القومية والوطنية والإسلامية”.
عبد الهادي: العدوّ ليس القلعة العالية المنيعة
يقول الباحث الاقتصادي المصري مجدي عبد الهادي، في تصريحات خاصة لـ”العهد الإخباري”، إنه وبعد أكثر من 10 شهور من “طوفان الأقصى” فمن حق التفاؤل أن يزور معسكرنا، فالكيان الصهيوني وُضع لأول مرة في خانة الخسارة الإستراتيجية على كل المستويات، لأول مرة تخضع كامل السردية التي شيدتها طول 75 سنة لشرعنة وجودها على المحك، فوق إنها تضعف وتعري كامل المعسكر الصهيو-عربي الداعم لها، وتوحًد بقية العرب والمسلمين ضدها، بل إن استمرار أمريكا في دعمها بهذا الشكل السافر، سيكون بداية نهاية كامل النظام العالمي التي شرعنت به هيمنتها على العالم.”
ويوضح عبد الهادي أنه يمكننا قياس بعض التأثيرات التي ضربت أهم القطاعات في الاقتصاد الصهيوني، رغم أن البيانات الصهيونية تكذب وتتجمل، لكن قطاع التكنولوجيا الفائقة شديد الأهمية للاقتصاد الصهيوني، والذي حقّق به العدوّ طفرة ضخمة عبر الثلاثة عقود الماضية، ليصبح القطاع الأكثر إنتاجية والأعلى تصديرًا في الاقتصاد، قد شهد موجة هروب هائلة، فمن بين نحو 300 مستثمر نشط عام 2021، كان هناك 251 عام 2022، ولم يبق منهم سوى 61 فقط عام 2023، بانخفاض 80% تقريبًا خلال عامين لا أكثر، وفي النهاية فإن الصورة الكاملة لما حدث في كيان العدو، سواء على صعيد الاقتصاد أو الصراع المسلح الذي لم يتمكّن العدوّ من حسمه أو إنهائه، هي أن العدوّ ليس بصورة القلعة العالية المنيعة، كما يحاول تصدير صورته، وسبب استمراره وتغوّله ليس قوته الذاتية التي يحاول تضخيمها، بل الهوان العربي والإسلامي بالأصل، والذي لا يقل حيوية وتأثيرًا عن الدعم الغربي.
ويؤكد عبد الهادي أن الخسائر والاضطرابات المتسارعة مقارنة مع وتيرة الصراع العسكري وحدوده، والفارق الهائل في حجم القوّة العسكرية بين الكيان وبين فصائل المقاومة، ثم عدم فتح جبهات قتال أخرى بشكل كامل، كلها أسباب تمنح العقل دلالة واضحة على مدى الهشاشة الكامنة في الوضع الصهيوني بشكل عام، وعدم قدرته على الصمود الاقتصادي العميق طويل الأجل في مواجهة صدامات عسكرية بمقاييس الدول.
بعد ما يزيد عن عشرة أشهر منذ “طوفان الأقصى” انكشف “المستور” وظهر وجه آخر من وهن بيت العنكبوت، تمثل بهشاشة اقتصاد الكيان وخسائره الإستراتيجية وزوال الغشاوة عن أوهام تفوقه بقوته الصناعية.
المصدر: موقع العهد