إسرائيل تبتلع الهزيمة المُرة وتعود لطاولة المفاوضات
العين برس/ مقالات
توفيق سلاّم
خلال مؤتمر صحفي له، كشف الرئيس الأمريكي جو بايدن الجمعة 31 مايو الماضي، عن مقترح جديد لوقف الحرب في غزة، قال إنه “إسرائيلي” ووصفه بـ”الشامل”، مطالبًا حركة “حماس” بقبوله وعدم تفويت الفرصة تجنبًا لاستمرار أمد الحرب في قطاع غزة. إذ تحاول واشنطن تمرير المقترح بكل ماورد فيه، رغم أن المقترح يتطلب المداولة والنقاش، فالبنود الوارده فيه فيها لبس وبحاجة بالتأكيد إلى تعديلات. إلا أن الإدارة الأمريكية، تريد فرضه والانتقال من مرحلة إلى مرحلة غير مضمون التنفيذ، ولا تتوفر أية ضمانات. لذلك تحاول واشنطن استخدام مجلس الأمن لتحويل المقترح إلى قرار، وهو ما اعترضت عليه روسيا والصين، واعلنتا بأنهما سوف تستخدمان حق النقض.
المقترح يتضمن ثلاث مراحل متتالية: الأولى تشمل وقف العمليات العدائية، وانسحاب قوات الاحتلال من المناطق المأهولة بالسكان داخل القطاع وتستمر ستة أسابيع، أما المرحلة الثانية فتشمل تبادل للأسرى والمحتجزين، حيث تطلق حماس سراح جميع المحتجزين الإسرائيليين الأحياء لديها (دون ذكر عدد الأسرى الفلسطينيين المتوقع الإفراج عنهم مقابل الإسرائيليين)، فيما المرحلة الثالثة والأخيرة تشتمل على خطة لإعادة إعمار قطاع غزة.
غموض المقترح
المقترح المقدم اتسم في في كثير من بنوده بالغموض الذي يستدعي التوضيح والتعديل، وهو ما أفرز حالة من الشك في النوايا، ودفع بعض المحللين إلى تحذير حماس مما أسموه ب “الفخ الأمريكي”، لا سيما وأن كثيرًا من المسائل المتعلقة في الإتفاق لم يتم حسمها بشكل واضح في ظل استخدام مصطلحات وجمل، ومفردات ومرادفات فضفاضة غير محددة، وتحمل الكثير من التأويل. وكشف عضو المكتب السياسي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في لبنان، مروان عبد العال، عن نقطة خطيرة في مقترح جو بايدن، بشأن قطاع غزة. وقال عبد العال خلال مقابلةٍ مع قناة الميادين، إن ورقة بايدن تضمّ نقطة خطيرة تتم مناقشتها مع الوسطاء، وهي عبارة “النقاش على شروط تنفيذ المرحلة الثانية”، وقال: “نرفض أي اتفاقاتٍ مُلتبسة تضعنا أمام أحجية جديدة يستغلها العدو”. وهناك أيضًا فيما يتعلق بالمرحلة الأولى وهي النقطة الرئيسة لوقف الحرب بشكل شامل، وهذا شرط المقاومة الأساسي، فالمقترح تطرق إلى: “وقف العمليات العدائية” دون الحديث عن وقف إطلاق النار، وهي النقطة المفصلية التي تحتاج إلى تفسير وتحديد بشكل مباشر وصريح، ولا لبس فيه، خاصة أن هناك تخوفًا من فض الاتفاق تحت ذرائع مختلفة، ومن ثم معاودة الاحتلال القصف بعد إطلاق سراح الأسرى والمحتجزين.
أما فيما يخص الانسحاب من قطاع غزة، فإن المقترح يقول” إن جيش الاحتلال سينسحب من المناطق المأهولة بالسكان”، وهو ما يعني احتمالية أن يكون هناك قوات للجيش في مناطق أخرى في القطاع غير مكتظة سكنيًا، بما يعني أن الانسحاب لن يكون من كامل القطاع كما تطالب المقاومة وتتمسك بهذه النقطة. ولم يوضح بايدن ما المقصود بعبارة أن “المقترح مقدم من إسرائيل”، فهل حكومة نتنياهو هي التي تقدمت به أم آخرين من النخبة؟ وهو الغموض الذي قد يشكك في مدى التزام نتنياهو بالاتفاق من عدمه، حتى لا يتكرر سيناريو مقترح الوسطاء السابق حين وافقت حماس واعترضت عليه حكومة الاحتلال. فالحكومة المتطرفة الحالية تميل إلى سياسة التفاوض من أجل التفاوض، لكسب الوقت من أجل إطالة أمد الحرب. وفي المجمل فإن المقترح لم يتطرق لأي ضمانات بشأن الزام الأطراف بتنفيذ المقترح، وإن كان بايدن بنفسه من أعلن بنود الاتفاق بهذا الشكل قد يضعه في مأزق يجبره على ممارسة الضغط على الجانب الإسرائيلي تحديدًا لقبول الاتفاق، لكن ما يحدث العكس، فيما تستبق إسرائيل بطلب من الولايات المتحدة ضمانات على حماس، وتعتقد بأنها ستتهرب من أي ضمانات في الصفقة، حتى لا تتكرر معاودة هجومها، تحت أي مبرر.
وتجمع تقديرات محللين إسرائيليين أن خطة بايدن تضع إسرائيل أمام مفترق طرق فيما يتعلق بصفقة التبادل وسير الحرب واليوم التالي. وتوافقت هذه القراءات بأن نتنياهو المطالب باتخاذ قرارات حاسمة وصل إلى طريق مسدود قد يفضي إلى تفكيك حكومة اليمين المتطرف.
وفي قراءة للحراك الذي يشهده الائتلاف الحكومي والمشهد السياسي والحزبي في إسرائيل عقب الكشف عن خطة بايدن، تعززت التقديرات بأن حكومة اليمين المتطرف تتصدع من الداخل على خلفية قضايا أخرى، وأبرزها قانون تجنيد الحريديم المتشددين.
ويعتقد محرر صحيفة “هآرتس”، ألوف بن، أن نتنياهو يسير نحو الحل الذي كان ينفعه دائمًا، وهو حل الكنيست والتوجه إلى انتخابات مبكرة، مشيرًا إلى أنه يقترب من “سحب أداته الممزقة” لاحتواء الأزمات السياسية، ويقصد بذلك تفكيك الحكومة.
رد حماس
حركة حماس تعاطت مع المقترح بإيجابية، واصفة إياه بأنه ترسيخ لقناعة الساحة الإقليمية والدولية بضرورة وقف الحرب على غزة، وأنه نتاج منطقي للصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني والمقاومة في القطاع وفق ما جاء في بيان لها. وأعربت الحركة عن استعدادها “للتعامل بشكل إيجابي وبنّاء مع أي مقترح يقوم على أساس وقف إطلاق النار الدائم والشامل، والانسحاب الكامل من قطاع غزة، وإعادة الإعمار وعودة النازحين إلى جميع أماكن سكنهم وإنجاز صفقة تبادل جادة للأسرى إذا ما أعلن الاحتلال التزامه الصريح بذلك”. وحاولت المقاومة من خلال هذا البيان الدبلوماسي طمأنة الجانب الأمريكي بإيجابية تعاطيها مع المقترح وإبداء المرونة إزاء أي حراك من شأنه أن يُنهي الحرب، بما يخفف نسبيًا من حدة التوتر في العلاقات بينها وبين الإدارة الأمريكية، وهي بذلك تمثل ضغطًا على الجانبين، الأمريكي والإسرائيلي، على حد سواء. ولم تتطرق حماس بعد في بيانها إلى تفاصيل المقترح، الذي رغم تضمنه للعديد من شروط المقاومة، فإن الغموض الذي يكتنفه يتطلب المزيد من الحسم والشرح والتفصيل والنقاش، تجنبًا للوقوع في الفخ وتجريد حماس من أهم ورقة ضغط بحوزتها، دون مقابل وهي ورقة الأسرى، وعليه أرادت حماس أن تقول بأنها لا تمانع أي جهد للتهدئة وأنها ستسعى للتعاطي معه بإيجابية وجدية.
رد إسرائيل
تعاطي حماس مع المقترح بايجابية، تلقي بالكرة في ملعب الإسرائيليين، الذي جاء ردهم على المقترح متباينًا، ومتناقضًا بين الحكومة من جانب والشارع من جانب آخر. فهناك انقسام وتباين واضح.. رغم أن المقترح إسرائيلي، إلا أن تصريحات المسؤولين الصهاينة مثيرة للجدل. لم يتناغم الرد الإسرائيلي في مجمله مع ما قاله بايدن بأن المقترح هو في الأصل “إسرائيلي”، فلماذا تبدو الردود متباينة وبعضها غامضًا، ما يعكس حالة تباين واضحة في وجهات نظر الإسرائيليين، تعزز الانقسام الداخلي بصفة عامة. ففي بيان لمكتب نتنياهو قال إن “تل أبيب أذنت للمفاوضين بتقديم اتفاق هدنة في غزة”، مؤكدًا أن الحكومة “متحدة في الرغبة بعودة رهائننا بأسرع ما يمكن وتعمل على تحقيق هذا الهدف”، وأن “الخطوط العريضة الدقيقة التي تقترحها “إسرائيل” تسمح بالانتقال المشروط من مرحلة إلى أخرى بما يحافظ على مبادئنا”، دون تقديم أي توضيحات أخرى بهذا الصدد، ودون توضيح ما إذا كان هذا البيان ردًا على مقترحات بايدن أم لا..!، لكن في المقابل، وهو ما يثير الشك، شدد مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي في بيانه على أن “الحرب على غزة لن تنتهي إلا بعد تحقيق جميع أهدافها، بما في ذلك عودة جميع المختطفين والقضاء على حماس عسكريًا وحكوميًا وعلى صعيد قدراتها”، وهي النقطة التي ربما تكون محل خلاف بين الطرفين، حتى وإن جاءت في سياق محاولة نتنياهو تبرئة ساحته أمام وزرائه من اليمين المتطرف بشأن إصراره على مواصلة الحرب، بما يتناغم مع مزاجهم الرسمي، تجنبًا لأي رد فعل قد يتسبب في انهيار الحكومة، خاصة أنهم هددوا أكثر من مرة بالانسحاب إذا وافق نتنياهو على وقف الحرب.
ووفقا لذلك يقول مستشار الأمن القومي سلوفان أن ” الولايات المتحدة تنتظر رد حماس، ولا تلتفت إلى القيل والقال في وسائل إعلام مختلفة بشأن رد حماس المفترض”. مؤكدًا أنها تنتظر فقط الرد الرسمي الذي يتم نقله إلى الوسطاء القطريين، الذي قال إن “الولايات المتحدة على تواصل معهم على مدار الساعة”. وأعرب مستشار الأمن القومي عن أمله في أن توافق حماس على المقترح كأفضل طريق لإنهاء الحرب، وعودة جميع المحتجزين في غزة، وزيادة المساعدات الإنسانية. وذكر سلوفان أن ما تود واشنطن رؤيته في نهاية المطاف هو استراتيجية شاملة ومتماسكة تنطبق على نهاية العمليات العسكرية، وستواصل الضغط على الاسرائيليين باتباع هذا المسار”. وأشار إلى أن مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية وليام بيرنز موجود في العاصمة القطرية الدوحة للتباحث مع رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني حول المناقشات مع حماس بشأن المقترح.
تجدر الإشارة بداية إلى أن المقترح الذي أعلنه بايدن، هو مقترح “إسرائيلي” في الأصل، وهذا ما يؤكدة مستشار الاتصالات في الأمن القومي للبيت الأبيض جون كيربي الذي قال إن: ” مقترح الاتفاق بشأن غزة الذي تحدث عنه بايدن هو مقترح إسرائيلي، وأضاف أن الرئيس بايدن يرى أن المقترح يمثل فرصة كبرى لوقف الحرب، وأن القرار الآن يعود لحركة حماس” حسب تعبيره. لكن لابد من الإشارة إلى أن هذا المقترح لا يختلف كثيرًا في بنوده عن نظيره المقدم من مصر وقطر والذي قبلته حماس في 7 مايو الماضي، ورفضه الكيان المحتل، بدعوى أنه لا يلبي طموحاتها، لا سيما ما يتعلق بتقسيمه إلى مراحل، وأن يُفضي إلى وقف إطلاق النار في النهاية، وإلى إطلاق سراح الأسرى.
اخفاقات إسرائيل
استناداً إلى قائمة الإخفاقات الإسرائيلية، يحذر مجددًا وزير القضاء الإسرائيلي الأسبق حاييم رامون، أنه في الوقت الذي تُباع فيه الأوهام إلى الشعب، فإن إسرائيل على عتبة هزيمة ذات أبعاد تاريخية. ويقول رامون إن :”مجلس الحرب وهيئة الأركان العامة شرعا منذ الحرب في تضليل الإسرائيليين باستخدام كلمات رنانة، وبنشر أنصاف الحقائق. ويعلل تحذيره المباشر بالقول “إنه الآن، وعلى ضوء المواجهات القائمة بين أعضاء المجلس الحربي الذين يتبادلون الاتهامات بالإخفاق الاستراتيجي في الحرب، آن أوان كشْف الحقيقة المُرَّة”. ويضيف: “بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، حدد المجلس الحربي 4 أهداف للمعركة” على الرغم من أن الجيش الإسرائيلي تمكّن من قتل الآلاف، وضَربَ بصورة كبيرة الشبكات العسكرية التابعة لحركة حماس، فإن من الواضح للجميع أننا لم نحقق أهداف الحرب”. ويشير رامون لاعتراف رئيس مجلس الأمن القومي، تساحي هنغبي، بالأمر أمام اللجنة البرلمانية للشؤون الخارجية والأمن حين قال: “لم نحقق أياً من أهداف الحرب الاستراتيجية”. ويؤكد رامون أن المجلس الحربي وهيئة الأركان لا يملكان أي خطة عملية لتحقيق هذه الأهداف في المستقبل المنظور. وينبه أنه رغم الأضرار اللاحقة بحركة “حماس” فإنها لا تزال واقفة منتصبة، وقد نجحت في إعادة بسط سيطرتها العسكرية على كل منطقة انسحب منها الجيش الإسرائيلي في القطاع، إذ عادت الحركة فعلاً إلى خان يونس التي عمل الجيش الإسرائيلي على احتلالها على مدار أشهر عديدة، بل أيضاً عادوا إلى شمال القطاع الذي صب الجيش الإسرائيلي كل نيرانه عليه حيث يوجد هناك الآن نحو 5000 مقاتل من “حماس”. ويشير رامون لاستعادة حماس قوتها في جباليا وإطلاقها النار من جديد نحو أهداف إسرائيلية. أمّا من الناحية المدنية، فلا تزال “حماس” تسيطر بصورة شبه تامة على القطاع، وعلى توزيع المساعدات الإنسانية، لافتًا إلى الفشل في استعادة المخطوفين وفي بقاء عشرات آلاف النازحين بعيدين عن بيوتهم، ناهيك عن تدهوُر المكانة الدولية لإسرائيل على نحو متزايد. وخلاصة القول برأي رامون إنه على الرغم من الإنجازات التكتيكية المبهرة التي حققتها قواتنا على الأرض، فإن المجلس الحربي وهيئة الأركان أخفقا إخفاقاً ذريعاً في تحقيق أهداف الحرب، وها نحن الآن نقف على حافة هزيمة استراتيجية. وعلى الرغم من أن فشلنا في الحرب بات واضحاً للجميع، فإن الجيش الإسرائيلي يواصل العمل وفقاً لاستراتيجيته الفاشلة في الهجوم ثم الانسحاب من دون أن يبذل أي محاولة للسيطرة على الأرض. ومن المؤكد برأي رامون أن إسرائيل على عتبة هزيمة استراتيجية لم تتعرض لها من قبل، بَيْدَ أن كبار الساسة والقادة العسكريين يستمرون في تغذية “المستوطنين بالأوهام”، وكأن العملية العسكرية المحدودة في رفح ستكون نهاية الحرب. ويتساءل مجددًا: “حتى لو تمكن الجيش من ضرب كتائب حماس الأربع المتموضعة في مدينة رفح، فكيف يمكن أن يغير الأمر الوضع العام للحرب؟ إذا لم يفلح في القضاء على حماس عسكرياً”. ويواصل حديثه “بمعنى أن هيئة الأركان الإسرائيلية تنوي الاستمرار في الاستراتيجية نفسها التي اتبعتها على إمتداد الحرب، أي الانسحاب من رفح فور نجاح قوات الجيش في السيطرة عليها. لقد أثبتت هذه الاستراتيجية فشلها الذريع في تحقيق أهداف الحرب في مدينتي غزة وخان يونس، فكيف يمكن لها أن تفلح في رفح؟ بل أيضاً كيف يمكن لها أن تفلح في محور فيلادلفيا الذي اضطررنا إلى احتلاله في الأيام الأولى من الحرب، والسيطرة عليه منذ ذلك الحين، من دون وجود نية لاحتلاله بصورة دائمة، على الرغم من أنه يمثل خط الإمداد الوحيد لحركة حماس.. إذاً ما هي الدروس التي تعلمها مجلس الوزراء الحربي وهيئة الأركان العامة من إخفاقاتهما حتى الآن؟”.
ويخلص رامون بالقول إن :”رفْض أعضاء المجلس الحربي وهيئة الأركان الاعتراف بأن الإخفاق المريع في 7 تشرين الأول/أكتوبر قد أُضيف إليه إخفاق مريع آخر يتمثل في هزيمتنا الاستراتيجية في الحرب يدفعهما إلى محاولة مواصلة بيع الأكاذيب نفسها إلى الشعب، والتي فحواها أننا على “مرمى حجر من النصر المؤزر”، بينما نحن نقف على حافة هزيمة تاريخية. وفي ضوء هذا الإخفاق، يتعين على رئيس هيئة الأركان وجميع الجنرالات المسؤولين عن الإخفاق في إدارة الحرب، الاستقالة من مناصبهم فوراً ومن دون أي تأخير، ومن اللائق أيضاً أن يستقيل كل من رئيس الحكومة وجميع أعضاء مجلس الحرب من مناصبهم فوراً، وإذا لم يقوموا بذلك، فعليهم أن يرجعوا إلى الشعب لكي يطلبوا الثقة منه مجدداً.
ربما يقول قائل: ما الذي علينا فعله الآن؟
عن ذلك، يتابع “حسناً، لقد وافقت إسرائيل فعلاً على الخطوط العريضة للتوصل إلى صفقة تضمن استعادة المختطفين، تشمل وقفاً طويلاً جداً لإطلاق النار، وهذا يعني، بحكم الأمر الواقع، إنهاء الحرب، من دون إعلان انتهائها بصورة قانونية، وأنا أقترح أن تحيط إسرائيل الولايات المتحدة، والدول العربية المعتدلة، وجميع الجهات الوسيطة، علمًا بأنها
مستعدة لأن تعلن انتهاء الحرب بصورة رسمية شرط عودة جميع المختطفين، مع التشديد على جميع المختطفين، بصورة فورية. وإذا وافقت حماس على الأمر، فستوقف إسرائيل حربها، وستبدأ عملية محاسبة للذات على المستويات الدبلوماسية، والعسكرية، والسياسية الداخلية، بشأن إخفاقنا في 7 تشرين الأول/أكتوبر، وفي الحرب التي تلت ذلك التاريخ”.
إعادة احتلال غزة
في المقابل يقول رامون إنه في حال رفضت “حماس” هذه الخطوط العريضة للصفقة، وأنا أقدّر أنها ستفعل، فيجب على إسرائيل أن تفعل ما كان ينبغي عليها فعله منذ البداية، وهو إعادة احتلال القطاع بالكامل، وإقامة حكم عسكري مؤقت هناك، والدعوة إلى عقد مؤتمر دولي بمشاركة الولايات المتحدة والدول العربية المعتدلة، بما يشمل السلطة الفلسطينية، من أجل الحسم في هوية الجهة السلطوية التي ستأتي لاحقاً لتحل محل الحكم العسكري الإسرائيلي المؤقت (أمّا السيطرة المدنية على القطاع، فستظل في قبضتنا). وسيضمن تطبيق خطة كهذه إجماعاً وطنياً إسرائيلياً واسعاً. ويختتم: “على هذا النحو، فإننا إمّا سننجح في استعادة جميع المختطَفين، الأحياء منهم والأموات، في مقابل كل ما وافقنا عليه عملياً، وإمّا سنعود إلى احتلال جميع القطاع، في الوقت الذي نضمن فيه شرعية دولية واسعة النطاق، بحيث يمكننا تحقيق الهدف الأساسي للحرب، للقضاء على سلطة حماس، وتدمير قدراتها العسكرية”.
وتأسيسًا على ما سبق، فإن إعلان المبادرة ( الإسرائيلية/ الأمريكية) تأتي هذه الخطوة في سياق حساس قد يساعد في الكشف عن الكثير من المسكوت عنه في صورة الفشل المخزي، وحول هذا التحول في الموقف الأمريكي من مجرد وسيط إلى منخرط بشكل رسمي في اتفاق التهدئة، وناقل أول لتفاصيل التفاوض، حسب ما جاء على لسان بايدن. بيد أن المقترح هذه المرة يتضمن العديد من الدلائل والرسائل، وهو ما يستدعي الوقوف عليها بقراءة تحليلية لما يمكن أن يكون عليه المشهد خلال المرحلة المقبلة من خلال التالي:
– استشعار بايدن أن الحرب في غزة لن تؤتي ثمارها، ولن تحقق أهدافها مهما طال أمدها، خاصة بعد انتهاء رصيد جيش الاحتلال، وادعاءاته الواهية بشأن استهداف حماس والمقاومة، بداية من الشمال وصولًا إلى رفح جنوبًا.
– ثبات المقاومة وصمودها واستعادة ثقلها وعملياتها النوعية بصورة تعيد إلى الأذهان الأيام الأولى للحرب، وهو الأمر الذي دفع كثيرًا من نخبة الاحتلال إلى القول بأن القضاء على حماس وهم غير قابل للتحقق، وأن التلكؤ في إنهاء الحرب حتى يتم تصفية المقاومة بشكل كامل حلم صعب المنال. لهذا جاءت المطالبة بالحل السياسي، بالمقترح الإسرائيلي الذي أعلنه بايدن كبديل للحل العسكري.
-هناك صراع أمريكي داخلي على السلطة بين أجنحة الحزبين الحاكمين،
ويسعى الرئيس الأمريكي الحالي بايدن التقليل من شعبية خصمه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بشكل رسمي بالتهم الـ34 الموجهة إليه في عدة قضايا. وفي نفس الوقت يسعى بايدن إلى كسب أصوات الناخبين اليهود، ويخشى من مواقف نتنياهو المؤيد للحزب الجمهوري، وهو ما يجعله يعمل جاهدًا لإرضاء النخب الإسرائيلية، بالدعم السياسي والعسكري والمالي، وفي نفس الوقت يحاول التسريع في دفع الكيان للتطبيع مع السعودية، قبل موعد الانتخابات، في خطوة سيكون لها تأثيرها على سير العملية الانتخابية.
– اتساع رقعة العزلة الدولية للكيان المحتل، شعبيًا وسياسيًا، وارتفاع أصوات الإدانة والانتقادات والملاحقات القضائية الدولية له ولقادته، في مقابل تصاعد مد موجة الاعتراف الدولي بفلسطين كدولة مستقلة ذات سيادة، وهناك حتى الآن أربع دول أوروبية تعترف رسميًا بالدولة الفلسطينية والقائمة مفتوحة للانضمام،
وهناك 140 دولة في الأمم المتحدة صوتت لقيام الدولة الفلسطينية، هذا بالإضافة إلى الزخم الشعبي الداعم لحقوق الفلسطينيين بشكل غير مسبوق منذ 1948.
– تصاعد الضغوط الإقليمية والدولية ضد حكومتي “إسرائيل” والولايات المتحدة بسبب نسف نتنياهو لأي مقترح هدنة، خاصة بعد موافقة حماس على مقترح الوسطاء السابق، تزامن ذلك مع تصعيد المقاومة للحرب النفسية ضد الإسرائيليين والأمريكان من خلال إدارتها الجيدة لملف الأسرى المحتجزين لديها، وهو ما مثل ضغطًا كبيرًا على الجميع.
كل ذلك يستدعي التساؤل، عن إعلان بايدن بنفسه المقترح، بالإنابة عن إسرائيل، وهذا المقترح، لايبدو أنه خرج من دون مداولات ونقاشات مستفيضة في الحكومة الإسرائيلية، وما يصرح به بن غفير وسموتيريتش، هو من قبيل المناورة السياسية، لمحاولة تلافي مرارة الهزيمة، والاستسلام.
وليس بالأمر المعهود أن ينخرط الأمريكيون في المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين بهذه الطريقة، وأن يتولى رئيس أمريكي مهمة الإعلان عن تفاصيل اتفاق بينهما، ويقوم بدور المتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية، بإعلانه في مؤتمر صحفي عن بنود هذا الاتفاق الذي قال إنه “إسرائيلي”، وهو التحول الذي يمكن قراءته من خلال عدة سيناريوهات، بعيدًا عن لغة الاستجداء المستخدمة إزاء الإسرائيلي في مقابل التهديد لحماس.
وختامًا، فإن هناك أصوات في الداخل الإسرائيلي ترى أن الاتفاق بصيغته الحالية والذي قال بايدن إنه حصل على ضوء أخضر من تل أبيب بشأنه، هو بمثابة انتصار سياسي لحركة حماس في المعركة لكنه بحاجه إلى تعديلات. فيما نقلت القناة الـ12 الإسرائيلية عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إنّ بايدن يفتقر إلى فهم حقيقة الصراع، وفي المقابل هناك من يرى أن اتفاق بايدن يتسق مع المزاج الشعبي الإسرائيلي، وما يجب أن يكون بعد ثمانية أشهر كاملة من الحرب لم يستطع الجيش الإسرائيلي تحقيق أهدافه، وهو ما ذهب إليه رئيس حزب العمل الإسرائيلي يائير غولان، الذي علق على الاتفاق بالقول: “بايدن قال ما فهمه الجميع في إسرائيل خلال المراحل الأولى من الحرب، إعادة جميع المحتجزين بغزة لن يتم إلا بوقف القتال، وتابع “الآن، يجب وقف القتال، وإعادة الجنود إلى بيوتهم”، حسب ما نقلت عنه صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية. ولاقت تصريحات بايدن ترحيبًا كبيرًا من عائلات الأسرى المحتجزين، فقالوا في تصريحات لهم نقلتها وكالة “الأناضول”: “حان وقت إبرام الصفقة فورًا.. بعد ثمانية أشهر من الحرب، يجب على العالم أن يتخذ الخطوات اللازمة لوضع حد لهذه الحرب وإعادة جميع الأسرى. وعلى أي حال، المقترح المقدم يتضمن الكثير من الشروط التي طالبت بها حماس، ومن ثم يمكن البناء عليه عبر التفاوض والنقاش من أجل التوصل إلى اتفاق نهائي، يضمن تحقيق أهم شرط المقاومة، وهو وقف الحرب بشكل شامل، والانسحاب الكامل من قطاع غزة، حتى لو تم ذلك على مراحل زمنية كما هو معلن.
ومثل هذا المقترح ما كان له أن يكون لولا صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة، وقدرتهم على تغيير قواعد اللعبة ومعادلات الاشتباك، وإفشال كل مساعي الحرب الإسرائيلية، كما نجحت حماس بإبداء إيجابية تعاطيها مع المقترح المقدم في تفويت الفرصة على حكومة نتنياهو في التسويف، والارتكان لسياسة التفاوض من أجل التفاوض، فحينها سيجد بايدن نفسه وجهًا لوجه في مواجهة حكومة الاحتلال، وهي المواجهة التي سيعمل الطرفان على تجنبها قدر الإمكان لما يترتب عليها من خسائر للجميع في وقت يحاول فيه بايدن غسل سمعته لدى الشارع الأمريكي، خاصة مع موعد اقتراب الماراثون الانتخابي، الذي يحاول فيه بايدن تحييد موقف نتنياهو من تأييده للجمهوريين، لكسب أصوات اليهود.
المصدر: عرب جورنال