أزمة اقتصادية متصاعدة، ركائزها التضخم والركود والديون والطاقة، تشغل بال القادة الأوروبيين والغربيين عموماً. الاقتصاد
إلى جانب المخاطر الكبرى التي تشعر بها الدول الأوروبية جراء تفاعلات الأزمة الأوكرانية، تشغل بال القادة الأوروبيين والغربيين عموماً أزمة اقتصادية تتصاعد حدّتها بسرعة على ضفتي الأطلسي، وعناوينها الكبرى هي التضخم، والركود وأزمة المديونية، فيما تشكل إمدادات الطاقة هاجساً أكثر خصوصيةً بالنسبة إلى الأوروبيين.
بالأرقام الجافة، تشير نسب التضخم العالمي حالياً إلى 10.1 في المئة في الاتحاد الأوروبي، وهي نسبة مرتفعة جداً تنذر بقسوة الأزمة المقبلة. واللافت أن الاقتصادات الكبرى في أوروبا هي التي تحوز أكبر نسب من التضخم، إذ بلغت في شهر سبتمبر/أيلول الفائت 9.9% في المملكة المتحدة التي خرجت من الاتحاد الأوروبي ولكنها اليوم تبدو الأكثر عرضةً لتفاعلات الأزمة المالية البازغة، وفي إسبانيا بلغت النسبة 8.9%، و10% في ألمانيا، 8.9% في إيطاليا (مع مديونية تبلغ 150% من الناتج المحلي الإجمالي)، 5.6% في فرنسا، فيما تراوحت بين 22% و24% في دول البلطيق، وزادت عن ذلك في دول أوروبية أخرى. ويرجّح أن تؤدي هذه الموجة المرتفعة إلى إغراق اقتصادات أكثر ضعفاً خارج منطقة اليورو، إضافة إلى تهديدها وحدة الاتحاد الأوروبي فيما لو فشلت المعالجات، واستمرت الضغوط الجيوسياسية وتبعاتها الاقتصادية في التفاقم، مع أفق سوداوي يستحوذ على عقول المفكرين الاستراتيجيين في أوروبا هذه الأيام، تحضر فيه الحرب النووية والتناحر على موارد الطاقة، وشح المواد الغذائية الأساسية وارتفاع أسعارها.
في آذار 2021، كان معدل التضخم في العالم 3.7 في المئة. وفي آذار 2022، بلغ 9.2 في المئة. الآن يقترب المعدل من 8% مع توقعات أن يختتم العام على نسبة 8.8%. البنك الدولي يتوقع أن يكون معدل التضخم عند نهاية العام 8.3%، (6.6% في اقتصادات الدول المتقدمة و9.5% في الاقتصادات الناشئة وتلك النامية).
بالنسبة إلى الأفراد والأسر، فإن شعورهم بوطأة التضخم يحدث عند ملاحظتهم إنفاق مزيد من الأموال على شراء المستلزمات الأساسية عينها، مقارنةً بما كانوا ينفقونه في السابق للحصول على الكميات نفسها. وهو ما يعبر عنه بالقوة الشرائية للأموال التي تملكها الأسر عند إتيانها عملية الاستهلاك للأغراض الأساسية.
هذه الحال، ومنذ مطلع عام 2022 تنسحب على كثير من المستهلكين في العالم الذين باتوا يلمسون هذه الملاحظة بنسبٍ متفاوتة. حيث انخفضت القوة الشرائية لمداخيلهم بنسبة زيادة معدلات التضخم في بلادهم، قبل أن تضيف الأزمة الأوكرانية عامل ضغط إضافياً على سلاسل التوريد، خصوصاً تلك المتعلقة بالطاقة والمواد الغذائية الرئيسة، التي أصبحت مجالاً تتنافس فيه الدول المتقدمة مع الدول النامية، وتمنعها من الوصول إلى هذه السلع الضرورية، في الوقت نفسه الذي ينمو فيه نسق اتجاه المستهلكين بما يتوافر من قدرة شرائية نحو السلع بدلاً من الخدمات، ما ينعكس سلباً على الاقتصادات التي تعتمد في حاجاتها الأساسية على الاستيراد.
لكن ما أسباب هذه الموجة التي وصلت في الولايات المتحدة وبعض أبرز الاقتصادات الأوروبية إلى مستويات قياسية لم تعرفها منذ عقود عديدة؟
في الواقع، لم يخرج العالم حتى اليوم من تأثيرات الأزمة المالية العالمية التي وصلت إلى ذروتها عام 2008. وهي وإن جرى تجاوزها من ناحية الأرقام كمنطلق ونقطة أساس لحساب نسب ومؤشرات الاقتصاد والمال، إلا أنها لا تزال حاضرة في أروقة صناعة القرار بتبعاتها، كأسبابٍ وبيئة حاكمة على المعالجات الاقتصادية والمالية حتى يومنا هذا. وهذا ما يقود إلى الاستنتاج بوضوح أن تلك الأزمة لا تزال حتى اليوم قادرة على إنتاج أزماتٍ أخرى. وبالتأكيد، فإن أسباب تلك الأزمة وأزمات اليوم في النموذج الاقتصادي الرأسمالي لا تتوقف عند كونها نتائج طبيعية للخلل البنيوي في بنية هذا النموذج، لم يجرِ تصحيحه ولا إيجاد العلاجات المستدامة له بعد، كما لم يجرِ في المقابل إيجاد بدائل حقيقية له.
لقد أثبتت الرأسمالية المتطرّفة التي توصف بالمتوحشة في العقود الثلاثة الماضية أنها ولّادة أزمات، كانت تحدث في السياقات الرأسمالية السابقة لانتصار العالم الرأسمالي على الاشتراكية، لكنّها اكتسبت نمطاً أكثر تسارعاً بعد تحقيق ذلك الانتصار، وباتت تدمّر نفسها ذاتياً بتسارعٍ مدهش، تفسّره أزمات التسعينيات من القرن الماضي، ثم أزمة عام 2008، ثم أزمة الديون الأوروبية عام 2011، ولن تكون آخرها الأزمة التي تطل اليوم بوجهها المخيف.
ومع تسريع جائحة “كوفيد 19” وتيرة اقتراب الأزمة، أنفقت الدول الكبرى ترليونات الدولارات على المؤسسات والأفراد لمساعدة الاقتصاد على مواجهة تبعات الجائحة، والتحفيف من احتمال حدوث انهيارات متسارعة. لقد كان ذلك نموذجاً عن تدخل الدولة بحدة في الاقتصاد، لكنْ لأسباب صحية واجتماعية، وكان لهذا الإنفاق آثاره فيها. إنه سبب آخر لأزمة التضخم الحالية.
الآن، يحذر رئيس البنك الدولي ديفيد مالباس من أن الاقتصاد العالمي قد يدخل في مستنقع الركود التضخمي فترةً من الوقت، ما لم تتمكن الاقتصادات الكبرى من زيادة الإنتاج بمعدلات قوية. لكن في مقابل ذلك، ولمعالجة نسب التضخم المرتفعة نفسها، ترفع المصارف المركزية أسعار الفائدة، وكنتيجة عكسية، يؤدي ذلك إلى مزيد من خنق الاقتصادات. ما يقود إلى معالجات تحمل في طياتها بذور تزخيم الأزمة بدلاً من حلها. صندوق النقد الدولي بدوره خفض توقعاته للنمو العالمي للسنتين 2022 و2023، وحذر من أن الاقتصاد العالمي ربما يكون على شفا الدخول في ركود قريباً.
ثم أضيفت إلى هذه البيئة السلبية، تبعات الأزمة الأوكرانية، بكل ما تحمله من أثقال على الاقتصادات الغربية بالدرجة الأولى، التي تجد نفسها اليوم ملزمةً مواجهة أزمتها الاقتصادية ووجهها المالي المتجسد في التضخم، وأزمة المديونية المتفاقمة، وفي الوقت نفسه عليها التزامات بمساعدة أوكرانيا مالياً.
في الولايات المتحدة، ليست الأمور بخير أيضاً، فقد ارتفع التضخم السنوي في أيلول/سبتمبر بنسبة 8.2٪ على الرغم من الزيادة الملحوظة في أسعار الفائدة، هذه الزيادة التي تشكل إحدى وسائل مكافحة التضخم، باتت تنذر بتزخيم أزمة الديون إذ إنها بعد تجاوزها حداً معيناً سوف تتحوّل إلى أعباء غير معقولة على المدينين. وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين أعربت صراحةً قبل أيام عن قلقها من فقدان السيولة في السندات الحكومية.
اقتصاد المملكة المتحدة أمام معضلة وتراس في مأزق
وفي المملكة المتحدة، تلوح أزمة أكثر سرعة وتأثيراً منها في أميركا، وضعت وزير الخزانة كواسي كوارتنج أمام ضرورة قطع زيارته للولايات المتحدة على وجه السرعة، والعودة إلى بلاده لمواجهة حتمية الاستقالة من منصبه. يحدث ذلك في لحظة يضطر فيها بنك إنكلترا إلى التوقف عن دعم السندات الحكومية، ثم يؤدي ذلك إلى انخفاض قيمة الأوراق المالية واضطرار الإدارة إلى زيادة العائدات مرة أخرى لجذب مزيد من المشترين، قبل أن يبدأ البنك المركزي بسحب السيولة من السوق، ما يؤدي إلى مزيد من تضييق الخناق على الاقتصاد.
ثم إذا تتابعت عمليات المعالجة على النسق نفسه، فستضطر السياسة النقدية إلى زيادة سعر الفائدة مرةً أخرى، ما يقود إلى مزيد من خنق الاقتصاد، في الوقت الذي تعاني فيه رئيسة مجلس الوزراء ليز تراس انطلاقة شديدة التعثر اقتصادياً، وانتقاداتٍ لاذعة لمعالجاتها التي ظهرت في الموازنة العامة، والتخفيضات التي اقترحتها في الوقت نفسه الذي تبدي فيه عداء شديداً للروس، وتعبّر بقوة عن “صهيونيتها”، كما وصفت نفسها في لقائها منظمات اللوبي الصهيوني.
يحدث ذلك على وقع إصابة صناديق التقاعد البريطانية بخسارات قاسية بسبب انخفاض قيمة سندات الحكومة البريطانية التي استثمرت فيها، مع عدم إمكان معالجة ذلك بزيادة ضخ النقود المطبوعة من دون التأثير في المعالجات المستمرة لأزمة التضخم. ما يعني توقف البنك المركزي عن طباعة النقود عند نقطة معينة، وترك صناديق التقاعد أمام خطر الإفلاس.
في هذا الوقت، بدأت معاناة الأوروبيين في موارد الطاقة، إذ ضاعفوا وارداتهم المرتفعة الثمن من كولومبيا وجنوب أفريقيا، وتستمر بلدانهم في زيادة عقوباتها على روسيا، والاتفاق مع الأميركيين على تحديد سقف لسعر النفط الروسي، تطبيق الحظر على واردات الطاقة الروسية ابتداءً من كانون الأول/ديسمبر المقبل، ما قابله الرئيس الروسي بإعلان أن بلاده لن تزود البلدان التي تحاول تطبيق سقفٍ لسعر النفط به. كل ذلك سيؤدي بالضرورة إلى تعثّر واردات أوروبا من الطاقة، وإلى مزيد من الارتفاع في أسعارها. ثم يصبح بعد ذلك ممكناً تخيّل انعكاسات ما سيحدث على أزمة التضخم خصوصاً في أوروبا، التي تبدو مسرعةً إلى أزمة من دون بدائل، مع ترجيح تركيز الولايات المتحدة على معالجة شؤونها بعد اشتداد الأزمة وانتهاء الانتخابات النصفية، ذلك أن الإجراءات، والنصائح الأميركية، التي تعطى الآن، تبدو شديدة المحدودية زمنياً، وغير قابلة للاستدامة.
قاطرة الاقتصاد الأوروبي تفتقد إلى الطاقة
في ألمانيا أيضاً تتجه المعالجات الحالية لنسب التضخم إلى رفع الفائدة وعرض السندات وسحب النقد من السوق، ما يضيف عاملاً سلبياً ضاغطاً على أكثر الاقتصادات الكبرى تأثراً بانحسار واردات الغاز الروسي، فسحب النقد من السوق سيؤدي إلى تراجع الاستهلاك واتجاه المواطنين إلى شراء السندات طمعاً بالفوائد المرتفعة عليها. وإن أدى ذلك إلى ضبط التضخم في المرحلة الأولى، فإنه بعد ذلك سيضعف أقوى الاقتصادات الأوروبية، ثم تالياً، ومع ضعف القاطرة الاقتصادية الأوروبية وخسارتها أحد أركان رفاهيتها، أي إمدادات الغاز الروسية، لن تكون هذه القاطرة قادرةً على سحب أكثر الاقتصادات ضعفاً في القارة، خصوصاً دول الجنوب الأوروبي المنزلقة شيئاً فشيئاً نحو أزمة المديونية المرتفعة، وهذا في سيناريو متشائم قد يكون مدخلاً إلى تضعضع الاتحاد الأوروبي على أقل تقدير.
لكن وللمفارقة، على الرغم من رفع معدلات الفائدة، يستمر الطلب على السندات الألمانية منخفضاً، ذلك أن ارتفاع معدلات التضخم في كل منطقة اليورو، متجاوزاً سعر الفائدة بمراتٍ عديدة، يؤدي إلى مناخٍ عام من عدم الثقة بفاعلية الإجراءات الحكومية، ما يتحوّل إلى خطر داهم، فيما لو زاد تفاعله، خصوصاً عندما ترتفع خطابات القطاعات العمالية والنقابات، ثم التيارات اليمينية المحتلة اليوم مكانةً مهمة في السويد وألمانيا وإيطاليا وفرنسا وغيرها.. مع كل هذه المعطيات، يبزغ خطر انفلات الأمور من عقالها بالنسبة إلى قادة الحكومات الحالية في أوروبا. خصوصاً مع تعارض السبب والنتيجة في الأزمة الحالية، المشكلة والعلاج، التضخم وطباعة النقود، حماية حركة الاقتصاد والديون وأسعار الفائدة، وهذه الأخيرة وصناديق التقاعد والرعاية..
أوكرانيا بحاجة دائمة إلى مزيد
وفي خضم هذه المعارك حامية الوطيس مع المؤشّرات الاقتصادية الباعثة على القلق، تتعمق الضغوط الآتية من الأزمة الأوكرانية، إذ تحتاج كييف في العام المقبل إلى نحو 57 مليار دولار لتغطية عجز الميزانية، ولمعالجة خساراتها في البنى التحتية الأساسية، خصوصاً في قطاع الطاقة، وقد أعلن رئيسها فولوديمير زيلنسكي حاجة بلاده إلى قروض بأكثر من خمسة مليارات دولار لتعويض مصادر الطاقة من الغاز والفحم. وإلى جانب كل ذلك، تطلب كييف بصورةٍ مستمرة إمدادات بالتجهيزات العسكرية والذخائر ووسائل القتال التي تزيد من تكلفة الصراع على الدول الغربية بموازاة اشتداد الأزمة الاقتصادية عليها. والآن باتت كوريا الجنوبية المصدر الأساس للذخائر إلى كييف، ما يعطي إشارة إلى تراجع قدرة العالم الغربي على تذخير معركة الأوكرانيين ضد الروس. في الوقت نفسه، تلف التوترات علاقة كييف بـ”ستارلينك” وصاحبها إيلون ماسك، ما قد يهدّد قدراتها العسكرية في مجال تصويب الأهداف العسكرية عبر الأقمار الصناعية. إلى جانب ذلك، خسرت كييف مورداً مالياً جراء توقّف تصدير الكهرباء منها إلى الاتحاد الأوروبي بسبب الهجمات الصاروخية.
أما بولندا فتطالب أيضاً بدعم أوروبيّ للاستجابة إلى أزمة الطاقة التي تعانيها، وهي واحدة من أكثر الدول الأوروبية حماسةً لمحاربة الروس اليوم، وقد صرّح رئيس مجلس مجلس وزرائها ماتيوز مورافيكي بأن بلاده لا تتلقى الدعم الكافي من الاتحاد الأوروبي لمواجهة أزمة الطاقة. وهو يعلن ذلك، بموازاة حدثين، أولهما وقف واردات النفط الروسي إليها قبل سائر الأوروبيين، والثاني إعلان وارسو تسرّباً في خط أنابيب الغاز “دروزبا” الذي يمر من روسيا إلى أوروبا عبر أراضيها.
قوى الشرق تزخم شراكاتها
في المقلب الآخر، ومع أعباءٍ اقتصادية، لا لبس فيها أيضاً، فاقمتها حاجات الإنفاق العسكري على المواجهة في أوكرانيا، وتكلفة مواجهة الحرب الغربية الشاملة عليها، تجد روسيا فضاءً شديد الرغبة في توطيد العلاقات بها، ويوفر لها بدائل مفيدة جداً عن السوق الأوروبية وما خسرته فيها. فمع تركيا تتجه روسيا إلى تعزيز مكانة أنقرة في سوق الغاز من خلال عرض تحويلها إلى منصة التوزيع الرئيسة للغاز الروسي إلى أوروبا، وهو المشروع الذي تعثر عقب إسقاط تركيا المقاتلة الروسية في الأراضي السورية قبل سنوات. الآن يجد الرئيسان الروسي والتركي مناسبات كثيرة لعقد القمم بينهما، ورسم خطوط الغاز البديلة من الشراكات المنهارة مع ألمانيا والأوروبيين.
وعلى وقع انعقاد “مؤتمر التفاعل، وإجراءات بناء الثقة بآسيا” (سيكا) في أستانة الكازاخستانية، وبعد العقود الهائلة مع كل من الصين والهند وإيران، التي عوضت ما كانت روسيا تصدره إلى أوروبا من الغاز تحديداً، ها هي موسكو توقع مذكرة تفاهم مع طهران بقيمة أربعة مليارات دولار لتطوير حقول النفط والغاز، وكذلك اتفاقية لبناء خطوط أنابيب ومنشآت لإنتاج الغاز الطبيعي المسال بقيمة 40 مليار دولار، في الوقت نفسه الذي تسعى فيه للمشاركة في مناقصة لبناء أول محطة للطاقة النووية في المملكة العربية السعودية.
بموازاة كل ذلك، تواصل موسكو وبكين ونيودلهي شراء الذهب من الغرب، توطئةً للتغيرات المطلوبة والمحتملة في النظام الاقتصادي الدولي، بماله ونقده وآلياته.
المصدر: الميادين