كان لا بد لحكومة الاحتلال أن توجّه عيون الرأي العام الإسرائيلي إلى موقع آخر، وأن تقوم بعمل يرفع أسهم الحكومة أمام الناخبين اليمينيين. إذن، لا بد من القيام بضربة استباقية لإضعاف الجبهة الجنوبية.
ليست أول مرة، تتعاون فيها الرجعية العربية و”إسرائيل” على الشعب الفلسطيني، وعادة ما يأخذ هذا التعاون شكلاً خبيثاً، ظاهره “حماية” الفلسطينيين وباطنه كسب ودّ الاستعمار لمصالح ضيقة.
هل كان العدوان على غزة مخططاً مسبقاً؟ وما أهدافه؟
مذ اعتُقل الشيخ المجاهد بسام السعدي، ولاحظنا الحملة العسكرية الكبرى التي شنّت لتحقيق ذلك، والتي استخدمت فيها قوات الاحتلال الإسرائيلي طائرات مروحية وأخرى مسيّرة، ومصفحات وقناصين وكتيبة من الجيش والمستعربين وكلاباً بوليسية، لاعتقال شخص واحد، فهمنا أن هذه العملية العسكرية ليست عادية، إنما تشكل نموذجاً أو تجسيداً ميدانياً حقيقياً لعمليات من هذا النوع جرى التدرّب عليها من قبل. وعندما رافق ذلك حشد عسكري قرب السياج المحيط بقطاع غزة المحتل، واجتمع لبيد بالقيادات الأمنية يوم الأحد الماضي، وقرّر قطع إجازته المقررة سلفاً، وتذكرنا أن الإعلام الإسرائيلي سبق ذلك، بأسبوع، بحملة إعلامية اتّهم فيها المقاومة الفلسطينية باستخدام المدارس والمستشفيات في تخزين الصواريخ، فهمنا، يقيناً، أنه يجري الاستعداد لعملية عسكرية ضد السكان المدنيين والمقاومة في قطاع غزة، وأن المدنيين سيكونون هدفاً للعدوان. وكيف لا نفهم، ونحن من يتابع كل عدوان بما يسبقه، وما يجرى خلاله، وما يتبعه من تلخيصات ودروس وكشف ما كان مستوراً؟!
أما عن الأهداف فهي كثيرة ومتعددة الاتجاه، منها المُعلن، ومنها غير المعلن، وفق الحاجات الإعلامية السياسية.
في الأسابيع الأخيرة شنت وسائل الإعلام اليمينية، مع اليمين الإسرائيلي المعارض حملة على حكومة لبيد-غانتس، واتهمتها بالجُبن والتقاعس عن مواجهة التحدي الذي أبدته المقاومة اللبنانية، وفق المعادلة الجديدة، التي أطلقها سماحة السيد، “ما بعد “كاريش” وما بعد بعد “كاريش”، و”إما أن نستخرج غازنا ونفطنا من البحر وإلا فلن نسمح لأحد بأن يستخرج”! هذه المعادلة شغلت الحكومة الإسرائيلية والرأي العام، وسرّعت وتيرة نشاط المبعوث الأميركي الصهيوني، أموس هوكستين، للوصول إلى حل لترسيم الحدود، وبدأت الحكومة الإسرائيلية ترجو من كل ذي صلة أن يتوسط لدى حزب الله بألا ينفذ تهديداته.
وفي الأجواء يحلّق سؤال مُلِح ومقلق، ماذا لو حصلت الحرب المتوقعة مع المقاومة اللبنانية؟ هل تستطيع “إسرائيل” أن تصمد في هذه المواجهة؟ لا سيما أن كل التقديرات تقول إن المقاومة الفلسطينية قد تنضم إلى كل حرب بين “إسرائيل” والمقاومة اللبنانية، فتكون حرباً على جبهتين على الأقل.
في مثل هذه الحالة السياسية والأمنية، كان لا بد لحكومة الاحتلال أن توجّه عيون الرأي العام الإسرائيلي وأذهانه إلى موقع آخر، وأن تقوم بعمل يرفع أسهم الحكومة أمام جمهور الناخبين اليمينيين، والرأي العام الذي يزداد يمينية وتطرفاً. إذن، لا بد من القيام بضربة استباقية لإضعاف الجبهة الجنوبية ومنعها من المشاركة في أي حرب مع حزب الله. لتحقيق ذلك كان لا بد من تقييم وضع المقاومة في القطاع المحتل. هل تستطيع قوات الاحتلال أن تشن حملة عسكرية محدودة على الجهاد الإسلامي من دون تدخل سائر الفصائل، وحماس تحديداً؟ ومن يضمن ذلك؟
كما اعتادت حكومات “إسرائيل” السابقة، لا بد من سفك الدماء الفلسطينية على مذبح الانتخابات، ولا بد من إزهاق الأرواح الفلسطينية وتهديم الأبراج السكنية في غزة، لأن هذا ما يرضي الناخب الإسرائيلي الصهيوني المتعطّش إلى ذلك. لكن المشكلة التي كانت تواجه حكومة الاحتلال وجيشها، كيف ستخرج من المعركة؟ وهل تستطيع أن تستفرد بفصيل صغير تلقي عليه حممها البركانية لتشعر بالقوة بدلاً من الضعف، تعيد ثقة الجيش بنفسه وترضي جمهور الناخبين اليمينيين؟ ومن يضمن ذلك؟
أما الأهداف المعلنة، التي صرحت عنها الجهات الرسمية بعد اجتماع لبيد بالكابينيت الأمني، واستبعاد السياسي، يوم الأحد 31 تموز/يوليو، فتتمثل “بالاستعداد لمنع الجهاد الإسلامي من تنفيذ عملية رد عسكرية على اعتقال القيادي بسام السعدي من مخيم جنين”. وادعت الجهات الأمنية والسياسية أن لديهم معلومات بالتخطيط للرد، ولذلك قاموا بإجراءات منع تجوال للمستوطنين في مستوطنات “غلاف غزة”، المقامة على أراضي اللاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون ببؤس في القطاع المحاصر منذ 15 سنة. وفي الحقيقة كان كل ذلك ضمن حلقات الاستعداد النفسي والسياسي لسيناريو العدوان المُبيّت.
في تقييم الظروف الملائمة للقيام بعدوان غادر
لتقييم الظروف المناسبة للعدوان وشق صف المقاومة، اعتمدت سلطات الاحتلال على ثلاثة مصادر من المعلومات:
أولاً: خبرة ومتابعة وتقييم مراكز الأبحاث الإسرائيلية، ومنها مركز أبحاث الأمن القومي، وضمن ذلك، التمييز بين مصالح حماس من جهة، والجهاد الإسلامي من جهة ثانية، إضافة إلى مصلحة مصر والاستخبارات المصرية تحديداً في تقليم أظافر “الجهاد” من دون تدخل “حماس” وسائر فصائل المقاومة المسلحة، معتمدة في ذلك على دور الاستخبارات المصرية في معركة “سيف القدس”، وما تبعها من معارك صغيرة، الأخيرة فيها مسيرة الأعلام الاستفزازية في القدس القديمة، واقتحامات المستوطنين في حزيران/يونيو الماضي، ودور مصر وقطر في منع تدخل المقاومة من غزة.
ثانياً: أما المصدر الثاني، فهو ما تستخلصه الاستخبارات من خلال مئات المحادثات غير المباشرة التي تجرى مع عمال فلسطينيين تم السماح لهم دخول “إسرائيل” والعمل فيها خلال الشهر الماضي، وبلغ عدد التصاريح 14 ألف تصريح. هذه المحادثات لا تجري من خلال تحقيق يجريه الشاباك مع العمال، إنما هي أحاديث، تبدو عادية، تجري بين المشغل الإسرائيلي والعامل الفلسطيني، أو بين صحافي إسرائيلي وعامل فلسطيني، لتصل إلى الباحثين في صفوف الشاباك مادة تضاف إلى التقييمات والأبحاث، تعزز فرضية أو ترفضها.
ثالثاً: الأهم من هذا المصدر وذاك التقييم المشترك مع الاستخبارات المصرية للأوضاع في غزة، وعلاقات الفصائل فيما بينها وقدرة الجمهور الفلسطيني على احتمال التضحيات، وقدرة مصر على ضبط إيقاع وردود المقاومة من غزة، وتدخلها في الوقت الملائم، لمنع تدحرج المعركة واتساعها وتورط قوات الاحتلال تالياً بما لم تكن مستعدة له. من هنا قال البيان الإسرائيلي الرسمي إن العدوان جاء بناء على توصيات القيادة العسكرية والشاباك، والمقصود هنا هم الباحثون الذي يتواصلون مع نظرائهم المصريين. وعليه، جاء التواصل الإسرائيلي المصري من اليوم الأول بعد اعتقال السعدي، وشن العدوان ضمن الأهداف المحددة له، كما راقب الطيران المسيّر تحركات القادة الفلسطينيين خلال لقائهم الاستخبارات المصرية حتى الساعة الأخيرة قبل العدوان، ويقول رئيس تحرير صحيفة “الأهرام”: “إن إسرائيل وعدت الاستخبارات المصرية أن تكون العملية العسكرية محدودة، وموجّهة ضد “الجهاد الإسلامي” فقط”.
دور الاستخبارات المصرية وغيرها
للتفصيل أكثر، يتمثل دور الاستخبارات المصرية وجهات عربية أخرى في ثلاثة مستويات ومراحل
أولاً: في تقييم مشترك مع الاستخبارات الإسرائيلية والباحثين المختصين بالظروف الداخلية في القطاع، وفي العلاقة بين قوى المقاومة ومصالح كل منها، لمعرفة ما إن كانت الظروف ملائمة لشن العدوان وإمكان تحقيق أهدافه. ولا يتورع “الخبراء”، العسكريون والأمنيون المصريون عن الإدلاء بتقييماتهم هذه على شاشات التلفزة الإسرائيلية أيضاً.
ثانياً: في ضبط إيقاع الرد من المقاومة، من خلال الضغوط والتهديدات.
ثالثاً: في الوصول إلى وقف إطلاق النار أو تهدئة، حين تحتاج “إسرائيل” إلى ذلك، وفق الشروط الإسرائيلية، لكن إخراج هذه النهاية يتطلب أن تبدو وكأنها مبادرة مصرية، تقوم بموجبها الاستخبارات المصرية بتقديم “ضمانات” إلى المقاومة، وقد ثبت من تجربة المعارك السابقة، أنها ضمانات فارغة، وهي مجرد تضليل للرأي العام العربي عامة والفلسطيني خاصة، لأن “إسرائيل” لا تقدم إلى مصر إلا الفتات الذي يحفظ ما وجهها. في النهاية، هي جهود مصرية تهدف إلى إرضاء السيد الأميركي والإسرائيلي، بحثاً عن مصالح مصرية ضيقة أو مصالح شخصية لهذه الشخصية أو تلك.
ليس صحيحاً أن “إسرائيل” خدعت الاستخبارات المصرية، وهي تدعي في كل جولة أن “إسرائيل” خدعتها، وأن “إسرائيل” لم تفِ بوعودها، وفي تنفيذ الاتفاقيات، أين هي الاتفاقيات؟ إذا كان الأمر كذلك فلماذا تعلنون اتفاقيات وتفاهمات، وتعودون إلى تقديم الضمانات الفارغة؟ إن المشاركة الفعلية في تقييم الظروف الملائمة لشن العدوان يحتم المعرفة المسبّقة لنيات “إسرائيل” العدوانية.
من يراجع تصريحات المسؤولين الإسرائيليين والمصريين قبل العدوان وخلاله، وغداة وقف إطلاق النار، والتعبير عن رضاهم عن الدور المصري، لا بد أن يصل إلى هذه الحقيقة. وكان أكثر التصريحات توضيحاً ودلالة على الدور المصري، هو المديح الذي كاله الرئيس بايدن، بعد بضع ساعات من وقف إطلاق النار، للدور المصري والقطري في الوصول إلى وقف لإطلاق النار، مع التذكير بأن أميركا هي من أعطى “إسرائيل” الضوء الأخضر لشن هذا العدوان من خلال الإعلان عن إبلاغ غانتس نظيره الأميركي، أوستن، بذلك، ووقوف بايدن إلى جانب “إسرائيل” في عدوانها منذ اليوم الأول، بذريعة “الدفاع عن النفس”. فلو كانت أميركا محبة لوقف إطلاق النار، أو منع سفك الدماء الفلسطينية فعلاً، لما أعطت الضوء الأخضر للعدوان؟
في تقييم النتائج
الحقيقة أن “سرايا القدس” لم “تنتصر”، بالمعنى التكتيكي لجولة واحدة، على “إسرائيل”، لكنها أثبتت أن “الجهاد الإسلامي” قادر على الصمود، وعلى إدارة معركة دفاعية ومعنوية تحفظ وفاءه لأرواح الشهداء ودماء الجرحى وعذابات الأسرى في معتقلات العدو الصهيوني، ووحدة الساحات الفلسطينية. الجهاد كانت وحدها في وجه جيش قوي يتمتع بقدرات عسكرية كبيرة، بل يدّعي أنه من أقوى الجيوش في العالم، وهذا الصمود هو ما يقلق الخبراء الإسرائيليين في الوقت الحاضر. وتساءل عدد منهم، على شاشات التلفزة الإسرائيلية، كيف ستواجه “إسرائيل” حزب الله، وهو يمتلك قدرات عسكرية ولوجستية أضعاف أضعاف ما تمتلكه سرايا القدس؟ كيف ستواجه حزب الله، وهو غير محاصر من دولة “شقيقة”، ولا يخضع لأي ضغوط من استخبارات عربية موجَّهة من الولايات المتحدة و”إسرائيل”؟
في غضون ثلاثة أيام، وعلى الرغم من الخسارات الكبيرة التي تكبدها “سرايا القدس”، باغتيال القادة العسكريين الكبار منذ اللحظة الأولى للعدوان، وعلى الرغم من ضغوط “الأشقاء” العرب، وقدرات الطيران الحربي الإسرائيلي، إلا أن سرايا القدس استطاعت أن تطلق ما يقارب 1000 صاروخ باتجاه قوات العدو، أي بمعدل 300 صاروخ يومياً، وهذا يساوي المعدل اليومي لما أطلقته قوى المقاومة مجتمعةً في غزة إبّان العدوان الإسرائيلي في أيار/مايو 2021 المسمّى إسرائيلياً “حامي الأسوار”. ولم يكن هذا منتظراً قطّ.
علينا أن نفهم، أنه لم يحن وقت الانتصار بعد، وأننا ما زلنا في حدود الصمود في وجه العدوان الصهيوني المدعوم من الاستعمار والرجعية العربية التابعة للبيت الأبيض. ومع ذلك، على منظمة الجهاد الإسلامي أن تراجع تجربتها بموضوعية ومسؤولية لتجنب نقاط الضعف، وتعزيز نقاط القوة، وبذل جهود أكثر لفهم مخططات العدو وخطر علاقاته بالأنظمة العربية المطبّعة، وخصوصاً الاستخبارات المصرية. على المقاومة الفلسطينية عامة أن تراجع مواقفها من هذه المعركة تحديداً، ومن معارك أخرى، وأن تحذر كل الحذر من التعاون القائم بين الاستخبارات العربية والإسرائيلية برعاية أميركية، على العامل الفلسطيني في “إسرائيل” أن يحذر أحاديث تبدو بريئة، وهي في الحقيقة أحاديث خبيثة تهدف إلى استطلاع الراي العام الفلسطيني وظروف المقاومة، وعلى قوى المقاومة أن تتخذ كل الخطوات التي من شأنها التحرر من ضغوط وقيود “الأشقاء”…
“من جرّب المجرّب كان عقله مخرّب”. الاحتلال
المصدر: الميادين