تحفل الساحتان الفلسطينية والعربية بالقوى والشخصيات التي تتبنى موقف حركة الجهاد المبدئي من الاحتلال، لكنّ الحركة تختلف في أنها الأكثر فاعليةً وحضوراً ميدانياً في مواجهة العدو الصهيوني ربما يكون من السابق لأوانه استخلاص دروس جولة غزة الأخيرة بين يومي الجمعة والأحد الفائتين، لكن يمكن القول إنها قابلة للقراءة من زاويتين، تكتيكية واستراتيجية.
أما الزاوية الأولى، فتتعلق باستهداف العدو الصهيوني، منهجياً، حركة الجهاد الإسلامي، التي حملت العبء الرئيسي للجولة الأخيرة مع العدو الصهيوني، كما حملته بُعيد اغتيال قائدها العسكري الأسبق في غزة، بهاء أبو العطا، في تشرين الثاني/نوفمبر 2019، في الجولة التي سمّاها العدو الصهيوني آنذاك “عملية الحزام الأسود”.
فمن الضفة الغربية إلى غزة، ومن بؤرة جنين النوعية إلى الكوادر العسكرية المتقدمة لحركة الجهاد في القطاع، تدل مسارات حركة العدو، عسكرياً وأمنياً، على أن حركة الجهاد هي المستهدف رقم واحد في فلسطين. وينعطف على ذلك تركيز أجهزة التنسيق الأمني مع الاحتلال في الضفة الغربية، في المرحلة الراهنة، على أولوية استهداف حركة الجهاد بالذات وبيئتها الحاضنة.
يغطي الإعلام الغربي والصهيوني وبعض العربي مثل ذلك التوجه ضد حركة الجهاد على أنه جزءٌ من الحرب على “إيران ونفوذها في المنطقة”، لا باعتباره حملة اجتثاث لفصيلٍ عربيٍ فلسطينيٍ أصيل ذي باعٍ طويل في مقارعة الاحتلال الصهيوني. ويتسق مثل ذلك الخطاب تماماً مع مشروع بناء تحالف “عربي”-صهيوني لمواجهة إيران و”أذرعها”، من اليمن إلى لبنان إلى فلسطين.
العينُ، إذاً، على عزل حركة الجهاد سياسياً عن بيئتها الطبيعية، ومن ذلك رميها زوراً بـ”نشر التشيع” في غزة أو في غيرها. لكنّ الحقيقة هي أن حركة الجهاد تحظى بالكثير من التعاطف في الشارع الفلسطيني لأسباب سياسية صرف، لا صلة لها بإيران سلباً أو إيجاباً، ولا حتى بتدينها (السنّي)، إنما لكونها الفصيل الفلسطيني الأكبر حجماً الذي: أ – لا يعترف بحق الكيان الصهيوني بالوجود، ب – لا يتعاطى ترهات “الدويلة الفلسطينية” و”حدود الـ67″ وقرارات “الشرعية الدولية ذات الصلة” وإلى ما هنالك من هراء، ج – لا يصارع على حصة ومغانم في “السلطة الفلسطينية” التي تبقى مرجعية قيامها اتفاقية أوسلو.
ومن هنا، لا تزاحم حركة الجهاد أحداً على مناصب سلطوية، ولا على مقاعد في المجلس التشريعي لسلطة أوسلو، ناهيك بالكنيست الصهيوني، لا سمح الله.
تحفل الساحتان الفلسطينية والعربية بالقوى والشخصيات التي تتبنى مثل هذا الموقف المبدئي أيضاً، والذي يفترض أنه بوصلة عامة بالمحصلة، لكنّ حركة الجهاد تختلف في أنها الأكثر فاعليةً وحضوراً ميدانياً في مواجهة العدو الصهيوني، وبالتالي الأكثر استحضاراً للأمل في إمكانية استعادة حركة النضال الفلسطيني عملياً إلى جادة الصواب، جادة الميثاق الوطني الفلسطيني غير المعدل، والميثاق القومي من قبله.
ومن البديهي أن هناك أيضاً من يتعاطف مع حركة الجهاد كفصيل فلسطيني مقاوم ذي فعالية ميدانية عالية، انطلاقاً من فكرة دعم مناهضة الاحتلال عموماً، حتى لو لم يتفق مع خطها السياسي عموماً، أو مع رفضها لعقلية “تجزئة قضية فلسطين” إلى 48 و67 وشتات.
لذلك، أصبح تعطيل تلك الفاعلية الميدانية المتميزة الهدف العملياتي رقم واحد، لا للعدو الصهيوني فحسب، بل لكل من بنى وجوده على الانخراط في مشروع تسوية أو تعايش مع العدو الصهيوني في المنطقة.
ولا يخرج عنه النظام التركي، أكبر مطبع في المنطقة منذ عقود، ولا تخرج عنه حركات تزعم أنها إسلامية، مثل حزب العدالة والتنمية في المغرب، لم تتورع عن توقيع اتفاق تطبيعي مع العدو الصهيوني عندما ظنت أن ذلك يحافظ على استمرارية بقائها في الحكومة.
وهي فاعلية معدية، بالمناسبة، فمن ينافس حركة الجهاد في الوعاء الفلسطيني، عليه أن يجاريها ميدانياً، حتى لو كان يضمر نفَسَاً تسووياً. وهذا، بدوره، يرفع السقف النضالي في الساحة الفلسطينية ككل، ما يفيد الشعب الفلسطيني وقضيته بمقدار ما يتصاعد ويصبح مقياساً عاماً، لأنه يحاصر دعاة التسوية والتطبيع ويشل تذبذب الانتهازيين.
وهذا يفسر سياسياً بعضاً من استهداف قيادات حركة الجهاد العسكرية صهيونياً، بين يومي الجمعة والأحد في غزة، واستهدافها يومياً في جنين وسائر الضفة منذ سنوات.
حول محاولة الاستفراد بحركة الجهاد
تتمتع حركة الجهاد اليوم بتعاطفٍ وتأييدٍ كبيرين، حتى ضمن أطياف وطنية فلسطينية مستقلة وقومية عربية ويسارية قد لا تتفق مع السياسة الإيرانية في كل المواضع، وقد لا تتفق مع حركة الجهاد ذاتها أيديولوجياً، وهذا مهمٌ جداً لأنه:
أ – يحصن فلسطين من تجريدها من أحد أكثر فصائلها جذريةً في هذه المرحلة، ومن محاصرتها وإسقاطها شعبياً.
ب – يحصن حركة الجهاد كفصيل مقاوم إزاء مخطط عزلها سياسياً ووطنياً، ومن محاولة تخفيض سقفها ودفعها إلى الانخراط في لعبة “المحاصصة” عوضاً عن برنامجها، برنامج التحرير والعودة.
أدرك حزب الله في لبنان هذه النقطة قبل سنوات، ولذلك اهتم بالأطر الوطنية المستقلة والقومية واليسارية التي تدعم المقاومة، وتناهض مشروع صهينة لبنان وأمركته، حتى لو كانت تختلف عنه عقائدياً، وحتى لو كانت تختلف مع بعض المواقف الإيرانية خارج سياق التناقض الرئيسي مع العدو الصهيوني.
ويأتي الإصرار على هذه النقطة هنا لأنها تجهض استراتيجية “الاستفراد” بقوى المقاومة الواحدة تلو الأخرى سياسياً، بعد عزلها شعبياً، ما يمهد للاستفراد بها أمنياً وعسكرياً. ولذلك، كانت لمشاركة بعض الفصائل في غزة في المعركة الأخيرة، مهما بلغ حجم تلك المشاركة، أهمية كبيرة في منع استراتيجية الاستفراد بالجهاد من تحقيق أهدافها سياسياً، بمقدار ما أعطى الالتفاف الشعبي الواسع في فلسطين والخارج حول غزة في معركتها، التي قادتها حركة الجهاد بعداً وطنياً فلسطينياً لا تخطئه العين. وهذا إنجازٌ وطنيٌ مقاومٌ لأنه أعاق الاستراتيجية الصهيونية، ولأنه مثل نموذجاً للوحدة الميدانية المقاتلة.
كان لا بد لحركة الجهاد في غزة، بدورها، من منع الاستفراد بامتدادها التنظيمي وذراعها المسلحة وحواضنها في الضفة الغربية وأسراها الذين يجري التنكيل بهم في سجون الاحتلال، ومنهم الأسير خليل العواودة، المضرب عن الطعام منذ 149 يوماً عند لحظة كتابة هذه السطور.
ولذلك، هددت حركة الجهاد المستعمرات الاستيطانية المحاذية للقطاع بعد اختطاف الاحتلال للشيخ بسام السعدي في جنين، أحد أهم قادة الحركة في الضفة. ولم يكن بالإمكان إلا ما كان، وإلا أن تهرع حركة الجهاد في غزة لمساندة الضفة، منعاً للاستفراد بها، وتثبيتاً لمعادلة الردع، مهما كانت التضحيات. وكان تثبيت معادلة الردع النقطة التي ركز عليها السيد حسن نصر الله في تعليقه على نتائج معركة غزة الأخيرة، بعد إعلان وقف إطلاق النار ليلة الأحد.
في البعد الاستراتيجي لمعركة غزة الأخيرة
يرى البعض أن حاجة رئيس الوزراء الحالي للكيان الصهيوني، يائير لابيد، إلى تأمين المزيد من الأصوات قبيل انتخابات الكنيست، التي ستجري في 1 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، ربما تكون الدافع الأهم خلف عملية اغتيال قائد شمال غزة في “سرايا القدس”، تيسير الجعبري، عصر يوم الجمعة الموافق 5 آب/أغسطس الفائت.
وربما يكون مثل هذا العامل الانتخابي قد ألقى بثقله في توقيت التصعيد الصهيوني في غزة، لا في التوجه العام للمؤسستين الأمنية والعسكرية في الكيان الصهيوني. فالأساس بالنسبة إلى الكيان هو العمل على تقليص قدرة حركة الجهاد على تهديد الكيان الصهيوني وتعطيل سيرورة الحياة الطبيعية فيه، ومن هنا تلا استهدافَ تيسير الجعبري استهدافُ عددٍ من القيادات العسكرية لـ”سرايا القدس” أبرزهم قائد المنطقة الجنوبية في غزة خالد منصور.
يمثل العدوان الصهيوني الأخير على غزة، في الواقع، استمراراً لما يسمّيه استراتيجيو الكيان الصهيوني “معركة بين الحروب”، وهي استراتيجية تقوم على استهداف قدرات الدول والحركات التي يعدها الصهاينة معادية لهم منهجياً، بحيث يمنعونها من الإخلال بـ”ميزان الردع” الذي يحاول المحتل فرضه، من خلال تحديد “التهديدات الناشئة” وتدميرها انتقائياً في المهد، باستخدامٍ مركبٍ وتفاعليٍ للأدوات العسكرية والأمنية.
تحكم هذه الرؤية الأمنية السلوك العدواني للكيان الصهيوني من البرنامج النووي الإيراني إلى المسرح السوري إلى المقاومة الفلسطينية داخل فلسطين وخارجها؛ ويمكن أن نضيف مسرح العمليات اللبناني إلى هذه القائمة، إلا أن حزب الله تمكن فعلاً من فرض معادلة ردع عسكرية مقابلة من جهته، ما حوّل “الحرب بين الحروب” التي يشنها العدو الصهيوني في لبنان إلى مستويات أخرى، غير عسكرية، لا تقل ضراوةً وخطورةً.
وتقترن هذه الرؤية الأمنية الحاكمة لعقلية صناع القرار في الكيان الصهيوني ببرنامج سياسي يقوم على فرض الرضوخ الكامل على الشعب الفلسطيني خصوصاً، وعلى المحيط العربي عموماً، لكي يتقبل “حق” الكيان الصهيوني في الوجود، وفي التوسع الاستيطاني في الضفة، وتهويد القدس والمقدسات وعموم فلسطين والجولان، بالتوازي مع إقامة علاقات تطبيعية غير مشروطة من المغرب حتى البحرين تسمح للكيان الصهيوني بالتغلغل سرطانياً في المحيط العربي، وصولاً إلى تحويله إلى “شرق أوسط جديد”، مفكك، ومفتقد للهوية.
لا مشروع تسووياً، فإما المقاومة وإما الاستسلام
أثبتت العقود الفائتة أن الكيان الصهيوني لا يمتلك استراتيجية سياسية للتصالح مع المحيط، بل يمتلك استراتيجية إخضاع تقوم على إضعافه وتقويض عناصر قوته و”كي وعيه” وتشويش بوصلته ودفعه إلى الاستسلام غير المشروط. وإذا وضعنا مخططات التفكيك والتلاعب بالتناقضات الداخلية والحرب الإعلامية والثقافية جانباً، فإن التشدد الصهيوني سياسياً أمرٌ جيدٌ جداً؛ لأنه يكشف عورة دعاة التسوية مع الصهاينة سياسياً ويحرج المطبعين ويعريهم.
وما التطبيع، في الواقع، إلا غطاءٌ سياسيٌ لما يقوم به الاحتلال من مجازر وتهويد، من غزة إلى غيرها. وها قد رأينا، على سبيل المثال لا الحصر، ما جنته السلطة الفلسطينية من نحو 3 عقود من مسيرة أوسلو والتنسيق الأمني مع الاحتلال. ومع ذلك، فإن هناك من يروج للتطبيع بذريعة تحقيق التقدم التكنولوجي… وكأن العدو الصهيوني جمعية خيرية لتوزيع التكنولوجيا المتقدمة على العرب لا يمنعنا عنها إلا “انغلاقنا” إزاءه!
لم تتغير العقيدة الاستراتيجية الصهيونية منذ ما قبل تأسيس الكيان الصهيوني. وهي تقوم على اعتبار الدول العربية كافةً إما تهديداً كائناً أو كامناً لوجود الكيان، ومن لا يمثل تهديداً الآن، فإنه مرشح للتحول إلى تهديد بفعل التغيرات الداخلية عنده، إذا استيقظ الرأي العام أو إذا تغير نظامٌ ما. ولذلك، فإنه يعمل بشكل حثيث على ضرب الجميع استباقياً، حتى المطبعين منهم، على تعطيش مصر، وعلى شطب عروبة دول الخليج من خلال الدفع دولياً باتجاه منح المقيمين غير العرب فيها حقوقاً سياسية، وعلى ضرب العراق بالقوة العسكرية الأميركية، وعلى تدمير ليبيا وسوريا واليمن، وعلى ذبح الشعب العربي الفلسطيني وتشويه وعيه واختراقه بالطروحات التسووية والتعايشية.
كان الكيان الصهيوني مكشوفاً بين عامي 1948 و1967، في العقيدة الاستراتيجية الصهيونية، لأنه امتد طولياً بصورةٍ غير ملائمةٍ للدفاع، وقابلة لشقه إلى نصفين عند أقصى غرب الضفة الغربية، قبل احتلالها عام 1967، لا سيما في شمالها من جهة أقصى غرب محافظات جنين وطولكرم وقلقيلية، وفي جنوب الضفة، من الجهة الجنوبية الغربية لمحافظة الخليل التي لا تبعد كثيراً عن قطاع غزة. هذا يعني أن الكيان حتى مع الضفة الغربية يفتقد لعمقٍ استراتيجيٍ كافٍ. ومن هنا، بناء ما يسمى “الجدار العازل”، الذي يشكل خطاً دفاعياً ثانياً في الواقع، أمام هجوم مفترضٍ بالدبابات، أو أمام زحفٍ بشري.
أما خط الدفاع الخارجي للكيان، فهو غور الأردن الذي يعمل العدو على قدمٍ وساقٍ على تهويده وتعزيز الاستيطان فيه، كما يعمل على تهويد الجولان وتعزيز الاستيطان فيه، والذي يمثل امتداداً للغور شمالاً من جهة سوريا.
الانسحاب من الضفة إذاً، أو إلى ما يسمى “حدود الـ67″، يمثل كابوساً استراتيجياً في العقيدة الاستراتيجية الصهيونية، لا يوجد حزب صهيوني رئيسي واحد يفكر فيه بجدية. ولذلك، فإن أقصى ما يمكن الحصول عليه، ضمن مشروع التسوية المزعوم، هو اسم “دويلة” باطنها حكم ذاتي محدود على جزء من السكان، كما نرى بعد 30 عاماً من أوسلو.
فلا انسحاب من الضفة، والغور تحديداً، مع أو من دون قيد أو شرط، ومن يهزم الصهاينة، لماذا يقبل بالضفة الغربية وحدها؟ ومن لا يهزمهم، فلن يأخذ منهم شيئاً. ومن يتوازن معهم استراتيجياً فلن يعطوه ما يساعده على التغلب عليهم استراتيجياً في مرحلة لاحقة. وعليه، فإن مشروع التحرير الكامل وبرنامج عروبة كل أرض فلسطين يبقى الخيار الأكثر عقلانيةً على المستوى الاستراتيجي، وحتى نملك القوى الكافية لتحقيق مثل ذلك المشروع، فإن المقاومة وحرب المواقع لاستنزاف العدو والعمل بشكل حثيث على تعديل ميزان القوى يبقى الخيار المنطقي الوحيد.
ليست الخسائر المادية للكيان هي الأهم
ركز البعض خلال الجولة الأخيرة في غزة، وفي معركة “سيف القدس” قبلها، على الخسائر المادية والاقتصادية للكيان الصهيوني خلال تلك المعارك. وهذا على قدرٍ ما من الأهمية، لكنّ الغرب والحركة الصهيونية العالمية أكثر من قادرين على تعويضها. الأهم من الخسائر المادية والمالية هو تعطيل دورة الحياة الطبيعية والمدنية في كيان يسعى للظهور بمظهر القوة الإقليمية المتفوقة القابلة للتحول إلى قوة عظمى. فإذا بدا غير مستقرٍ وغير آمن، فإنه يبدو هزيلاً وسخيفاً تحت لافتة تفوقه المزعوم.
ليس المستعمرون المستوطنون مثلنا، فهم غير متعودين على الصعوبات ونكد الانقطاعات وعلى التعطيل المطول للحياة الطبيعية، وعلى تهديد أمنهم الشخصي، ولذلك فإن أثر المقاومة هنا هو تقويض ثقة المحتلين بأنفسهم وبـ”دولتهم” ودفعهم إلى الهجرة المعاكسة.
ولذلك، يسعى العدو الصهيوني دوماً لئلا تطول معاركه كثيراً، وأن يحسمها بأسرع وقت ممكن. وهذه نقطة يجب أخذها بعين الاعتبار، فكلما طالت المعركة، ازداد العبء النفسي والسياسي والاستراتيجي عليه، فعنصر الاستنزاف هو الذي يخيفه أكثر من غيره، والتهديدات التي تطلقها المقاومة، في لبنان أو فلسطين، تدفعه إلى الاستنفار، وهذا يعني تحويل الاحتياط من الحياة المدنية إلى العسكرية، والنزول إلى الملاجئ، ووقف حركة الطيران والقطارات، إلخ… ولهذا يكفي أن تنفذ المقاومة تهديداتها مرة كل 10 مرات، ما دام التهديد قابلاً للتصديق، لكي تستنزف العدو 10 مرات، فإذا تراخى، فإنها الفرصة السانحة. ويأخذ بعض المعلقين على السيد حسن نصر الله كثرة إطلاق التهديدات ضد الكيان، ولكنه يعرف ماذا يفعل تماماً هنا.
العنصر البشري هو نقطة ضعف الكيان الصهيوني الأساسية. ولذلك، تعتمد أغلب قواته العسكرية على الاحتياط. فجيشه النظامي نحو 170 ألفاً، والاحتياطي نحو 500 ألف. وسبقت الإشارة إلى أن الاستنفار يعني تعطيل الاحتياط، وأن ذلك مرهقٌ إذا استمر طويلاً، فكيف نجعله يستمر أكثر من أسبوع أو أسبوعين؟ وكيف يمكن أن نجعله يستمر أشهراً مثلاً؟ هذا ما يجب التفكير فيه بجدية، مع أن أسبوعاً أو أسبوعين أفضل من السماح للمحتل بالاستقرار في أرضنا المحتلة والتنعم بثرواتها هانئاً. فلا مزايدة هنا أبداً، إنما سعيٌ نحو الأفضل. وبورك من يعطل الحياة الطبيعية في الكيان ولو يوماً واحداً.
أخيراً، من الطبيعي أن تسعى المقاومة إلى تطوير ترسانتها الصاروخية نوعياً، وأن تطور أداءها بما يسمح بتجاوز القبة الحديدية وأخواتها الأكثر تطوراً. لكنْ، ثمة تكتيك سبق أن لجأت فصائل المقاومة إليه هو القنبلة البشرية، وميزته أنه يستهدف نقطة الضعف الأهم لدى العدو الصهيوني: العنصر البشري.
وسبق أن اشتعل حوارٌ حول فاعلية مثل ذلك التكتيك ومشروعيته في الساحة الفلسطينية قبل 20 عاماً، كتبت خلالها سلسلة مقالات دعماً لتكتيك القنبلة البشرية، لأنه بالفعل أقوى سلاح في مواجهة المستعمر المستوطن إذ يضع العدو في حالة هستيرية، إن استمرت زمناً كافياً، فإنها ستدفعه إلى الرحيل لا محالة، كما أن ذلك السلاح هو التعبير الأسمى عن حقيقة الصراع باعتباره صراعاً تناحرياً مع المحتل الغاصب لا يحل إلا هكذا.
وفي زمن التكفير، نقل العدو الصهيوني تكتيك القنبلة البشرية للاستخدام ضد المدنيين العرب، فأين دعاة زهق أرواح المدنيين العرب من المحتلين الغاصبين في فلسطين اليوم يا ترى؟
لعل الفارس الفلسطيني الذي ينطلق منفرداً ضد المحتل الغاصب بسكينٍ أو بسيارةٍ أو بمسدسٍ صغير هو ارتجالٌ شعبيٌ للتعويض عن الفراغ الذي تركه التوقف عن استخدام تكتيك القنابل البشرية في فلسطين ضد المحتلين الغاصبين، ولكنه ما برح خياراً ممكناً ومتاحاً وفعالاً، وهم يقتلوننا كل يوم، ويرتكبون المجازر لا عن طريق الخطأ، بل كجزءٍ من “استراتيجية الردع” التي يتبنونها، معتقدين أن المجازر ترفع تكلفة المقاومة إلى حدودٍ غير محتملة، وتؤدب البيئة الحاضنة، وبين أيدينا سلاحٌ ثبت أنه يؤلم العدو أكثر من شيء آخر، فلمَ نتردد في استخدامه؟ لأن الغرب الذي يدعم الكيان الصهيوني وهو يرتكب المجازر يقول إنه سلاح “غير حضاري”؟ أهلاً وسهلاً.
المصدر: الميادين