الجمع بين الإسلام وفلسطين والجهاد كان المُبرّر الأساسي لنشأة حركة الجهاد الإسلامي قبل 4 عقودٍ من الزمن لتقوم بواجب القتال لتحرير فلسطين من الكيان الصهيوني، وهذا المُبرر ما زال موجوداً ما دامت فلسطين لا تزال “إسرائيل”.
تُحيي حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين في السادس من تشرين الأول/أكتوبر من كل عام ذكرى (الانطلاقة الجهادية) للحركة، وهو اليوم الذي حدثت فيه معركة الشجاعية عام 1987، التي استشهد فيها 6 مجاهدين للحركة في أثناء اشتباك مُسلّح مع قوة من جيش الاحتلال الإسرائيلي كانت تطاردهم في حي الشجاعية في مدينة غزة، بعد تنفيذهم بضع عمليات فدائية ناجحة.
فكان هذا الحدث الجهادي هو الأبرز في تاريخ الحركة منذ نشأتها في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، وكان دمهم الزكي هو الوقود الذي أشعل فتيل انتفاضة الحجارة الأولى، التي ظلت نيرانها تتصاعد وصولاً إلى (حادثة المقطورة) في كانون الأول/ديسمبر، لتنّتشر نارها في كل مدن فلسطين خصوصاً الضفة والقطاع، فكان السادس من تشرين الأول/أكتوبر هو اليوم الذي يرمز إلى تحوّل مشروع الحركة الجهادي المقاوم من الحالة الحركية التنظيمية إلى الحالة الشعبية الجماهيرية، فاتُخذ مناسبة تُحيي فيها الحركة ذكرى (الانطلاقة الجهادية) لها.
قبل تاريخ (الانطلاقة الجهادية) كانت الحركة حواراً فكرياً وسياسياً، ثم تحوّلت إلى حراك سياسي وتنظيم جهادي مقاتل؛ كان الحوار بين مجموعة من الطلبة الفلسطينيين في جمهورية مصر العربية في نهاية سبعينيات القرن العشرين، أبرزهم وقائدهم المفكر الشهيد فتحي الشقاقي، وكان هذا الحوار يدور حول إشكالية مزدوجة الاتجاه: اتجاه تمثله الحركة الوطنية الفلسطينية ممثّلة في فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، مضمونها تغييب الإسلام كمرجعية فكرية لنضالها السياسي، ونظرية ثورية لكفاحها الوطني. واتجاه تمثله الحركة الإسلامية الفلسطينية ممثّلة في جماعات الإخوان المسلمين، وحزب التحرير، والدعوة، والسلفية، مضمونها تغييب فلسطين كقضية مركزية في برامجها الدعوية والتربوية، وتؤجل الجهاد المُسلّح كوسيلة للتحرير انتظاراً لاكتمال الإعداد والتربية، أو قدوم الخلافة، أو تطهير المجتمع من المنكرات، فأبدع الشقاقي في حل هذه الإشكالية فجمع بين الإسلام كمرجعية ومنطق، وفلسطين كقضية وهدف، والجهاد كوسيلة ونهج، فكانت محاور: الإسلام وفلسطين والجهاد كلمات السر التي أبدعت حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، حركة وطنية بمرجعية إسلامية، وحركة إسلامية قضيتها المركزية وطنية.
الجمع بين الإسلام وفلسطين والجهاد كان المُبرّر الأساسي لنشأة حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين قبل 4 عقودٍ من الزمن لتقوم بواجب القتال لتحرير فلسطين من الكيان الصهيوني، وهذا المُبرر ما زال موجوداً ما دامت فلسطين لا تزال “إسرائيل”، وما دامت هناك حاجة إلى صوت أصيل للإسلام وفلسطين والجهاد داخل فلسطين والأمة، صوت الإسلام الحضاري والوسطي والثوري، في مقابل الإسلام الآخر المتوّحش والمُتطرف والمُهادن، صوت فلسطين الكاملة والموّحدة: أرضاً وشعباً وقضية ومقاومة، في مقابل فلسطين الأُخرى المُقسّمة بقرار (الشرعية الدولية) وفلسطين المُجزأة إلى شقي الوطن بصيغة (توافقية وطنية مشتركة)، وصوت الجهاد والمقاومة الثابتة على المبادئ والحقوق، في مقابل نهج المساومة، وجوهره التعايش مع الاحتلال، أو نهج المناورة، وجوهره تأجيل الاشتباك مع الاحتلال.
صوت الإسلام الأصيل هو حاجة ضرورية دائمة في فلسطين، ولذلك سعت الحركة لتُقدم رؤية منهجية متجدّدة لفهم الإسلام والتاريخ والواقع، ليكون العمل الإسلامي مُثمراً، ولتقدم إسهامات فكرية تتجاوز حال الجمود الفكري التي أشلّت الفكر الإسلامي والعمل الإسلامي في كل قضايا العصر فلسطينياً وعربياً وإسلامياً، وتسعى ليكون الإسلام هو الحل والمرجعية للإجابة عن إشكاليات الأمة، وأن يكون الإسلام رسالة الأمة وروحها وهويتها، ومُحرّك تاريخها، وصانع مجدها، ومحرك ثوراتها، ومُجدّد حيويتها، الإسلام الذي يدفع معتنقيه إلى الثورة على المُنكر في كل صوره ممثلاً في احتلال أجنبي، واستبداد سياسي، وتطرف ديني، واستغلال اقتصادي، وظلم اجتماعي، وفساد أخلاقي، وجمود فكري..
فقدّمت في هذا الإطار من خلال فكر مؤسسها إسهامات فكرية في قضايا العصر التي تخص الإنسان والمرأة والثورة والتغيير والتراث والتجديد والتاريخ والتربية والحرية والثقافة.. إضافة إلى إسهامه المركزي المُبدع (المشروع الإسلامي المعاصر) كمشروع لتحرير الأمة ونهضتها ووحدتها وعالميتها انطلاقاً من مشروع تحرير فلسطين.
الإسلام الأصيل الذي تسعى حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين لتكون صوتاً له في فلسطين والأمة يقابله الإسلام الآخر بوجهيه المُهادن والمتوّحش، فالمهادن أهم نماذجه (الإسلام الأميركاني) كما أطلق عليه المُفكر الإسلامي سيد قطب، وهو الإسلام الذي لا يقاوم الاستعمار والظلم والطغيان ولا يثور على الاحتلال والاستبداد والفساد، الإسلام الذي يخضع معتنقوه للاستعمار الأميركي طواعية، ويتعايش أهله مع الاحتلال من دون كراهية.. إسلام يزرع في النفوس القابلية للاستعمار، ويغرس في العقول الرضى بالاستحمار، ويروّض السلوك على الخضوع للاستكبار..
الإسلام الأميركاني بصيغته الجديدة الإبراهيمية، ليتخذ من فكرة المشترك الديني (إبراهيم)، مُدخلاً إلى قبول فكرة التعايش مع “إسرائيل” كدولة طبيعية مهيمنة في المنطقة العربية والإسلامية، وتطوير فكرة التطبيع الثقافي ليأخذ بُعداً دينياً وطابعاً شرعياً.
الوجه الآخر للإسلام الآخر، الذي ترى حركة الجهاد الإسلامي أنّه تشويه للإسلام هو (الإسلام المتوّحش) بصورته الداعشية وأخواتها المتطرفة التكفيرية، التي تخدم الاستعمار الصهيو_أميركي في المنطقة وتحرف بوصلة الجهاد عن فلسطين من خلال فكر التكفير، وعمل التقتيل، ونهج التفريق.. الفكر والعمل والنهج، هي نتاج للتطرف الديني، والتعصب المذهبي، والجمود الفكري، والاستبداد السياسي. واعتقادهم أنَّ اجتهادهم في فهم النص الديني هو الإسلام نفسه يُكفر مخالفه؛ وليس اجتهاداً داخل دائرة الإسلام. وحصيلة لفكرة (جماعة المسلمين) المستمدة من عقيدة (الفرقة الناجية) التي تختزل مفهوم الأمة في الحزب أو الجماعة، وليس في كل المسلمين كأمة واحدة على اختلاف لغاتهم وقومياتهم ومذاهبهم.
عندما كتب المُفكر الشهيد فتحي الشقاقي كتابه (الخميني.. الحل الإسلامي والبديل) في نهاية السبعينيات، جعل الحل الإسلامي هو الأصيل وغيره هو البديل، فكوّن منظومة فكرية ونظرية ثورية محورها الإسلام وفلسطين والجهاد، الأساس الذي أُقيمت عليه حركة الجهاد الإسلامي، كتجاوز إبداعي لحالة السكون في الساحتين الإسلامية والفلسطينية، وهذا التجاوز تطلب خوض معركة على جبهتين: البدائل العلمانية المتغرّبة المرتبطة بالاستعمار فكرياً، ومع ما سمّاه الشقاقي: “الأجنحة المتخلّفة في الحركة الإسلامية نفسها التي عجزت عن فهم نفسها والآخرين والعصر والعلاقات القائمة..” وبهذا الفهم المتجاوز كان الجهاد الإسلامي بمثابة رؤية حضارية داخل الحركة الإسلامية وقوة تجديد داخل الفكر الإسلامي، وفهم متميز للعلاقة بين الإسلام وفلسطين.
المصدر: الميادين