العين برس:
قدّمت قناة الميادين من خلال سلسلة “الأبطال” التوثيقية 3 مستويات من العمل: منهجيّ ومعلوماتيّ وإنسانيّ، إضافةً إلى التوثيق الرسمي.
أشرق فضاء الميادين في ستٍ من تواسع أمسياتها، في سداسية أجابت عن تساؤلات النفق المُلح عبر عام مضى، وقد حيّرت عقول المتابعين، وأفئدة ظلّت تتوق إلى استشعار تفاصيل الحدث، في فضول إنسانيّ عزف لحن المعرفة في استكشاف حدث انجرفت العواطف نحوه حتى انتمت إليه، وتكامل معه شعور أمل انبعث من جذوع جبال جلبوع.
صاغ عقل الميادين سداسية النفق، وقد حاز ملكيتها الفكرية والشرعية بكلمات صرخ بها محمود العارضة من بعد، وتم تسجيلها وبثّها، بما يشبه تسبيحة يونس في بطن الحوت، وقد تسلّلت خيوط حروفها من خلف جدران زنازين العزل رويداً رويداً على وقع نبض الأنفاس الهامسة مع صرير القيد من أجساد مثخنة بالجراح المتجددة، ليتم توثيق الحدث المعجز، في واقع ملفع بالصمت بلا وثيقة ولا كاميرا ولا حتى حبر يراع.
كانت شهور التوثيق حبلى بالعقبات، كشهور الحفر الثمانية أسفل خزنة الأسرار الأمنية المطوية بألف إنسان وألف حكاية، فأيّ إضافة حملتها سداسية الأبطال وقد تسمّرت العيون نحو ميادينها، حلقة حلقة، وكأنَّ محمود بلسان غسان استهلَّ التجربة وعاد بعقارب الزمن ليروي عطش ظمأ طال انتظاره؟!
قدّمت قناة الميادين، إضافة على التوثيق الرسمي، 3 مستويات من العمل؛ منهجيّ ومعلوماتيّ وإنسانيّ. وقد تأسس المستوى المنهجيّ على نور الحقيقة، بلا تلفيق أسطوريّ، ولا صنعة مكياجية، ولا تهريج سفسطائي، ولكنّها الوقائع كما كانت، قدمتها الميادين لجمهورها كضوء الشمس الذي رآه مناضل لحظة اخترق صفيحة التراب الأخيرة في النفق، فكانت نقية ساطعة مفعمة بالتشويق.
حافظت سداسية الأبطال على منهجية ثابتة في محورها، وهي دقة التوثيق، وكأنَّ فريق الميادين يؤدي مهمة مكلفاً بها وقد توجب تنفيذها، وقلبه، كما عقله وكل جوانحه، معلق بزنازين العزل الست، بل الإحدى عشرة، ليأتي التوقيع في يوم ما بأن المهمة أنجزت، والتجربة اكتملت، فيقرّ فؤاد هذا الفريق بأنه ما خان الأمانة ولا فرّط في الرسالة.
تجلّت منهجية التوثيق في أروع ما تجلّت من عرض عبر ثواني الحلقة الثالثة، وهي تفرغ فضول المشاهد في خرق الطبقات العازلة الثلاث، وهي بلاط الحمّام، ثم الفولاذ الذي يتبعه، ثم الإسمنت المسلّح، وكل ذلك عبر الأداة العجيبة التي وثقتها السداسية للمرة الأولى، لتأتي قصة الحجر الصخري والقضبان التي وضعها العقل الإسرائيلي أسفل الإسمنت، وكيف حوّلها عقل الأسرى الهندسي المبدع لتصبح أدوات فاعلة في حفر تراب النفق.
فاجأت منهجية السداسية جمهورها بصراحة حادّة تتلعثم عادةً عندها الأعمال الإعلامية، وهي صراحة ظهرت بقرار أيهم أن يسلّم نفسه مع مناضل، فداءً لجنين، بعدما تأكد أن المحتل ذاهب ليبطش بها.
صراحة السداسية بهذا التسليم من دون مواربة عكست منهجية اختلطت برؤية التجربة، باعتبارها مشروع تحرر شعبيّاً لا شخصيّاً، وهي صراحة تكررت بالوقوف على حقيقة انتماء الأبطال إلى الجهاد الإسلامي، وأثر هذا الانتماء، وقرارهم بإدخال البطل الفتحاوي زكريا ليكون سادسهم.
وكان لنقل تجربة الأبطال الخمسة الذين تطوعوا للحفر والمراقبة، وليس لهم ناقة ولا جمل في التحرر الشخصي، دور في تسليط الضوء على جانب مغيّب باعتبارهم الجنود المجهولين، وقد عملوا كأدوات فولاذية، وصهروا بصبرهم وكتمانهم كل الحواجز الإسمنتية التي تعقبوها في ظلمات ثلاث، حتى ظهر نور شمس السادس من أيلول.
قدّمت سداسية الأبطال معلومات مهمة سدّت ثغرات في وعي التجربة، فأداة الحفر كانت مسماراً تم تطويره ليتمكن بروية من قص البلاط والفولاذ والإسمنت، والنفق الذي غاص فيه الأبطال أسفل الخزنة الفولاذية وصل طوله إلى 110 أمتار. وقد كشفت السداسية العقبات التي جعلت النفق يمتد بهذا الطول.
وكان سؤال التخلص من تراب الحفر مما تردد على ألسنة الجميع، فقدمت السداسية إجابة مقنعة بتصوير تقريبي، وأجساد الأسرى الطرية تحمل أكياس التراب على الظهر زحفاً، كل كيس بوزن 30 كلغم، ليتم رصه كأعمدة للنفق، وهو رصّ يفقده نصف حجمه. وقد ساعد على ذلك وجود بعض الفراغات أسفل السجن، وقد تكونت بفعل الطبيعة وتأثيرات المياه المتغلغلة بالقاع عبر الزمن.
وكان اكتمال التجربة بما كشفته السداسية عن الخطة (أ) في الابتعاد السريع عن منطقة السجن، عبر الاتصال بمساعد خارجيّ، ولكنَّ حائلاً حال دون هذا المساعد، فاضطروا إلى الخطة (ب)، وهي الانقسام عبر 3 مجموعات للوصول إلى طمرة الزعبية، والاختلاط هناك بالعمال العرب.
وعندما حُشر جسد مناضل حتى علق في النفق نصف ساعة، وكاد يفقد حياته، فإن ذلك مما عشناه ونحن نتابع، وكأنه حصل اللحظة، وكذلك عندما ضيّقت التربة على نَفَس قصي وهو يحفر تحت الغرفة رقم 6، وهناك تقاذفوا جميعاً الحجارة المتوسطة الحجم ليتم رصفها، فأصاب يعقوب رأس محمود بحجر، فأشعلوا بضحكاتهم ظلمة النفق.
عرض مشاعر الأبطال يجعلك تضحك مع ضحكات مناضل وأيهم، وهما في شدة العطش وقد دخلا حدود جنين، حيث شاهدا أواني مياه، فاستبشر أيهم: يا فرج الله. ولمّا وجداها فارغة، أشار إليه مناضل أنه غضب الله، وأضاف مازحاً: لعله بسبب أعمال محمود، وقد فاض عليهما الضحك رغم الخيبة والعطش، وهو ما سبق أن ظهر عندما اضطر زكريا إلى حمل يعقوب على ظهره في لحظة ضعف ألمّت به.
ولعلك تجهش بالبكاء وأنت تتابع حينما بدأ احتكاك الأبطال بمفردات الحياة المغيّبة، وقد سمعوا صوت الشنار، واصطدموا بالأبقار، وكيف خاطبوها، ولحظة وجدوا بصلة ومنقوشتين وبقايا قهوة، وأكلوا الجوافة والصبار، وكيف لعبوا مع الأطفال، وعاشوا في كنف العجوز التي آوتهم، وهدية ثوب الأفعى التي قدّمها زكريا لمحمد، في فيض إنسانيّ تجلّى بمشاعر ضيوف الحلقة الأخيرة، وهم ابنة جيفارا وحفيدا مانديلا وغاندي، تجاههم، وهم يعبّرون بمسحة إنسانية، لكنها ثورية، عن طموح الأسرى إلى الحرية وقد طال أمده.
المصدر: الميادين