اجتمعت على السودانيين المشكلات من كل صوب، على النحو الذي جعلهم ملزمين بتسديد ضريبة مزدوجة؛ الأولى نتيجة حالة التخبط والانقسام والفراغ السياسي، والثانية نتيجة تقاعس الدولة عن القيام بالأدوار المطالَبة بها.
على مدى 3 أعوام، لم تهدأ الأمور في السودان، ومعدل الانقسام السياسي يزداد، بالتوزاي مع اتساع رقعة الاحتجاجات الميدانية والمشاورات داخل غرف الاجتماعات المغلقة، وسط إحساس المواطن العادي بضآلة مكاسبه وارتفاع حجم خسائره نتيجة لحالة الاضطراب الأمني، والارتفاع المستمر في الأسعار، وغياب الاستقرار.
توترات لا تنتهي
في كانون الثاني/يناير 2022، تقدم عبد الله حمدوك باستقالته من رئاسة الحكومة السودانية، تاركاً المنصب شاغراً حتى اليوم، وسط محاولات من المجلس العسكري لتعيين مسؤولين لسد الفراغ في عدد من الوزارات، بصورة موقتة، من دون الإقدام على تعيين رئيس للحكومة.
عقب استقالة حمدوك، نزل السياسيون المدنيون إلى شوارع العاصمة الخرطوم ليرفعوا شعارات “لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية”، معلنين في ذلك رفضهم إجراءات المؤسسة العسكرية، التي كان يُفترض بها تسليم السلطة في موعد أقصاه عامان من تاريخ رحيل البشير، واصفين الخطوات، التي اتخذها رئيس مجلس السيادة، الفريق عبد الفتاح برهان، والتي كان أبرزها أحداث 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021، بالسلوك الانقلابي.
وكمحاولة لتلطيف الأجواء المشتعلة واكتساب ثقة المحتجين وإعادة الهدوء إلى الشارع السياسي، أعلن الجيش، مطلع تموز/يوليو من العام الجاري، الانسحاب من المفاوضات السياسية لإفساح المجال أمام الأحزاب والقوى السياسية والحركات الثورية لتتوافق على حكومة مدنية، يتمّ بعدها حل مجلس السيادة وتشكيل مجلس للأمن والدفاع، ينحصر من خلاله عمل القادة العسكريين.
لاحقاً، تواترت تطمينات من المؤسسة العسكرية بزهد قادتها في السلطة، في ظل دعوات موجَّهة إلى القوى المدنية إلى التوافق على تشكيل حكومة تصرّف أمور البلاد فيما تبقّى من الفترة الانتقالية.
قابلت الحركات السياسية السودانية إعلان الجيش بالتشكيك والطعن في النيّات. وجاء، في بيان قوى الحرية والتغيير، أن “قرارات قائد السلطة الانقلابية هي مناورة مكشوفة وتراجع تكتيكي. وواجبنا جميعاً هو مواصلة التصعيد الجماهيري، في كل وسائله السلمية، من اعتصامات ومواكب والإضراب السياسي، وصولاً إلى العصيان المدني الذي يجبر السلطة الانقلابية على التنحي”.
إلّا أنّه، مع حلول منتصف آب/أغسطس، وكنتيجة لتدخل الوسطاء الدوليين والإقليميين، بدأت الصحافة السودانية تنشر أخباراً عن مشاورات مكثفة غير رسمية بين القوى السياسية لاختيار رئيس وزراء من بين 10 مرشحين، تمهيداً لتشكيل حكومية انتقالية متوافَق عليها. ومع ذلك، ثمة انقسام ملحوظ في الآراء بين القيادات السياسية بشأن جدوى تشكيل حكومة من دون أخذ الضمانات الكافية التي تحول دون تدخل العسكريين مجدداً في الحكم، ودون تحصين المطالبات السياسية دستورياً، الأمر الذي يبشّر باتساع أمد أزمة الفراغ السياسي الذي تعيشه البلاد.
فيضان مائي.. وتصحّر سياسي
الأزمة الكبرى في السودان هذا الصيف أنه لم يكن، فقط، على موعد مع تلك الموجات السياسية الحارّة التي أنهكت طاقة البلد وقدرته على التماسك، وإمكان تشكيل حكومة راسخة لتصريف شؤون مواطنيه، بل إنه كان أيضاً يستقبل موسماً جديداً من الفيضانات التي خلّفت حتى الساعة ما يقارب 100 قتيل، بخلاف المصابين ومَن تضرروا من جرّاء هدم منازلهم!
بحسب الإعلانات الدورية التي تنشرها السلطات السودانية، تكون حصيلة الضحايا الذين لقوا مصرعهم في الفيضانات هذا العام أكبر من ضحايا العام الماضي، والذين بلغ عددهم 80 قتيلاً، وتكون أسباب الوفاة عادة إمّا غرقاً، وإمّا صعقاً بالكهرباء، وإمّا بسبب سقوط أسقف المنازل، الأمر الذي يُعَدّ مؤشراً خطيراً على تطور الآثار المترتبة على أزمة متكررة، بمعنى أنها متوقعة، بحيث يبدأ موسم الأمطار في السودان خلال شهر حزيران/يونيو، ويواصل حتى نهاية أيلول/ سبتمبر، بينما تبلغ الفيضانات ذروتها تقريباً في آخر شهرين من تلك الفترة. وعلى الرغم من هذا، فإنّ السلطات تفشل في الاختبار، وتعجز عن حماية المواطنين من الهلاك.
إلى جانب الخسائر في الأرواح، تقول الإحصاءات إن الفيضانات تسبّبت بأضرار مادية كبيرة، إذ دمرت، بصورة كاملة، نحو 20 ألف منزل في مختلف أنحاء البلاد، بينما أتلفت نحو 25 ألف منزل، على نحو جزئي. وتشير إحصاءات الأمم المتحدة إلى أنّ الآثار الناجمة عن الفيضانات تسببت بأضرار لأكثر من 146 ألف شخص يعيشون في ولايتي الجزيرة ونهر النيل (واللتين كان لهما نصيب الأسد)، فضلاً عن ولايات أخرى، مثل جنوبي دارفور وغربي دارفور والقضارف والنيل الأبيض وسنار وكسلا.
يقول الخبراء البيئيون إن عدداً من مناطق السودان مهدَّد بحدوث تدهور بيئي شامل، مع الوصول إلى حدّ الفيضان، وارتفاع معدلات هطول الأمطار، بحيث يتوالد الذباب والناموس، بالإضافة إلى ظهور التماسيح النيلية، بالتوازي مع نقص في المياه الصالحة للشرب ولأغراض المعيشة الأخرى، الأمر الذي يهدّد بانتشار الأوبئة، كالنزلات المعوية والإسهال والحمى، فضلاً عن مخاطر تعرض كثير من المشرّدين للدغات الزواحف والحشرات السامة، على نحو يهدّد الحياة الطبيعية للسودانيين.
ويخشى المواطنون ازدياد معدل تدهور الأوضاع الإنسانية والبيئية في ظل الإمكانات الحكومية المحدودة والصعوبات الكبيرة، التي تواجه المنظمات المتطوعة، على نحو يشمل الهيئات الدولية، وخصوصاً أن الخرطوم باتت على حافة الفيضان بعد وصول مستوى ارتفاع النيل الأزرق إلى 16.5 متراً، وبدأت المياه فعلياً تتسرّب داخل أحياء في جنوبي العاصمة. وجاء ارتفاع المنسوب إلى هذا الحد بسبب ضيق مجرى النيل الأزرق عند العاصمة، كنتيجة للتوسع العمراني غير المدروس عند ضفّتَي النهر.
وتكشف مواقع التواصل السودانية حالة قلق واسعة تنتاب المجتمع هناك بسبب الإخفاق المتكرر في توفير البنية التحتية اللازمة لتصريف المياه، ومنع ركودها في الشوارع، بالإضافة إلى عدم تشييد ما يلزم من سدود لحماية البلاد من الغرق. كما تفشل الأجهزة المعنية في الدولة في توفير الخيام والغذاء والأدوية اللازمة لمن فقدوا منازلهم ويعيشون في العراء، ويعانون غياب الإجراءات اللازمة للتصدي لحدث بيئي يُفترض أن الجميع كان يوقن بحدوثه!
على الصعيدين العربي والدولي، سعت عدة دول لمد يد العون إلى السودان من أجل تخطي الصعوبات التي يواجهها عبر توفير المواد الغذائية ومستلزمات الإيواء. ومن بين تلك الدول الإمارات ومصر والسعودية وقطر.
معاناة المواطن السوداني المزدوجة
اجتمعت على السودانيين المشكلات من كل صوب، على النحو الذي جعلهم ملزمين بتسديد ضريبة مزدوجة:
الأولى، نتيجة حالة التخبط والانقسام والفراغ السياسي، وهي الحالة التي تسببت ببقاء البلاد نحو سبعة أشهر حتى الآن من دون رئيس حكومة، بالتوازي مع تراجع الخدمات وانخفاض القيمة الشرائية للعملة المحلية. وهي حالة مشابهة لما عاناه عدد من الدول العربية، التي تخلصت من أنظمتها القديمة بعد عام 2011، ثم عجزت عن بناء نظام جديد يلبي طموحات الشارع، نتيجة أسباب متنوعة، بعضها يعود إلى الحركات الثورية ذاتها، وعدم قدرتها على جمع شتات برامجها وتوحيد أهدافها وتقديم مصلحة المواطن على أي مصلحة جانبية. وبعض الأسباب الأخرى يعود إلى قدرة النظام القديم على المقاومة، وعرقلة مساعي التجديد، ناهيك بالتدخلات الخارجية.
أمّا الضريبة الثانية، فهي نتيجة لتقاعس الدولة عن القيام بالأدوار المطالَبة بها على مدى عقود، بالصورة التي أدّت إلى دخول السودان العشرية الثالثة من القرن الحادي والعشرين، بينما تغرق شوارعه وتتهدّم منازله ويموت أبناؤه بسبب التدهور، أو بالأحرى الغياب للبُنى التحتية والمؤسسات الخدمية والطبية، القادرة على مقاومة المخاطر الناجمة عن واحدة من الكوارث المتكررة في البلاد، نتيجة هطول الأمطار وارتفاع منسوب مياه الأنهار.
المصدر: الميادين