تعتقد إيران بأن التوقيع على اتفاق نووي ركيك وغير محكم الصياغة، قد يفتح ثغرات يمكن للولايات المتحدة أن تنفذ منها للتلاعب مستقبلاً بمصير الاتفاق.
تعثرت في اللحظات الأخيرة المفاوضات غير المباشرة الجارية منذ ما يقرب من 18 شهراً بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، لبحث أنسب السبل والإجراءات التي تكفل عودة الأخيرة إلى الاتفاق الخاص ببرنامج إيران النووي، الموقع عام 2015، والذي انسحبت منه إدارة ترامب عام 2018.
فبعد تصريحات متفائلة تشير إلى قرب التوصل إلى اتفاق يرضي جميع الأطراف، عاد التشاؤم ليخيّم على الأجواء من جديد، لدرجة أن البعض لم يعد يستبعد وصول هذه المفاوضات إلى طريق مسدود، ما سيترتب عليه حتماً إعلان وفاتها رسمياً، إن عاجلاً أو آجلاً.
لفهم حقيقة ما يجري في الكواليس، علينا أن نتذكر أن لهذه المفاوضات خصوصية تميزها عن أي مفاوضات دولية أخرى:
– فهي، أولاً، مفاوضات غير مباشرة، تجري بين عدوّين لا يكنّ أيّ منهما للآخر مثقال ذرة من ثقة أو مودة. فهي ليست مفاوضات تجري بين خصمين بشأن نزاع يبحث طرفاه بحسن نية عن حل متوازن يستجيب لبعض مطالبهما، وإنما هي مفاوضات اضطر إليها طرفان بينهما عداء مستحكم، لم تنته أسبابه بعد، يعكس تناقضاً في الرؤى والتوجهات في مختلف القضايا الإقليمية والدولية، وليس فقط بشأن برنامج إيران النووي.
صحيح أن لكليهما مصلحة متبادلة في التفاوض بشأن البرنامج النووي بالذات، خاصة بعد إعلان إدارة بايدن رغبتها في العودة إلى اتفاق 2015، إلا أن لكل منهما أهدافاً ومنطلقات مختلفة إلى حد التناقض. فإيران تتصرف من منطلق أنها أوفت بكل التزاماتها، وأن الولايات المتحدة هي من أخلّ بها من دون مبرر، لذا فعليها وحدها تحمّل ثمن ما ارتكبته من أخطاء، ليس فقط بالعودة غير المشروطة إلى الاتفاق نفسه ورفع العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب عقب انسحابها منه، وإنما أيضاً بتقديم ضمانات تكفل عدم تكرار الخطأ مستقبلاً أو، على الأقل، تحمل تكلفة الأضرار التي قد يتسبب فيها انسحاب جديد.
أما الولايات المتحدة فتتصرف من منطلق أن مجرد الإعلان عن رغبتها في العودة إلى اتفاق 2015 يكفي لإثبات حسن النية، ما يوجب على إيران مقابلة الحسنة بمثلها، والتحلي بما يكفي من المرونة لتهدئة مخاوفها ومخاوف حلفائها تجاه قضايا أخرى لا تتعلق مباشرة ببرنامج إيران النووي، وإنما ببرنامجها الصاروخي وبتمدد نفوذها الإقليمي.
معنى ذلك أن إيران تريد مفاوضات تنتهي برفع العقوبات المفروضة عليها، بينما تريد الولايات المتحدة لهذه المفاوضات أن تنتهي بموافقة إيران، ولو في اتفاق منفصل، على إحداث تغيير في سياساتها.
وهنا، نلاحظ تغيراً طرأ على استراتيجية إيران في إدارة هذه المفاوضات بعد وصول إبراهيم رئيسي إلى سدة الحكم. فروحاني دخل مفاوضات العودة بهدف أساسي، وربما وحيد، وهو رفع العقوبات عن كاهل إيران، وربما كان مستعداً لتقديم بعض التنازلات التكتيكية، أما رئيسي فدخلها وهو فاقد الثقة تماماً في النيات الأميركية، ما دفعه إلى التشدد في طلب ضمانات تتعلق بضبط السلوك الأميركي في مرحلة ما بعد التوقيع، حتى ولو كان الثمن انهيار المفاوضات.
– ثانياً، هي مفاوضات تجري عبر وسيط أوروبي تدرك إيران أنه ليس محايداً، ولا يمكن أن يكون كذلك. فألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة دول حليفة للولايات المتحدة، وأعضاء في حلف “الناتو” الذي ازداد تماسكاً في الآونة الأخيرة، خاصة بعد الحرب في أوكرانيا.
وقد اختبرت إيران درجة استقلالية القرار الأوروبي مرتين، الأولى: عقب الانسحاب الأميركي من الاتفاق مباشرة، حين طلبت من الأطراف الأوروبية الموقعة عليه تقديم بديل مالي وتجاري يسمح باستمرار العلاقات معها وعدم تأثرها بالعقوبات الأميركية، لكن الدول الأوروبية عجزت عن تقديم بديل، بل وانسحبت شركاتها من العمل في إيران؛ خوفاً من خسارة السوق الأميركية.
والثانية: حين اصطفت هذه الأطراف وراء الموقف الأميركي الرافض لطي صفحة تحقيق تريد الوكالة الدولية للطاقة النووية القيام به للتثبت من صحة معلومات إسرائيلية تشير إلى وجود آثار لليورانيوم المخصب في مواقع سرية لم تعلن عنها إيران من قبل.
معنى ذلك، أن إيران تعرف أنها تجري مفاوضات غير مباشرة مع الولايات المتحدة عبر طرف تدرك يقيناً أنه غير قادر على لعب دور الوسيط، ويمارس في هذه المفاوضات دوراً أقرب ما يكون إلى تمثيل المصالح الغربية، بما فيها المصالح الإسرائيلية، منه إلى دور الوسيط القادر على تقريب وجهات النظر بين مختلف الأطراف المتنازعة.
– ثالثاً، هي مفاوضات تجري في ظل نية إسرائيلية مبيّتة تسعى إلى إفشالها بكل الوسائل المتاحة. ويجب أن يكون مفهوماً هنا أن الموقف الإسرائيلي لا يقتصر على معارضة برنامج إيران النووي، ولكنه يشمل مجمل السياسات التي انتهجتها إيران منذ الثورة الإسلامية.
– فلم تنس “إسرائيل” أبداً أن أولى القرارات التي اتخذتها إيران الثورة كانت سحب اعترافها بالدولة اليهودية، وإغلاق سفارتها في طهران وتحويلها إلى سفارة لفلسطين، كما لم تنس أبداً أن إيران نجحت على مدى العقود الأربعة الماضية في نسج شبكة علاقات إقليمية قوية، بفصائل المقاومة المسلحة في فلسطين، وحزب الله في لبنان، وسوريا الرافضة لتسوية بالشروط الإسرائيلية، وقوى عراقية مسلحة مناهضة للسياسات الأميركية والإسرائيلية في المنطقة، وحركة أنصار الله في اليمن.. إلخ، وهي أطراف ترى فيها “إسرائيل” خطراً وجودياً عليها.
لذا، فإن لديها اعتقاداً راسخاً بأن لا حل لمشاكلها مع إيران إلا بسقوط النظام الإيراني نفسه، وليس فقط منعها من امتلاك سلاح نووي، وهو ما قد يتطلب استخدام القوة العسكرية ضدها. ولأنها تدرك استحالة تحقيق هذا الهدف وحدها، فقد سعت دوماً إلى جر الولايات المتحدة للمشاركة معها في حرب ضد إيران تماثل تلك التي شنتها على العراق عام 2003 ونجحت في إسقاط نظامه.
وفي تقديري، أن “إسرائيل” لم ولن تتخل أبداً عن محاولاتها الرامية إلى تحقيق هذا الهدف، وأن مساعيها الرامية إلى الحيلولة دون عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي مع إيران ليست سوى خطوة أولية على هذا الطريق. ولأنها نجحت من قبل في إقناع إدارة ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران عام 2018، تعتقد “إسرائيل” بأنه لا يوجد ما يحول دون نجاحها في حمل إدارة بايدن على عدم العودة إلى الاتفاق.
وقد اعترف رئيس الوزراء الإسرائيلي، مؤخراً، بأن التحقيق الذي تريد الوكالة الدولية للطاقة النووية القيام به للتأكد من سلمية البرنامج النووي الإيراني، والذي قد يتسبب نهائياً في نسف المحاولات الرامية إلى عودة الولايات المتحدة إلى اتفاق 2015، استند إلى معلومات إسرائيلية ليس من المستبعد على الإطلاق أن تكون كاذبة ومختلقة من الأساس.
في ضوء ما تقدم، يبدو واضحاً أن مفاوضات العودة الأميركية إلى البرنامج النووي الإيراني وصلت إلى مفترق طريق، وأنها ستدخل من الآن فصاعداً مرحلة جديدة يمكن أن نطلق عليها “مرحلة تكسير العظام”.
صحيح أن لدى كل من الولايات المتحدة وأوروبا مصلحة واضحة في التوصل إلى اتفاق، وذلك لأسباب كثيرة في مقدمتها حاجتهما الماسة إلى نفط إيران وغازها في هذه المرحلة الحرجة من مراحل تحوّل النظام الدولي، وصحيح أن لدى إيران أيضاً مصلحة في التوصل إلى اتفاق، وذلك لأسباب كثيرة في مقدمتها رفع العقوبات، إلا أن “إسرائيل” لا مصلحة لها مطلقاً، لذا ستقاوم هذا التوجه بكل ما أوتيت من قوة، وإذا فشلت في محاولتها فسوف تعمل على ابتزاز الولايات المتحدة وأوروبا لإجبارهما على تقديم مساعدات لها توازن الإيرادات الضخمة التي ستحصل عليها إيران نتيجة رفع العقوبات.
ولأن إيران تعتقد بأن التوقيع على اتفاق ركيك وغير محكم الصياغة قد يفتح ثغرات يمكن للولايات المتحدة أن تنفذ منها للتلاعب مستقبلاً بمصير الاتفاق، وحينئذ تصبح تكلفة التوقيع عليه أعلى بكثير من أي عوائد قد تحصل عليها من رفع موقت للعقوبات، فلا شك في أنها ستتمسك بشروطها حتى النهاية وستصر بعناد على أن يأتي الاتفاق الجديد محكم الصياغة تماماً، ولن توقع على أي اتفاق إلا إذا تأكدت من أنه يضمن ليس فقط عودة أميركية غير مشروطة إلى اتفاق 2015 من دون تعديل، وإنما أيضاً طي صفحة التحقيق الذي تسعى الوكالة الدولية للطاقة النووية لفتحه، بدعم ومساعدة من “إسرائيل” التي تريد له أن يكون بمنزلة مسمار جحا في الاتفاق الجديد.
سواء قبلت الولايات المتحدة العودة إلى الاتفاق بالشروط الإيرانية أو قررت في النهاية رفض هذه العودة، يتوقع أن تدخل المنطقة برمتها مرحلة جديدة من تاريخها. فالعودة يمكن أن تفتح آفاقاً نحو التهدئة والاستقرار والبحث الجدي عن تسويات لأزمات المنطقة المستحكمة، أما الإعلان رسمياً عن فشل المفاوضات فستعدّه “إسرائيل” انتصاراً مدوياً لها، وبمنزلة ضوء أخضر لها لبدء العد التنازلي نحو تهيئة المنطقة لحرب تريدها “إسرائيل” ليس فقط لإسقاط النظام الإيراني وإنما أيضاً لتصفية محور المقاومة نهائياً.
المصدر: الميادين