الرغبة السعودية الكبيرة في التقارب مع “إسرائيل” نابعة من التفكير في أن تثبيت أنظمة الحكم لا يأتي إلا بعد استرضاء القوى الكبرى المهيمنة في المنطقة، وذلك باتفاقيات أمنية واقتصادية في الدرجة الأولى، كضامن أساسي لتحقيق الاستمرار في الحكم.
الصحافة الإسرائيلية كشفت على مدار العقد الماضي عن 3 زيارات سرية قام بها رؤساء من جهاز الموساد للرياض
بترحيب إسرائيلي كبير، وتأييد أميركي رفيع المستوى من الرئيس الأميركي جو بايدن، أعلنت هيئة الطيران المدني السعودية رسمياً فتح المجال الجوي السعودي لجميع الناقلات الجوية الإسرائيلية. مثل هذه الخطوة العلنية جاء بعد مسلسل طويل من العلاقات السعودية الإسرائيلية السرية، كخطوة على طريق خطوات علنية أكثر جرأةً مستقبلاً.
علينا أن نثبت حقيقة أصبحت مكشوفة، وهي أن العين الإسرائيلية كانت على السعودية منذ توقيع البحرين والإمارات اتفاقيات تطبيع مع “إسرائيل”، على اعتبار أنها المركز المحوري في منطقة دول الخليج، إذ إنَّ التطبيع مع السعودية، من وجهة نظر إسرائيلية، سيشكّل فتحاً للبوابة ودفعة كبيرة حتى تتقدم دول عربية أخرى نحو التطبيع وإقامة علاقات رسمية مع “إسرائيل”.
قد يسأل سائل: ما الجديد في الإعلان عن فتح المجال الجوي السعودي مباشرة مع “إسرائيل”، في وقت كانت الصحافة الإسرائيلية كشفت على مدار العقد الماضي عن 3 زيارات سرية قام بها رؤساء من جهاز الموساد الإسرائيلي للعاصمة السعودية الرياض مباشرة على متن طائرات خاصة، كان آخرها زيارة بنيامين نتنياهو، رئيس المعارضة الإسرائيلية الحالي، إلى مدينة نيوم، ولقاء ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بحضور وزير الخارجية الأميركي!
الجديد هو أن السعودية بدأت تتهيأ فعلاً لمرحلة جديدة من التحول والانتقال في التطبيع الأمني والاقتصادي بينها وبين “إسرائيل” من السر إلى العلن. وقد تجسَّدت الخطوة الأولى بالإيذان الرسمي بانطلاق الشرارة الأولى للتطبيع السعودي مع “إسرائيل” بمباركة أميركية منذ لحظة إقلاع طائرة الرئيس جو بايدن في 16 تموز/يوليو الماضي مباشرة من “تل أبيب” إلى السعودية.
هذه النّتيجة أكَّدها معهد الأمن القوميّ الإسرائيليّ في تقرير نشره حديثاً، قال فيه إن زيارة الرئيس بايدن لـ”إسرائيل” والسعودية أثارت مرة أخرى مسألة تطبيع العلاقات بين الطرفين، وإنه كان واضحاً منذ عام 2020 أن الرياض تعمل بنوع من “التطبيع الزاحف” لتمهيد الطريق بما يضمن الانفتاح المتزايد مع “إسرائيل”. وقد سُجل تغيير تدريجي في السّعودية فيما يتعلق بمسألة العلاقات مع “إسرائيل”. مثل هذا السيناريو تعزز أكثر منذ أن تولّى محمد بن سلمان منصبه ولياً للعهد.
وصول التطبيع السعودي إلى ذروته سيكون أسرع مما يتخيله البعض أمام التوجهات الواضحة لولي العهد الذي سيمسك بزمام مقاليد الحكم في المرحلة المنتظرة التي ستخلف حكم الملك سلمان، في ظل المواقف الواضحة التي يتبناها تجاه “إسرائيل”، والتي عبر عنها بمواقف سابقة، ووصفها بالحليف المحتمل للسعودية، وهي أقوى إشارة على طبيعة المسار الجديد الذي ستشهده السعودية بالذهاب نحول التطبيع الشامل والكامل مع “إسرائيل”.
من حيث التوقيت، إن خطوة فتح الأجواء السعودية أمام الطيران الإسرائيلي بشكل تام ليست عبثية. لا شيء يمضي من دون توقيت في “إسرائيل”، إنما هي خطوات تحضيرية تندرج وفق رؤية ودراسة وفهم إسرائيلي أميركي، وهما تعملان بقصد على تهيئة الأجواء العامة في منطقة الشرق الأوسط عامة، وفي السعودية خاصة، للمرحلة القادمة، لقبول التطبيع العلني الشامل في اللحظة المناسبة.
علم السياسة قائم على مبدأ واضح يرى أنّ السياسة هي فنّ الوصول إلى المصالح، ويشير إلى أنّ أي دولة تريد الإقدام على أي خطوة لا بدَّ لها من دراسة جدواها وأهدافها والمصالح التي ستحققها، ثم سيحققها الطرف الثاني المعني بالمعادلة، لكن إذا ما نظرنا إلى واقع الدول العربية التي طبعت مع “إسرائيل” سابقاً، وحتى السعودية حالياً، فقد ثبت من الواضح أن هذه الدول تعمل على تحقيق رؤية أميركية إسرائيلية في الدرجة الأولى، بعيداً من قراءة التوقيت والمصالح والأهداف ومدى الجدوى من الذهاب إلى خطوة التقارب مع “إسرائيل”.
كما هو معروف، إن إيران دولة قوية تتمتع بمكانة ليست هينة في المنطقة، وفيما لو طُرح تساؤل افتراضي مهم عن مصلحة الدول التي تتهافت نحو التقارب مع “إسرائيل” وتوقيع اتفاقيات تطبيع معها مثلاً بشكل عام، ومصلحة السعودية من التقارب مع “إسرائيل”، وما ستحققه من وراء مثل هذه الخطوة، فالمنطق يقول إنها لن تجني ثماراً سوى عداوة إيران التي ترفض التطبيع رفضاً قاطعاً، وتعد “إسرائيل” كياناً سرطانياً يهدد المنطقة ويجب اجتثاثه.
الشماعة التي تعلق عليها السعودية موقفها وروايتها دوماً فيما يسمى “مبادرة السلام العربية” كاشتراط لحل القضية الفلسطينية، ثم الذهاب بعدها إلى التطبيع مع “إسرائيل”، تعد اشتراطاً غير واقعي أمام الواقع الذي صنعته “إسرائيل” بإعادة احتلالها الضفة الغربية والسيطرة الكاملة على مدينة القدس وإعلانها عاصمة لها. هذا من جهة.
أما في الجهة المقابلة، فهي تجاه الدول التي رعت هذه المبادرة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي لم تعد على أجندتها هذه المبادرة، ولم تتبنَّها فعلياً، ولم تطرح أي برنامج آخر ينصّ على حلول سياسية للقضية الفلسطينية. وبناء عليه، فإن حال الاشتراط السعودي أصبحت بلا قيمة وغير منطقية في الطرح نفسه أمام السلوك السعودي المتدرج للتقارب أكثر مع “إسرائيل”.
تاريخياً، هناك مسألة مهمة يجب توضيحها، فالتفسير الحقيقي لحال التقارب الخليجي الإسرائيلي وحال الهرولة السعودية المتواصلة تجاه التقارب مع “إسرائيل” لا يوجد لها سوى تفسير واحد لا ثاني له، هو أن هذه الأنظمة قائمة منذ مئات السنين على ما يسمى “استراتيجية الأمن المستورد”، وأنها تعتقد أنَّ تثبيت أنظمة الحكم لا يأتي إلا بعد استرضاء القوى الكبرى المهيمنة في المنطقة، وذلك باتفاقيات أمنية واقتصادية في الدرجة الأولى، كضامن أساسي وسبيل أمثل لتحقيق الأمن والاستمرار في الحكم، وبالتالي إن الرغبة السعودية الكبيرة في العمل والتقارب مع “إسرائيل” نابعة من هذا الهدف، وتندرج تحت هذا الإطار.
محاولات قلب الحقيقة تجاه إيران وتصنيفها بالعدو الأول في المنطقة وتبريرات بعض الدول بأنَّ الذهاب والتقارب مع “إسرائيل” نابع مما سموه “الحماية من الخطر الإيراني” هي أسطوانة مشروخة وتزييف للواقع ورواية لم تعد تنطلي على أحد، فالعدو الحقيقي هو “إسرائيل” بمشروعها وأطماعها المكشوفة، وهي التي تشكل تهديداً لكل دول المنطقة. ويعد استمرار جرائمها بحق الشعب الفلسطيني وأرضه ومقدساته أكبر دليل على تثبيت هذه الحقيقة.
وبناءً عليه، تبقى الهرولة السعودية نحو “إسرائيل” انسجاماً وتساوقاً مع رؤية أميركية يتم التجهيز لها تدريجياً بدمج “إسرائيل” واعتبارها “دولة” طبيعية في المنطقة.
المصدر: الميادين