المأزق السياسي للكيان الصهيوني، الذي أظهرته الانتخابات الإسرائيلية، هو الوجه السطحي من المأزق، الذي يُخفي تحته طبقات من المأزق أكثر عُمقاً.
انتهت الانتخابات الإسرائيلية بتقدّم معسكر نتنياهو، على معسكر خصومه، وهي الانتخابات الخامسة داخل الكيان الصهيوني خلال 4 أعوام، وأفرزت كتلة حزبية يترأّسها شخص مُتهَم بــ 3 قضايا فساد من الدرجة الأولى.
وجود انتخابات عامة في الكيان الصهيوني طريقة ديمقراطية لتداول السلطة وتغيير القيادة وتجديد الإدارة. وهي أحد عوامل البقاء ومصادر القوة التي يتمتع بها الكيان. ويبقى الدعم الغربي والضعف العربي أهمَّ أسباب الوجود واستمرار البقاء للكيان.
والانتخابات الإسرائيلية العامة، وإنْ كانت من عوامل القوة للكيان، فإنها، من خلال تكرارها وعجزها عن إفراز قيادة غير ملوّثة بالفساد، أعادت إنتاج المأزق الصهيوني وزادت فيه عُمقاً.
أحد جوانب المأزق الصهيوني هو مأزق النظام السياسي في الكيان الصهيوني الذي نتج منه إجراء 5 انتخابات عامة في 4 أعوام، فلم يعد هذا النظام قادراً على ولادة حكومة قوية تكمل مدتها الدستورية. وإذا تمت ولادة قيصرية للحكومة، فسرعان ما تنهار تحت تأثير ابتزاز الأحزاب الصغيرة، ولاسيما الدينية منها، فلقد انتهى عصر الأحزاب الكبيرة والمؤسِّسة والقائدة للكيان، وحلّت مكانها الأحزاب المتوسطة والصغيرة، والتي تتشكل بسرعة وتندثر بسرعة، والتي يُصعب تكتلها ويُسهل تفككها.
ولعلّ أهم مظهر للمأزق السياسي الإسرائيلي هو تمحور الحملة الانتخابية الحزبية الأخيرة حول شخص نتنياهو بين معسكرين، معه أو ضده، وليس حول القضايا المصيرية الكبرى للكيان الصهيوني، كالصراع على فلسطين أو “أرض إسرائيل”، وهوية “الدولة” وعلاقتها بالديانة اليهودية. ولعلّ العودة إلى نتنياهو، كخيار شعب لقيادة الدولة والشعب، تعني إفلاس الحركة الصهيونية والدولة العبرية من إفراز قائد جديد، كجيل الآباء المؤسِّسين، فتحوّل نتنياهو الفاسد، وفق المقاييس الإسرائيلية، إلى آخر “ملوك إسرائيل” إيذاناً بتفككها وزوالها.
المأزق السياسي للكيان الصهيوني، الذي أظهرته الانتخابات الإسرائيلية، هو الوجه السطحي من المأزق، الذي يُخفي تحته طبقات من المأزق أكثر عُمقاً، منها المأزق الأمني الوجودي للكيان، فهو آخر كيان استيطاني إحلالي عنصري في العالم، يعيش في وسط عالم عربي ـ إسلامي غريب عنه، ولا ينتمي إليه، ومُعادٍ له، ويرفض وجوده، وينكر شرعيته، على رغم تطبيع بعض الأنظمة العربية السطحي. وهو الكيان الوحيد في العالم، الذي يرى أن هزيمته العسكرية الحاسمة تمثّل تهديداً لوجوده الفعلي كدولة، ولم يستطع، منذ أكثر من نصف قرن، تحقيق نصر عسكري واضح على رغم قوته العسكرية – التقليدية والنووية – الهائلة، وأُخرج جيشه مهزوماً بقوة المقاومة من جنوبي لبنان وقطاع غزة، وعجز جيشه وأمنه عن توفير الأمن لمستوطنيه أمام عمليات الضفة وصواريخ غزة، حتى أصبح الكيان أكثر الأماكن خطراً على اليهود في العالم، الأمر الذي نقض الأساس الذي قام عليه المشروع الصهيوني وكيانه المغتصب لفلسطين.
المأزق الأمني الوجودي للكيان الصهيوني لم يكن ليوجد لولا وجود المقاومة من داخل فلسطين وخارجها، ولولا صمود الشعب الفلسطيني داخل فلسطين المحتلة من البحر إلى النهر. وهذا الوجود، الذي أصبح يساوي الوجود اليهودي الصهيوني، مقوِّضاً بذلك أحد أُسس المشروع الصهيوني من الجانب الديموغرافي، لا يستطيع الجمع بين المحافظة على أغلبية يهودية في كل الأرض، ولا يستطيع الجمع بين إقامة دولة يهودية مع دولة ديمقراطية، ولا يمكنه الذهاب إلى دولة واحدة أو حل الدولتين… وهذا المأزق الديموغرافي سيتعمّق في ظل صعود تحالف الصهيونية الأكثر تطرفاً في وجهيها القومي العلماني (الليكود) والقومي الديني (الصهيونية الدينية)، سواء أُقيمت “دولة اليهود القومية العلمانية”، كما يرى “الليكود”، أو “الدولة اليهودية القومية الدينية”، كما ترى “الصهيونية الدينية”.
التحالف الصهيوني العلماني والديني، والذي يقف على رأسه زعيم حزب الليكود بنيامين نتنياهو، مُصاب بعمى الأيديولوجيا الصهيونية، فلا يرى حقيقة المأزق الصهيوني، ولا يدرك عمق التفكك الذي أصاب تلك الأيديولوجيا، مثل: تَأَكُّل الروح الطلائعية، وتراجع القيم الجماعية، ونزع القداسة عن المُسلّمات الصهيونية، وعدم ذوبان التناقضات الداخلية، واستمرار الجدل الوجودي بشأن مستقبل “إسرائيل”، وهيمنة عُصاب المصير القومي على النخبة، وتكاثر عدد أنبياء زوال “إسرائيل” في أوساط المفكرين والسياسيين اليهود الصهاينة. وهذا التحالف، في تطرفه، قومياً ودينياً، وبما يحمله من عُقدة التفوّق القومي والاستعلاء الديني، سيزيد في التناقض داخل “المجتمع الإسرائيلي” في الكيان الصهيوني، ولاسيما بين العلمانيين والمتدينين، وبين الغربيين والشرقيين. والتطرف والتناقض هذان سوف يزيدان في الصراع والتفكك داخل الكيان الصهيوني.
تفكُّك الكيان الصهيوني من الداخل لا يكفي لزواله، ولا يعني انتظار ذلك. فهذا التفكك هو العامل الذاتي، الذي سيساعد على هزيمة الكيان وزواله، كما قال الله تعالى في “سورة الحشر”، عن بني إسرائيل: “يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ”، لكنّ العامل الأهم والرئيس موجود في تكملة الآية الكريمة “يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ”، فلا بدّ من أيدي المؤمنين المقاومين لاستكمال دائرة النصر، وهم الموصوفون في آية أخرى بالإيمان والقوة، كما قال الله تعالى: “عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ”، وهؤلاء المقاومون لا بد من انتظامهم في جبهة فلسطينية تأخذ على عاتقها مواصلة مشروع الصمود والمقاومة والتحرير، مدعومة بجبهة عربية ـ إسلامية، بوصلتها القدس، وهدفها فلسطين، ومحورها المقاومة.
المصدر: الميادين