التحدي الميداني للمقاومة يقيد إسرائيل عن تحقيق أهدافها التوسعية
العين برس/ مقالات
توفيق سلاّم
تتسع نذر الحرب الإقليمية وتتصاعد وتيرتها في منطقة الشرق الأوسط، خاصة بعد الضربة الإيرانية الصاروخية على إسرائيل وتهديد الأخيرة بأن الرد سيكون مدمرًا. في الوقت الذي تبدو فيه المواقف الدولية متناقضة ومتباينة، لايقاف هذا الاهتراء، وإلزام إسرائيل بوقف الحرب على الشعبين الفلسطيني واللبناني، فكل المبادرات والمساعي السياسية وجهود الوساطات لوقف الحرب تبوء بالفشل، وحتى قرار مجلس الأمن الدولي، ضربت به إسرائيل عرض الحائط، لتمضي في مسلسل جرائمها الإنسانية في مسرح مواجهة لا ينتهي، ترفع سقوفه على مستوى إقليمي مع إيران.
قيادة قاطرة المواجهة
هناك استماتة حقيقية في مقاومة المحتل، وإعداد الذات لقيادة قاطرة المواجهة على الأرض، وما يهم هو الأصطفاف والتلاحم السياسي والشعبي في معركة المصير الواحدة في مواجهة المشروع الاستيطاني الذي تدعي الصهيونية اليهودية بأن حدودها من الفرات إلى النيل. فهل تستوعب الأنظمة العربية أبعاد المشروع الاستيطاني، وأن المحتل لن يتوقف عند حدود فلسطين ولا في الأراضي العربية التي احتلتها في حرب 1967؟ الخطر محدق على الجميع، ويبدو أن ردم هوة التباينات، وتجسيرها هو الأهم لتجاوز الخطر، في مواجهة الصلف العدواني الفاشي المنتقم من كل عربي وإسلامي، ومن هويته الجغرافية والتاريخية. كل العرب معنيون بهذه المواجهة، وهم من سيدفع الثمن، في حال استمرار هذا النكوص. اليوم المقاومة في خط الدفاع الأول، الموقف يستدعي وحدة الجبهة الداخلية في الإرتباط الوثيق بوحدة الموقف في الدفاع عن سيادة لبنان وحق الشعب الفلسطيني في نيل استقلاله، وترك المشاريع المتنافرة حد التوهان خارج أولويات اللحظة الفاصلة في التصدي للمشروع الاستعماري الصهيوني- الأمريكي ضمن الدائرة الأكبر في الهيمنة على المنطقة وإعادة تقسيمها ضمن خارطة شرق أوسط جديد، تكون فيها إسرائيل قد تهيأت لها مناخات التطبيع مع السعودية، ومع بقية الدول العربية في إطار ما يسمى الدمج الكلي. هذه الأماني الأمريكية-الصهيونية لاتمضي بذات السرعة اللتان تريدهما، للقضاء على المقاومة بجناحيها الفلسطينية- اللبنانية، مستغلة الداخل المستغرق بتشعباته، واشتغال كل طرف على حدة بمشروعه السياسي الخاص وبحواضنه، وهذا ما يلعب عليه الصهاينة والأمريكان بمزيد من التفكك الداخلي، ومنع أي توجهات لتشكيل موقفًا واحدًا، في التئام وحدة الصف. وهذا ما يجب أن يقف عليه الجميع لضرورة اللحظة في تجسير المواقف أولاً قبل توحيد البندقية، وطرح خطة عمل في توحيد الجبهة الداخلية، وما الذي تتوافق عليه مسبقاً بشأن ضمان وحدة الموقف، وإعادة صياغة مصفوفة النضال تفصل بين الثانوي والرئيس، في سياق واحدية الهدف في مواجهة المحتل، ودخول المعادل الوطني إلى قلب الأحداث بدلاً من شرنقة الإنعزال والتنمل، والنأي بالنفس، وكأن ما يحدث لا يعني أحدًا. هذه المكونات السياسية، يفترض تقديم نفسها كجسم موحد سياسياً، وعسكرياً في إدارة الحرب، بما يصوب وجهة الجهد السياسي والدبلوماسي والعسكري ويوحد البندقية، ومالم تنهض بتلك الأولوية فإن العالم الاستعماري الداعم لإسرائيل، سيخلص إلى تداعيات خطيرة على المنطقة لتصبح إسرائيل صاحبة النفوذ والهيمنة على المنطقة، وامتداد مشروعها الاستيطاني لتأسيس إسرائيل الكبرى. وهذا الحديث لا يعني القوى السياسية في الداخل اللبناني والفلسطيني، بل الأنظمة العربية، وأن المنطقة ليست بحاجة لدول متخاذلة وفاشلة تنأ بنفسها عن اللحظة التاريخية واستحقاقها في المواجهة المشروعة التي تدنوا فيها من السقوط الوشيك، والخاتمة المأسوية، في هذا الانكسار، لتسليم شعوبها للإرتهان المذل لسحق كرامتها، وتفجر حروب أهلية وانقسامات عرقية وطائفية وإثنية، وتجزئة للمجزأ، بما في ذلك من تعظيم المخاطر على الهوايات. هناك شيئان ملحان يجب حسمهما: التوافق وتضيق هوة الإفتراق بين المشاريع السياسية الضيقة، بالتفاهم على آلية وشكل إدارة الخلافات ورسم إطار للعمل المشترك على قاعدة المواجهة بضمانات مافوق وطنية، والقضية الأهم تحديد هوية العدو الأول الصهيوني ومشروعه الاستعماري في المنطقة.
فائض القوة
ما يحدث الآن في المشهد الإسرائيلي هو تعبير واضح عن أزمة هيكلية في مشروعه الاستعماري، الذي يعتمد على فائض القوة والتكنولوجيا العسكرية لتحقيق أهدافه التوسعية. يمكن قراءة هذا السلوك الإسرائيلي على أنه يعكس نرجسية القوة وعقيدة التوسع التي تهيمن على النخب السياسية والعسكرية، وخاصة في حكومة اليمين المتطرف بزعامة الليكود. فتتصرف وكأنها في “عصرها الذهبي”، مدفوعة بتوهم أن سياستها يمكن أن تحقق تفوقًا استراتيجيًا دائمًا في المنطقة، خاصة في ظل الدعم اللامحدود من الولايات المتحدة وأوروبا الاستعمارية. إلا أن التحدي الميداني الذي تمثله المقاومة، سواء في غزة أو جنوب لبنان، أثبت أنه يمكن أن يقيد قدرة إسرائيل على تحقيق أهدافها التوسعية. وهذه الحرب لا تستهدف المقاومة فقط، وإنما هي ضد الشعبين اللبناني والفلسطيني، وتوظيف عناصر القوة في التوسع الاستيطاني في غزة والضفة الغربية، وجنوب لبنان، وباتجاه الأراضي العربية، وهذا ما يصرح به المسؤولون الاسرائيليون والحاخامات اليهودية.
المقاومة، رغم كل الصعوبات، هي من تواجه هذه التحديات بثبات، لتعطيل وتحجيم المشروع الاستيطاني، ما يجعل من الصعب على إسرائيل تحويل أوهامها إلى إنجازات حقيقية على الأرض. فالسلوك الإسرائيلي المتصاعد تجاه لبنان يشير إلى أن الهدف ليس فقط إعادة المستوطنين إلى شمال فلسطين، وإنما إنشاء منطقة عازلة في عمق الأراضي اللبنانية، وتشترط فك ارتباط حزب الله بحماس، ويتعدى ذلك إلى الهدف التدميري الأكبر بفكفكة النسيج الداخلي، وهو ضمن أولويات أهدافه للقضاء على حزب الله، وتدمير بنيته التحتية، أو على الأقل نزع سلاحه وحرمانه من القدرة على تهديدها حاليًا وفي المستقبل. ونفس الحال ينطبق على الوضع الداخلي في فلسطين.
ضرب أضلاع المقاومة
يبدو أن “إسرائيل” لم تستفد كثيراً من دروس التاريخ، حيث تعود إلى الغوص في وحل المواجهات البرية مع حزب الله، التي بالكاد نجت منه في السابق. وهي تعي أن ضرب أضلاع محور المقاومة لم يُجدِ نفعاً في كسر هذا المحور، رغم استخدامها للقوة التدميرية المفرطة في فلسطين ولبنان واليمن وغيرها. وبالتالي، تزداد قناعة “إسرائيل” بضرورة ضرب “الرأس” مباشرة، أي إيران، لقطع كل أشكال الدعم الذي تتلقاه حركات المقاومة من طهران. ومن هنا، يمكن فهم السلوك الاستفزازي الإسرائيلي تجاه إيران، باغتيال الشخصيات السياسية وبعض القادة البارزين، وصولاً إلى الخطابات الاستعراضية لنتنياهو في الأمم المتحدة، وهذا يعني أن “إسرائيل” تحاول جر إيران إلى مواجهة مباشرة تُستخدم فيها هذه الاستفزازات كذريعة لفتح حرب شاملة معها وتصفية حساباتها مع البرنامج النووي الإيراني، في ظل ما تعتبره “فرصة تاريخية” لا يجب أن تُهدر.
حرب استنزاف
المشهد الميداني في المواجهة بين المقاومة، متمثلة بحماس وحزب الله من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، أصبح يمثل حرب استنزاف طويلة الأمد. هذا النوع من الحروب يحمل في طياته عواقب كبيرة، ليس فقط على المدى القريب، ولكن أيضًا على استراتيجيات الأطراف المتحاربة ومستقبل المنطقة ككل. هناك عدة عوامل يمكن من خلالها قراءة هذا المشهد:
1.المقاومة، سواء في غزة أو جنوب لبنان، تتبع استراتيجية استنزاف تعتمد على العمليات المتكررة والمكثفة التي تستهدف إضعاف قدرات الجيش الإسرائيلي وإجبار الحكومة الإسرائيلية على التعامل مع تحديات عسكرية مستمرة. هذا النوع من المواجهة يتسبب بإرهاق اقتصادي ونفسي داخل المجتمع الإسرائيلي، خاصة إذا استمرت الهجمات وتسببت في تعطيل الحياة اليومية واستنزاف الموارد الدفاعية.
2.إسرائيل تميل إلى تفضيل العمليات العسكرية الحاسمة والسريعة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية. ولكن في حالة حرب الاستنزاف الحالية، تجد إسرائيل نفسها في مواجهة خصوم يتكيفون مع استراتيجيتها ويستغلون نقاط ضعفها. حماس وحزب الله يعرفون أن استمرار الضغط وتوجيه ضربات محددة قد يُرهق إسرائيل، ويجعل تحقيق انتصار عسكري حاسم أمرًا صعبًا، خاصةً إذا كانت هناك مواجهات على جبهات متعددة.
3.الحرب طويلة الأمد لها تكلفة باهظة على الداخل الإسرائيلي، سواء على المستوى الاقتصادي أو النفسي. مع ازدياد عدد القتلى أو وقوع إصابات في صفوف المدنيين الإسرائيليين واستمرار حالة الطوارئ الدائمة يؤثر سلباً على تماسك مجتمع المستوطنين والدعم الشعبي للحكومة. قد يؤدي ذلك إلى أزمات سياسية داخلية، حيث يمكن أن يُسأل المسؤولون عن جدوى هذه العمليات الطويلة وعدم قدرتهم على إنهاء الحرب.
4.من جهة أخرى، المقاومة تستفيد من هذا الوضع عبر تعزيز صورتها كقوة صامدة تستطيع مجابهة واحدة من أقوى الجيوش في العالم. استمرار القتال وإبقاء المعركة مفتوحة يزيد من دعم الجماهير لها، ويعزز شرعيتها كقوى تدافع عن الأراضي الفلسطينية واللبنانية والعربية. هذه الديناميكية تعطي المقاومة المزيد من النفوذ السياسي والاجتماعي.
5.استطالة أمد الحرب يفتح الباب أمام تدخلات إقليمية ودولية قد تعقد الوضع. فالدول الحليفة للمقاومة، مثل إيران وسوريا، قد تزيد من دعمها العسكري واللوجستي، بينما تتزايد الضغوط الدولية على إسرائيل لإنهاء الحرب أو التفاوض على تسوية سياسية. هذا قد يؤدي إلى المزيد من التوترات في المنطقة أو حتى إلى تصعيد أكبر إذا ما تورطت قوى دولية أخرى.
6.إذا استمرت حرب الاستنزاف بدون تحقيق أهداف إسرائيلية واضحة، ستجد إسرائيل نفسها في وضع استراتيجي حرج، مع الخسائر العسكرية والاقتصادية، إلى جانب الضغوط الدولية المتزايدة، قد تؤدي إلى انحسار النفوذ الإسرائيلي في المنطقة وتآكل قدرتها على فرض إرادتها. وهذا سيتعين على إسرائيل، في نهاية المطاف، اللجوء إلى الحلول السياسية والدبلوماسية التي كانت ترفضها في بداية الحرب.
استهداف البرنامج النووي الإيراني
ضرب البرنامج النووي الإيراني هو أحد الأهداف الاستراتيجية الكبرى لإسرائيل، وقد سعت مراراً للحصول على دعم أمريكي للقيام بعملية عسكرية تستهدف تعطيل أو تدمير هذا البرنامج. لكن يبدو التعقيد الذي يحيط بالموقف، ليس من المؤكد أن إسرائيل يمكن أن تتجرأ على تنفيذ ضربة بهذا الحجم دون حساب دقيق للعواقب، إلا في حالة أن تشن إسرائيل هجمة كبيرة، ومشتركة مع الولايات المتحدة واحتمال حلف الأطلسي بضربة مميتة وقاتلة، لا تتوقف إلا بالاجهاز الكلي والشامل على كافة النقاط الحيوية، بحيث لا تقوم لإيران قائمة بعدها، ذلك أمر متوقع وهناك تنسيق مشترك مع الإدارة الأمريكية. ويبدو أن أحد أكبر المخاوف التي تعيق أي تحرك إسرائيلي هو الرد الإيراني المحتمل. إيران لديها قدرات صاروخية متقدمة تستطيع أن تستهدف المفاعلات النووية الإسرائيلية والمصالح الحيوية للطاقة ومصانع إنتاج الأسلحة والقواعد العسكرية والمراكز الأمنية والاستخبارية. وفي ظل وجود تهديد مباشر للمصالح الحيوية، فإن احتمالية التصعيد الإقليمي تصبح واقعية للغاية. فأي رد إسرائيلي، قد يعقبه على الفور رد إيراني مباشر، مما قد يشعل حربًا متعددة الأوجه يصعب احتواؤها.
الموقف الأمريكي
الإدارة الأمريكية لا تخفي موقفها الداعم لإسرائيل، وهي معنية بتطور الأحداث وإدارتها، لذلك فهي تدرك جيداً هذه المخاطر، ومن هنا يتضح أنها تميل حتى الآن إلى استخدام الدبلوماسية والعقوبات كأدوات رئيسة في مواجهة إيران. واشنطن تخشى أن تؤدي ضربة إسرائيلية إلى تصعيد أكبر، لأن الرد الإيراني قد يكون قاسيًا وسريعاً، ولا يمكن التنبؤ بتداعياته. خاصة إذا تمكنت إيران من امتصاص الهجمات المركزة على المراكز الحساسة، فقد يكون الرد الإيراني مباغتًا في نفس التوقيت على الرد الإسرائيلي، هنا تصبح كل الخيارات مفتوحة.
إضافةً إلى ذلك، هناك اعتقاد، لدى إسرائيل بأن إيران قد تكون أقرب إلى امتلاك القدرات النووية، وهذا ما يصرح به بعض المحللين الاسرائيليين، سواء على سبيل الدعاية، أو المخاوف المفترضة، وهو ما يزيد من مخاطر أي ضربة عسكرية، إن كانت إيران بالفعل تمتلك قنابل نووية أو قريبة من ذلك، فإن التهديد بتصعيد نووي سيكون واقعاً مرعبًا، وهذا يضعف من جدوى أي هجوم على البرنامج الإيراني. وفي ظل هذا الوضع المعقد، فإن الولايات المتحدة تجد نفسها أمام معضلة، بوقوفها إلى جانب إسرائيل في أي تصعيد عسكري، فستُعتبر شريكًا في الحرب، مما يضعف قدرتها على لعب دور دبلوماسي بعد اندلاع الحرب، فسيكون الوقت متأخراً جداً، وقد تكون المنطقة قد دخلت في حالة فوضى يصعب السيطرة عليها.
وفي الأخير، فإن إسرائيل تواجه صعوبات في اختراق المقاومة وتتكبد خسائر كبيرة، وهي مرتبكة وتنتقل بتغطية عجزها وفشلها باستهداف المدنيين، بحجة ملاحقة عنصر ما من حزب الله مقابل تدمير حي سكني بأكمله، فأي تشريع دولي يجيز لها هذه الوحشية، إن لم يكن المقصود هو الشعب اللبناني. ومن غير المحتمل أن تخاطر إسرائيل بضربة ضد إيران دون دعم أمريكي صريح، ولا يبدو أن الإدارة الأمريكية مستعدة لدخول هذه اللعبة الخطيرة التي قد تشعل المنطقة بأسرها.