العين برس – بريطانيا
عادةً ما نرصد الأزمات المعيشية في الدول النامية، أو الدول التي صودرت قراراتها، وتحكَّمت فيها عدةُ دول، لكن ليس في دولة تقع قبالة الساحل الشمالي الغربي لقارة أوروبا. شهدنا مؤخراً “طوابير” أمام محطات المحروقات في عدد من الدول، التي فُرض عليها الحصار، للضغط عليها من باب لُقمة العيش. لكنْ، ما الذي يحدث في بريطانيا، خامس أكبر اقتصاد في العالم؟
امتدَّت طوابير السيارات أمام محطات التزوّد بالوقود في بريطانيا منذ أيام، ووصلت مدة الانتظار في بعض الأماكن إلى أكثر من ساعتين، ليتمكّن السائقون من مَلء خزانات سياراتهم. وأعلنَ بعض سلاسل محطات الوقود فَرْضَ حد أقصى لشراء الوقود للسيارة الواحدة لمواجهة النقص في الوقود المتوافر في محطات البنزين.
بالتوازي، ازدادت أسعار بعض البضائع بحدة خلال الشهر الماضي، في وقت “واجهت الشركات أسعاراً متزايدة للسلع وتكاليف الشحن البحري، إلى جانب الروتين الإداري المتَّصل ببريكست”، وفق الائتلاف البريطاني للبيع بالتجزئة. وشهدت تكلفة البضائع الكهربائية قفزة حادة، في حين شهدت قطاعات أخرى تباطؤاً ملحوظاً في معدَّل انكماش الأسعار. وحذّر خبراء من أن إمكان حدوث تضخُّم، مع ارتفاع في أسعار المواد الغذائية، “محتملٌ” في الأشهر المقبلة.
أسباب الأزمة.. “بريكست”، أم “كورونا”؟
وفق مراقبين، ساهم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في تراجع كبير في أعداد سائقي الشاحنات المتوافرين لنقل البضائع، إلى جانب ارتفاع الأجور في بلدانهم الأُم. وتشير تقارير إلى أن متطلبات العزل الذاتي بسبب فيروس “كورونا” كانت عاملاً أيضاً، وأن هذا الخروج أجبر عدداً كبيراً من سائقي الشاحنات، من بولندا ودول أوروبية أخرى، على العودة إلى بلادهم.
الأزمة دفعت الحكومة البريطانية إلى دراسة استحداث تسهيلات دخول وامتيازات أخرى للسائقين الأوروبيين للعودة إلى بريطانيا، كحلّ سريع لإنهاء الأزمة، على الرغم من انتقادات المعارضة، التي قالت إن مثل هذا “الحل موقَّت وقصير الأمد، ويجب أن تكون هناك حلول أخرى”.
حاولت الحكومة البريطانية طمأنة مواطنيها بالقول إن الأزمة ليست طويلة الأمد، وإنها ناتجة من وباء “كورونا” لا “البريكست”، بينما حذّر النائب عن حزب العمال، ديفيد لامي، الحكومة من أنها ستواجه “شتاءً ساخطاً” نتيجة نقص العمال والإمدادات.
واستتبعت أزمةُ الوقود أزمةَ شح مواد غذائية. فعلى سببل المثال، عانت سلسلة وجبات سريعة أميركية، تملك نحو ألف و250 محلاً في المملكة المتحدة، نقصاً في المكوِّنات الأساسية عَوَّقت عملها. وعادةً ما يَستتبع أيُّ فراغ أميركي انزعاجاً بريطانياً، حتى على صعيد وجبة.
وجراء ذلك، تدرس الحكومة البريطانية إجراء تعديلات على قوانين الهجرة، من أجل تسهيل مَنح تأشيرات دخول 5 آلاف سائق أجنبي لحلّ الأزمة، بينما كانت الحكومة البريطانية نفسها عانت فضيحةً، بطلها “جيل ويندراش”، والتي تفجّرت في أيار/مايو 2018، بعد أن أجبرت وزارة الداخلية آلافَ المهاجرين من دول في أفريقيا والبحر الكاريبي على الترحيل القَسْري بحُجة عدم امتلاكهم أوراقاً تُثبت إقامتهم بالمملكة المتحدة، على الرغم من أنهم سبق أن هاجروا مع عائلاتهم، مطلعَ السبعينيات من القرن الماضي، من تلك الدول الواقعة ضمن اتحاد “الكومنولث”، الذي يضم مستعمرات بريطانية سابقة، على متن سفينة إمبراطورية حملت الاسم نفسه، في إطار قانون كان يسمح وقتَها بحرية التنقُّل بين تلك الدول وبريطانيا.
بريطانيا، التي عانى المهاجرون إليها، في زمن “جيل ويندراش”، الحرمانَ من الرعاية الصحية وبعض حقوق المواطنة، تستدعي المهاجرين اليوم من أجل محاولة حلّ مشاكلها. وعلى ما يبدو، فإن حالهم لن تكون أفضل من حال المهاجرين إلى الولايات المتحدة، والذين لا تتّبع أميركا معهم “سياسة إنسانية”، بحسب البيت الأبيض.
الوزراء اقترحوا، في اجتماعاتهم أيضاً، الاستعانة بالجيش لمواجهة الأزمة. وقالوا إنه يمكن للعسكريين، من المدرَّبين على قيادة الشاحنات، القيام بالمهمة. لكن، كيف يمكن لجيش اعتاد العمل وراء آلات الموت، أن يعمل أفراده سائقي شاحنات تمرِّر الوقود؟
هل تدفع بريطانيا ثمن خروجها من أوروبا؟
شهدت خطوة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي استقطاباً داخلياً كبيراً. ففي الوقت الذي رحب رئيس الحكومة البريطانية بوريس جونسون بالخطوة، واعتبرها “لحظة رائعة”، هاجمها سياسيون كُثُر، ووصفتها صحيفة “الغارديان” بأنها “يوم حزين لبريطانيا، وخطأ وطني مأساوي”.
في النهاية، خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بعد 47 عاماً من العضويّة فيه، وسنوات من الخلافات الداخليّة. رئيس حزب “بريكست” نايجل فاراج، قال وقتذاك إن “هذا الخروج هو شيء قاتلتُ من أجله 27 عاماً”، بينما أمل زعيم المعارضة جيرمي كوربن في “ألَّا تستدير البلاد إلى الداخل، وترتمي في أحضان الولايات المتحدة”. كثيرون حذّروا من تَبِعات هذا الخروج على بريطانيا واقتصادها ومستقبلها، ونسبوا جميع الأزمات اللاحقة إلى خروج البلاد من الاتحاد.
اليوم، يرى مناهضو الانفصال عن السوق الأوروربية المشتركة أن ما يحدث في المملكة، وما تعانيه من أزمة وقود وبضائع، إنما هما نتيجة مباشِرة لهذا الانفصال. ويُحمّلون رافعي لواء الانفصال المسؤوليةَ عمّا وصلت إليه الأوضاع، بينما يرون أن هذه الأزمات لن تقف عند هذا الحد، وأنها ستكون متدرِّجة، وربما تتبعها أزمات أخرى، أو تتفاقم الأزمة الحالية.
هذا عدا عن أن بريطانيا خسرت التحالف مع جيرانها القريبين، والذين ربما لن يكونوا متحمِّسين لمساعدتها، أو حلّ أزماتها الداخلية، بعد أن اختارت طريقاً مُغايراً، ولا يلتقي مع أهداف الاتحاد الأوروبي.
هل تنجح الأزمة الاقتصادية في “تهذيب” السلوك البريطاني؟
لم يختبر الشعب البريطاني أزمات حقيقية فعلية منذ الحرب العالمية الثانية، لكنه شعب يهاب الأزمات، في طبيعته، بدليل أن أزمة نقص في مناديل ورق الحمّام حلّت في البلاد في آذار /مارس الماضي، في ذروة انتشار فيروس “كورونا”، فتهافت المواطنون على شراء المناديل خوفاً من فقدانها، الأمر الذي يعني أن الخوف كان سبباً في نَقص المناديل فترةً. بعد أزمة المحروقات، صرّحت الحكومة بأن مخزون الوقود يكفي أشهراً، لكنّ النقص يقتصر على العمّال فقط. وعلى الرغم من ذلك، فإن المواطنين تهافتوا على محطات الوقود، وسارعوا إلى تعبئة “الغالونات” وتخزينها، الأمر الذي دفع الحكومة نفسها إلى التصريح بأنها “تستغرب سلوك الشعب”.
السلوك، الذي تذمرّت منه الحكومة، ينسحب عليها. فعلى مرّ التاريخ، كان سلوك الحكومات البريطانية “فظاً”، وبُني على عقيدة الاحتلال والحروب وسَلب الآخرين ممتلكاتهم وحقوقهم، بدءاً من 31 تشرين الأول/أكتوبر 1917، حين كانت الحكومة برئاسة لويد جورج تناقش إصدار الوعد الذي يدعم “إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين”، بينما يقف القيادي الإسرائيلي، حاييم وايزمان، خارج غرفة الاجتماعات مترقّباً ما سيحدث.
السياسي البريطاني، مارك سايكس، يخرج من الغرفة مهنئاً وايزمان، وقائلاً له: “دكتور وايزمان… المولود ذكر”. وكانت الولادة السياسية للوعد المكوّن من 67 كلمة، والذي سيتمّ الإعلان الرسمي عنه، في شكل خطاب موجَّه من وزير الخارجية البريطاني آنذاك، آرثر بلفور، إلى لورد روتشيلد، رئيس الاتحاد الصهيوني في بريطانيا، يوم الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 1917. 104 أعوام مضت على احتلال الأراضي الفلسطينية بموجب “وعد بلفور” بمباركة بريطانية.
بريطانيا من أكثر الدول التي يذكر التاريخ أنها قامت باستعمار الدول الأخرى، بحيث ضمت مستعمرات بريطانيا أكثر من 200 دولة، عدا عن المستعمرات التي أقامتها داخل البلدان حول العالم.
قد تشكّل الأزمات الداخلية عاملاً أساسياً في تغيير مستقبل المنظومة الغربية الرأسمالية، وعلى رأسها بريطانيا. لكن، من غير المعلوم إن كانت بريطانيا ستسعى للهروب من أزماتها الصغيرة عبر اختلاق أزمات أكبر على هيئة حروب، لتستمر في ثقافتها الاستعمارية، مع ما تحمله من غنائم تعزِّز الاقتصاد، أم أنها ستهدأ وتنتقل إلى الرشد السياسي.
يُنقَل عن ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية، قوله إن “المدخّن الشَّرِه، والذي يقرأ كثيراً عن أخطار التدخين، لا بدّ من أن يُقْلع يوماً عن القراءة”. ومن غير المعلوم إن كانت بريطانيا ستعمل بنصيحته هذه.
المصدر : الميادين