العين برس:
لا يختلف اثنان، إسرائيليَّين كانا أو فلسطينيَّين، على أن الأيام أو الأسابيع المقبلة حبلى بالتحديات، وأن احتمال انفجار حرب كبرى ومتعددة الجبهات قائم بين ليلة وضحاها، وهذا أكثر ما يُخيف الاحتلال.
منذ أن انتهت معركة “سيف القدس”، أو “حارس الأسوار”، كما سمّاها المحتل الإسرائيلي، قرّرت سلطات الاحتلال في تلخيصاتها اللاحقة أنه لا بد من كسر إرادة الشعب الفلسطيني بالقوة، والعودة إلى سياسة الاستفراد بالساحات. وبناءً عليه، بدأت تنفيذ مخططها الجديد، ابتداءً من مخيم جنين.
مع بداية العام الحالي، وتحديداً شهر شباط/فبراير 2022، بدأت سلطات الاحتلال حملة متعددة الأوجه، منها إعلامية نفسية، وأخرى دبلوماسية، في الأردن ورام الله ومصر وتركيا، شاركت فيها الإدارة الأميركية وبعض الأنظمة التابعة لها، بالضغط والتهديد، لإنجاح الحملة الإسرائيلية ضد المقاومة.
أمّا عسكرياً، فكانت هذه الخطة عبارة عن سلسلة عمليات عسكرية أطلق عليها الاحتلال حملة “كاسر الأمواج”، ولم يعلنها رسمياً إلّا في أيار/مايو وحزيران/يونيو، عشية الاستعداد المكثّف لتمرير مسيرة الأعلام الاستفزازية في البلدة القديمة من القدس المحتلة، مع استمرار اقتحامات الحرم القدسي الشريف.
واجه المقاومون الفلسطينيون، من جيل الشباب بصورة خاصة، هذه الحملة بمزيد من موجات المقاومة، وكانت النتيجة أنه بدلاً من محاصرة المقاومة في جنين والاستفراد بها، اتسعت المقاومة إلى نابلس وطوباس والمخيمات والقرى المجاورة حتى القدس والخليل والأغوار.
هذه المقاومة نجحت، بقصد مسبّق، في تخطّي الانقسامات الفصائلية، وتخطي استخبارات سلطة التنسيق الأمني في رام الله أيضاً، وهذا ما أثار جنون سلطات الاحتلال، حتى إنها اتّهمت سلطة رام الله بالتقصير وفقدان السيطرة الأمنية وعدم القيام بواجباتها. وبناء عليه، “اضطُرت” سلطات الاحتلال إلى أن تقوم بعمليات عسكرية “معقَّدة وخطرة داخل المناطق التي ينتشر فيها المسلحون”، وفق التعابير الإسرائيلية.
هل هي انتفاضة ثالثة؟
إنه السؤال المتكرّر منذ عام 2002، كلما هبّ الشبّان الفلسطينيون لمقاومة الاحتلال. وازدادت توقعات انتفاضة ثالثة بعد عام 2015 وهبّة الشبان المقدسيين لمواجهة البوابات الإلكترونية على أبواب الأقصى، لكن الحقيقة أنها موجات من المقاومة الفلسطينية تتصاعد وتتراجع، وفق الظروف الموضوعية والذاتية، وأن أي انتفاضة شعبية ثالثة تحتاج إلى 3 عوامل أساسية، هي:
1 – استعداد الشبّان الفلسطينيّين للتضحية، وهو شرط موجود ومثبّت على الأرض.
2 – حاضنة شعبية، وهي متوافرة أيضاً.
3 – حاضنة ورعاية قياديّتان، وهما غير متوافرتين في الضفة الغربية، للأسف، بل تعمل القيادة الرسمية المتنفذة، ليلاً نهاراً، وفق تمويل وتدريب أميركيين، حتى إنها تستخدم أموال الناس التي تدخل خزينة السلطة من أجل قمع أي محاولة لمقاومة المحتل الإسرائيلي، إن كان جندياً أو مستوطناً. وهذا هو العائق الأساس أمام انتفاضة ثالثة.
التحدّيات التي تواجه الشبّان الفلسطينيّين المقاومين
إضافة إلى ما ذُكِر أعلاه، تمتلك المقاومة في الضفة الغربية مقومات عسكرية متواضعة جداً، مقارنة بما لدى المحتل الإسرائيلي وأجهزة الأمن الفلسطينية، ومقوّمات لوجستية لا تذكَر، بل يمكن القول إن وسائلها اللوجستية والاستخبارية مخترَقة تكنولوجياً، ويمكن أن تتحول إلى أدوات ضدها في كثير من الحالات، فالهاتف النقال مخترَق، إن كان موصولاً بالشبكة الإسرائيلية أو الفلسطينية، الواقعة تحت الرقابة الإسرائيلية، وكذلك الحاسوب، في غوغل أو فيسبوك أو تويتر أو إنستغرام أو تلغرام…
أمّا المقوّمات الكبرى، فهي معنويات الشبّان واستعدادهم للتضحية بدمائهم وأرواحهم وبكل شيء من أجل الحرية والاستقلال والكرامة الوطنية. وثمة نقاط ضعف كبيرة جداً لدى المقاومة، منها التسلّح الضعيف والخفيف، والحواجز، وعدم القدرة على التواصل من دون التعرض للانكشاف السريع، من جانب الاستخبارات الفلسطينية أو الإسرائيلية، وليس بعيداً أن تكون هناك أجهزة استخبارات عربية تتعاون مع الاحتلال أيضاً.
التحديات التي تواجهها سلطة التنسيق الأمني
يتراجع التنسيق الأمني في المخيمات والقرى الفلسطينية، وتركّز السلطة جهدها في المدن الرئيسة، مثل رام الله، لأنها باتت تخشى على نفسها من المقاومين أيضاُ. نحو 30 ألف عنصر أمني فلسطيني ممنوعون من مواجهة قوات الاحتلال إذا قررت اقتحام أي مدينة أو قرية أو مخيم، لكنهم يجرؤون على اعتقال وتعذيب كل من يرفع صوته ضد السلطة ورئيسها، أو يفضح فسادهما وتعاونهما الأمني مع الاحتلال.
الأمن الفلسطيني، وفقاً لتصريحات حسين الشيخ الأخيرة لوسائل الإعلام الإسرائيلية، “لا يستطيع القيام بالمهمّات المطلوبة منه، بسبب اقتطاع إسرائيل جزءاً من أموال المقاصة” (الضريبة). وهذا يعني، بوضوح، أن قوات الأمن الفلسطينية تعمل بالأُجرة وكيلةً لدى الاحتلال. لذلك، فقدت السيطرة في الأشهر الأخيرة، ولم تعد قادرة على أن تقدّم المساعدة المطلوبة إلى سلطات الاحتلال.
من ناحية أخرى، تجد سلطة رام الله هوّة كبرى تفصل بينها وبين جماهير الشعب الفلسطيني. لا ثقة ولا تعاون. وتخطّى الإجماع الشعبي حواجز الفصائل، في حين تصرّ السلطة على تعزيز هذه الحواجز والانقسامات بكل وسيلة ممكنة، ليس فقط لخدمة الاحتلال، وإنما من أجل المحافظة على ما تبقّى لها من سلطة ونفوذ وامتيازات.
تحدّيات في وجه الاحتلال
تقوم قوات الاحتلال باستخدام الطائرات المسيّرة لمراقبة ساحات الاقتحام وتحرُّك شبّان المقاومة من الجو، والاستعانة بالدبابات والمدرّعات، وبعشرات الآليات ومئات الجنود، من أجل تنفيذ اعتقال مقاوم واحد، وهذا تعبير عن مستوى الفشل الأمني لقوات الاحتلال ومن ينسّق معها، باعتراف عدد من الخبراء العسكريين الإسرائيليين، لكنّ هذه الوسائل المستخدمة تشكّل، في الوقت ذاته، تحدياً كبيراً أمام قوى المقاومة: كيف يمكن التخلص من ذلك والدفاع عن النفس في حالات القنص الجوي؟
يواجه الاحتلال تحدياً آخر يتمثّل باتّساع ساحات المقاومة من مخيم جنين إلى نابلس ومخيم بلاطة وقرى رام الله في سلواد وغيرها، وطوباس والأغوار والقدس والخليل. وهذا يُضطره إلى نشر قوات كبيرة واستخدام قوات الاحتياط. ولو استطاع شبّان المقاومة أن يعملوا في هذه الساحات، في آن معاً، لكانت قوات الاحتلال ستواجه تحدياً أكبر كثيراً مما تواجهه اليوم.
لكن ضعفَ التنسيقِ والتواصلِ بين مجموعات المقاومة، وغيابَ القيادة الموحَّدة التي تربط بين الساحات في التوقيت الملائم، وعدمَ إمكان نصب الكمائن لقوات الاحتلال بغياب الرصد الملائم، والحذرَ الشديد من قوى التنسيق الأمني، وعدمَ امتلاك الأسلحة الملائمة، هي التي تجعل هذه المهمة صعبة التطبيق، وتسهّل على قوات الاحتلال القيام بعملياتها. الضفة الغربية
أمّا التحدي الأكبر الذي يواجه الاحتلال، فهو استعداد الشبان الفلسطينيّين للقتال بكل الوسائل المتوافرة، وإن كانت متواضعة، من الحجر إلى المولوتوف ثم البارودة، حتى الطلقة الأخيرة، واعتبار دم الشهداء دَيناً على من بقي في الساحات يقاتل الاحتلال. ولنا أن نتخيل لو كان في يد المقاومة في الضفة وسائل أخرى لمواجهة المدرّعات والدبابات وحاملات الجنود.
ماذا ينتظرنا في الأيام أو الأسابيع المقبلة؟
لا يختلف اثنان، إسرائيليَّين كانا أو فلسطينيَّين، على أن الأيام أو الأسابيع المقبلة حبلى بالتحديات، وأن احتمال انفجار حرب كبرى ومتعددة الجبهات قائم بين ليلة وضحاها. وهذا أكثر ما يُخيف سلطات الاحتلال، لأن أي مواجهة عند الحدود الشمالية قد تحوّل ساحات فلسطين إلى خاصرة الاحتلال الضعيفة.
وإذا أصرّ المحتلون على اقتحام باحات الأقصى في نهاية شهر أيلول/سبتمبر الحالي، موعد عيد رأس السنة العبرية، استمراراً حتى تشرين الأول/أكتوبر المقبل، شهر الأعياد اليهودية الأخرى، ولا سيما أن الكيان الإسرائيلي في أجواء انتخابية لا تستطيع معها أي قوة سياسية أن تتراجع عن مناصرة المستوطنين المقتحمين وحمايتهم، فقد تبدأ المعركة الكبرى من ساحة الأقصى، وهي الساحة الأكثر قدرة على توحيد الساحات، في آن معاً، من دون تنسيق مسبّق.
نتيجة كل هذه الأسباب وغيرها، قد تشهد الأيام المقبلة استمراراً في موجات المقاومة، في مقابل عمليات “كاسر الأمواج” الفاشلة، باعتراف مراقبين عسكريين إسرائيليين.
قد تُضطر قوات الاحتلال، بضغط أميركي أو عبر خطوة تكتيكية، إلى التراجع وتمويل سلطة التنسيق الأمني للقيام بعمليات القمع والاعتقال، بدلاً من المحتل. وفي نهاية كل اعتقال، ينتقل ملف المعتقل بالكامل، وفقا لاتفاقيات التنسيق الأمني، إلى سلطات الاحتلال. الضفة الغربية
إذا وجدت سلطات الاحتلال تعاوناً من سلطة رام الله، فقد تقوم سلطات الاحتلال هذه بتبريد التوتر، كي تجعل الفلسطينيين يقاتلون بعضهم بعضاً، وتوجّه جهودها إلى حرب قصيرة أو طويلة في الجبهة الشمالية، أو حرب متعددة الجبهات. أكثر ما يخيف قوات الاحتلال هو انتفاضة فلسطينية واسعة في ظل حرب متعددة الجبهات.
ربما تكون حملات الاعتقال والاقتحامات هذه في الضفة الغربية حتى العدوان الأخير على المقاومة في قطاع غزة، هي تمارين لعمليات عسكرية مشابهة يخطّطها الاحتلال في الجبهة الشمالية أو مقدمة للحرب المتوقعة في تلك الجبهة.
لقد حذّر كبار الباحثين العسكريين والاستراتيجيين، أمثال إسحاق بريك، من أن السيناريو الذي نفّذه أفيف كوخافي في غزة لا ينطبق على لبنان، لأن قدرات المقاومة اللبنانية هي أضعاف قدرات المقاومة الفلسطينية في كل المجالات، البشرية والتقنية واللوجستية. وهذا ما اعترف به قائد المنطقة الشمالية الجديد الجنرال غوردون، فإذا كانت العملية العسكرية ضد حركة “الجهاد” لم تحقق ثماراً، يتساءل بريك، فهل ستحقق أي مواجهة مع حزب الله أهدافها؟
المصدر: الميادين