العين برس:
مع عنونة الولايات المتحدة للجانب الاقتصادي من المواجهة الكبرى مع روسيا بأنه حرب الخروج من التبعية لواردات الطاقة الروسية، وجدت واشنطن نفسها أمام ضغوط كبيرة على احتياطياتها الاستراتيجية من النفط.
أحدثت التطورات الميدانية اللافتة والمكاسب التي تضمّنتها لكييف في شرقي أوكرانيا، خلال الأسبوعين الفائتين، مساحة جدل جديدة لا تزال ناشطة، تمتدّ من المفاعيل الميدانية نفسها، إلى التداعيات المرتبطة بالموقفين الحربي والسياسي.
في الميدان، شنّت القوّات الأوكرانية هجوماً معاكساً شارك فيه عشرات الآلاف من الجنود، في خاصرة عسكرية ضعيفة من ناحية الانتشار الروسي في محيط مدينة خاركوف، الأمر الذي أعطى القوات الأوكرانية أفضليةً مكّنتها من تحقيق نتائج ملموسة. في الجبهة الجنوبية في خيرسون وزاباروجيا، حاولت القوات الأوكرانية تكرار السيناريو نفسه، إلّا أنها لم تفلح في تحقيق نتائج مفيدة. في المجمل، تكبّدت هذه القوات خسائر كبيرة في صفوفها، في مقابل المكاسب التي حققتها، والتي أعطت جرعةً معنويةً كبيرة لكييف ولحلفائها الغربيين، تم التعبير عنها في تصريحات المسؤولين الغرببين، وعلى رأسهم الرئيس الأميركي جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، عبر القول إن “الهجوم الذي انتظرناه طويلاً بدأ”.
لكن، في مقابل ذلك، ومع مرور نحو أسبوعين على هذه التطورات، لم تتبدَّ نتائج كبرى لهذا الهجوم، يمكن اتخاذها منعطفاً عسكرياً وسياسياً في مسار الحرب، بل إن التفاعلات السياسية العامة للأزمة الأوكرانية تستمرّ في توزيع الضغوط على القوى المنخرطة في المواجهة الكبرى بنِسَبٍ تقارب الموقف السابق للتقدم الأوكراني. أكثر من ذلك، يؤدي عامل الوقت دوراً أكثر حدةً في تعزيز الموقف الروسي على حساب الغرب، وخصوصاً مع تسارع الديناميات النشطة التي تقودها موسكو وبكين في اتجاه الشرق، بمؤسساته ومنظماته ودوله المتعطشة إلى تعاون موثوق به يؤمّن مصالحها بصورةٍ مستدامة.
استراتيجية توزيع الضغوط
في حين تخوض الدول الغربية حرب عقوبات شرسة على موسكو، وقبلها ومعها على الصين وإيران وغيرهما من القوى الساعية لإدارة سياسات خارجية سيادية، تتحرك المؤشرات الاقتصادية الغربية بصورةٍ مقلقة للحكومات التي اتخذت خيار المواجهة ودفع التكاليف الاقتصادية والاستراتيجية، باستثناء العسكرية والبشرية منها، والتي حُمّلت لأوكرانيا وحدها.
ومع عنونة الولايات المتحدة للجانب الاقتصادي من المواجهة الكبرى مع روسيا بأنه حرب الخروج من التبعية لواردات الطاقة الروسية، وجدت واشنطن نفسها أمام ضغوط كبيرة على احتياطياتها الاستراتيجية من النفط، التي انخفضت إلى 434.1 مليون برميل، وهو أدنى مستوى منذ عام 1984، بعد أن كانت تقف قبل عام واحدٍ على احتياطي مقداره 621 مليون برميل في ولايتي لويزيانا وتكساس فقط. لقد باتت إعادة تعزيز الاحتياطيات الاستراتيجية الأميركية شديدة الإلحاح، في الوقت الذي يعلن بايدن نية إدارته الإفراج عن مليون برميل يومياً من هذه الاحتياطيات في غضون ستة أشهر.
وفي مقابل جرأة بايدن على الذهاب بعيداً في تحمّل التكاليف الاقتصادية وضغوط قطاع الطاقة، من أجل متابعة المواجهة مع موسكو، يبدو الكرملين أكثر هدوءاً، ليس على المستوى الدولي فحسب، وإنما على المستوى الميداني أيضاً. فعلى الرغم من الضجيج بشأن تعثّر عسكري وخسائر ميدانية في منطقة خاركوف، والانتقادات التي تكاثرت للإدارة العسكرية الروسية للجبهة، تمسّك الرئيس الروسي باستبعاد إعلان التعبئة، والمحافظة على الهدوء في الاستجابة للحدث، وتجنّب توسيع رقعة القتال ودرجته مع القوات الأوكرانية، الأمر الذي كان ليقود إلى تعميم الدمار في أوكرانيا بصورةٍ تُعَوّق المحافظة على الروابط بين المجتمعين في المدى الطويل. وبدلاً من ذلك، اختار الكرملين إبقاء أهدافه محدَّدة ضمن دائرة إضعاف السلطة الحاكمة في كييف، وتثبيت استقلال لوغانسك ودونيتسك، اللتين أعلنتا، إلى جانب خيرسون وزاباروجيا، إجراء استفتاءات للانضمام إلى روسيا.
لقد فضّلت الإدارة الروسية العليا، للمواجهة في هذه اللحظة، تحقيق مكاسب استراتيجية مضمونة على حساب إطلاق ردّ فعلٍ عنيف على التراجع الذي تكبّدته في منطقة خاركوف. وفي موازاة ذلك، يبدو أن رؤية موسكو للصورة الكبرى تدرك ثقل المعطيات الاقتصادية المستجدة في الغرب على الحكومات المتحمسة للمواجهة.
لذلك، وفق ما يبدو من المعطيات تلك، ومن الاستجابة غير الصارخة التي تديرها القيادة الروسية للأحداث، تبدو الاستراتيجية الروسية الآن متمحورةً حول اتخاذ التدابير الاقتصادية الكفيلة بزيادة الضغوط على الغرب، على نحو يضمن تحقيق تحوّل سياسي في الأزمة الأوكرانية، وفق ما يخدم مصلحة موسكو. وفي هذا السياق، يبدو إعلان سفير روسيا لدى ألمانيا – الآن، وفي قلب المواجهة – أن بلاده مستعدةٌ لإطلاق خط الغاز “السيل الشمالي 2” في أي وقت، وتأكيده أن “إطلاقه سيساعد ألمانيا على حلّ عدد من المشكلات، لكن برلين تستمر في رفض ذلك، الأمر الذي أدّى إلى نقص الغاز وارتفاع الأسعار”. وهو الخط الذي عطّل الضغط الأميركي على برلين مصادقتها عليه. موقف الدبلوماسي الروسي هذا لم يكن وحده اللامع في أروقة النقاش السياسي الآن في برلين، بل إن إشاراته إلى تغير في الموقف الشعبي الألماني تجاه الحرب لم تقلّ أهميةً عن مصير خط الغاز. فهو، إلى جانب ذلك، أكد أن منسوب “الروسوفوبيا” (الرهاب الروسي) انخفض في ألمانيا عمّا كان عليه مع بدء الأزمة في شباط/فبراير الماضي. وفي مقابل هذا الانخفاض الملحوظ، وفق تقديراته، ارتفعت “صرخات طلب المساعدة” في ألمانيا. شيءٌ ما ينتظره الروس مما قد يخلص إليه الموقف الألماني.
مستوى آخر من المواجهة
إن الهجوم الأوكراني الأخير، مع كل ما رافقه من مكاسب وخسائر وتكاليف، يشير إلى انتقال الغرب إلى مستوى آخر من التصعيد. كل المؤشرات تقود إلى ذلك، بما في ذلك الرغبة في تجنب مواجهةٍ كبرى غير منضبطة، يمكن أن تقود إلى نزاع نووي كارثي بين روسيا و”الناتو”. في المقلب الآخر، ومع الرغبة نفسها، ترفع موسكو مستوى التحدي من خلال زيادة الضغوط الطاقوية على دول التحالف الغربي من ناحية، وتعزّز بدائلها من ناحيةٍ ثانية، وهو ما تُرجِم بخط الغاز، “قوة سيبيريا 2″، إلى الصين.
إن تجنّب تصعيد النزاع العسكري حيوي بالنسبة إلى استراتيجية موسكو في هذه الأوقات، بحيث إن بدائلها الاقتصادية تبدو ناجعة، في حين أن الوقت يلعب ضد الغرب، مع دخول الشتاء، وتزايد الإجراءات المسارعة إلى خفض استهلاك الطاقة، ومحاولة ترويض الغضب الشعبي في تفاعلاته الأولى، قبل تدحرجه إلى فوضى تطيح حكومات، والعمل على تأقلم المزاج الشعبي مع فكرةِ حتميةِ تحمُّلِ مزيدٍ من الأعباء من أجل القيم الغربية المشتركة. والوقوف هنا في وجه روسيا أكثر مما هو وقوف إلى جانب أوكرانيا.
هذه المعطيات تفسّر تركيز الروس على ضرب بنى تحتية طاقوية في أوكرانيا، الأمر الذي سوف يستدرج مساعدات أكبر، ومن أنواع محدَّدة وغير مضرّة بالقوات الروسية المنخرطة في الميدان، ذلك بأن أيّ مساعدات غربية لتعزيز البنى التحتية الأوكرانية، أو الداعمة للقدرات التشغيلية الأساسية للدولة، سوف تُقتطع حكماً من مجمل المساعدات الغربية لكييف. وبالتالي، سوف تقلَّص المساعدات العسكرية، في سيناريو أول، أو أنها سوف تضاف إلى المساعدات العسكرية الكبيرة. وبالتالي، فإنها سوف تزيد في الأعباء الاقتصادية على الدول التي ترسل هذه المساعدات، الأمر الذي يُراكم الضغوط على أعصاب المواطنين وآرائهم مع دخول الأوقات الصعبة. إنه سبب إضافي من أجل فهم إصرار الكرملين على عدم التحول من نظام “العملية الخاصة” إلى نظام “الحرب الشاملة”. لكن، على الرغم من كل ذلك، فإن الضربات الأوكرانية الموجَّهة قد تستدعي تعاملاً مغايراً فيما لو زادت في جرأتها، ولاسيما إن حاولت استهداف الداخل الروسي عبر عمليات أمنية معينة، كامتدادٍ لحدث استهداف ألكسندر دوغين وابنته، لكن سيناريو مثل هذا قد يشمل، إلى جانب الأفراد، بنىً تحتية أساسية.
في الشتاء، الأرجح أن الاقتصاد سيكون هو الميدان الرئيس للحرب، ذلك بأن تقدماً ميدانياً كبيراً لن يكون متاحاً عند طرفي الجبهة، ما لم يكن ذلك لضرورات ملحّة واستثنائية هي الآن غير ظاهرة في المشهد.
وعلى وقع ذلك، يستمر الجميع في تعزيز الجاهزية العسكرية، على الرغم من أن واشنطن ترفض الآن مدّ كييف بصواريخ باليستية، وتترك للمساعدات العسكرية التكتيكية المتطورة أن تكون فتاكةً في أيدي الأوكرانيين، على نحو يضمن عدم استدعاء مواجهةٍ كبرى بين روسيا و”الناتو”. في موازاة ذلك، تعزّز روسيا والصين تعاونهما العسكري، عبر اتفاقيات جديدة بين وزارتي الدفاع لديهما، وتفتح إيران خطاً جوياً مستمراً مع موسكو، في حين يبقى المسار السياسي جليدياً، مع تأكيد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، أن المفاوضات المباشرة بين بوتين وزيلينسكي لا تزال بعيدةً.
في الجزء الثاني من هذه المادة، نبحث في تفاصيل حرب الشتاء الاقتصادية، من خلال الأرقام والمعطيات والاتجاهات، وعبر تأثيراتها السياسية المحتملة في الضفتين.
المصدر: الميادين