الدرس السادس عشر للسيد عبدالملك من وصية الإمام علي لابنه الإمام الحسن
العين برس/ متابعات
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
(نص+ فيديو) الدرس السادس عشر للسيد عبدالملك من وصية الإمام علي لابنه الإمام الحسن
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيم.
أَيُّهَــــا الإِخْــــوَةُ وَالأَخَوَات: السَّــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُــه؛؛؛
قال أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ”: ((إِذَا كَانَ الرِّفْقُ خُرْقًا، كَانَ الْخُرْقُ رِفْقًا))، تحدثنا عن هذه الجملة بالأمس، وما تفيده، وتحدثنا عن أهمية الرفق: وهو الأسلوب الذي يعتمد فيه اللطف، واللين في التعامل مع الأمور، وكثير من الأمور يناسبها ذلك، أكثر الأمور في واقع الناس، وفي معاملاتهم، وفي أعمالهم، يناسبها الرفق، لكنه ليس قاعدةً للتعامل مع كل شيء، هناك من الحالات، من الأمور، من المواقف، ما يحتاج إلى التعامل بحزم، ما يحتاج إلى الشدة أحيانًا، وذلك عندما تكون النتيجة للتعامل بأسلوب الرفق نتيجةً سلبية، نتيجةً ضارة، نتيجةً تؤثر سلبًا على الواقع، وإذا كان الأثر سيئًا لأسلوب الرفق، حينها يتطلب الأمر أن يكون هناك شيٌء من الشدة، ضربنا أمثلةً بالأمس؛ مثلما هو حال الموقف من الأعداء، مثلما هو حال التعامل في بعض الحالات التربوية، وهكذا بعض الأمور في واقع الناس التي تحتاج إلى حزم وتكون نتيجته إيجابية، تكون نتيجته: دفعُ ضرر، أو تحقيق نتيجة جيدة، أو غير ذلك.
((رُبَّمَا كَانَ الدَّوَاءُ دَاءً، وَالدَّاءُ دَوَاءً، وَرُبَّمَا نَصَحَ غَيْرُ النَّاصِحِ، وَغَشَّ الْمُسْتَنْصَحُ)).
((رُبَّمَا كَانَ الدَّوَاءُ دَاءً، وَالدَّاءُ دَوَاءً))، هذا يبيّن لنا كيف نتعامل مع الواقع، مع ما نواجهه، مع مختلف الأمور والقضايا، وفق مقتضى الحكمة، في كل شيءٍ بما يناسبه، وهذه مسألة مهمة؛ لأنه إذا كان الإنسان يتعامل بأسلوب واحد، وطريقة واحدة مع كل الأمور لا يدرك المتغيرات، لا يدرك بعض الاختلافات في كثير من الأمور، وأن أسلوبًا معينًا إذا استخدمه في غير ذلك الشيء قد تكون نتيجته سلبية؛ عكس ما يريده، فقد يكون الرفق في بعض الحالات سببًا لحصول مفاسد، أو مظالم، أو مشاكل كبيرة أحيانًا، أو يُجرِّئ أهل العدوان لما هو أفظع، لما هو أضر، لما هو أكبر مما كنت تهدف إلى تفاديه من خلال ذلك الأسلوب.
الدواء مثلًا لو قد انتهت صلاحيته، وتداوى به المريض، قد يكون ضارًا قد يسبب له أمراضًا أخرى، أو أعراضًا صحيةً أخرى، أو قد تقدم دواء مثلًا لمريض، من مرض معين، لكن لا يناسبه هو لاعتبارٍ آخر. هكذا هي الأساليب التي نعالج بها مشاكل الحياة من حولنا، منها ما قد لا يناسب مع حالة معينة، قد يناسب في حالة، ولا يناسب مع حالةٍ أخرى. فعلينا أن ندرس ما نواجهه من قضايا، ما نعالجه من مشاكل، من جوانبها المختلفة، لكي نعتمد الطريقة المناسبة لهذه الحالة، فقد يعتمد الإنسان مثلًا على أسلوب يتعامل به مع قضية معينة، فيلحظ النجاح في ذلك، فيتصور أنه الأسلوب المناسب للتعامل مع بقية الأمور، هذا يحصل للبعض في أسلوبهم العملي، إذا حقق نجاحًا من خلال أسلوب معين، أو طريقة معينة، في التعامل مع قضية، أو مع موقف معين، أو مع حالة واجهها، تصور أنه الأسلوب الأنسب الذي يعتمد عليه بشكلٍ تام مع مختلف القضايا ومختلف الحالات، ثم يُصدَم عندما يواجه في حالةٍ مختلفة ما تكون النتيجة معاكسة تمامًا.
فعلى الإنسان أن ينظر لكل حالة بما يناسبها، ولا يندفع نتيجة أنه أحس بنجاح تلك الطريقة في ذلك الموضوع، أو القضية، أو الموقف، يندفع بتسرع للتعامل بها مع مختلف الحالات الأخرى، فالحالات تختلف؛ منها ما قد يكون حلًّا ومعالجةً لمشكلة معينة هناك، في حالة مختلفة داءً، يعني مشكلة حقيقية ولا يصل إلى نتيجة، ومنها ما قد يكون هناك كأسلوب أو طريقة؛ طريقة معالجة لمشكلة هناك، لو استُخدِم هناك في قضية مختلفة عنها- لديها جوانب اختلاف معينة- فيتحول إلى داء، فالداء هناك هو دواء هناك، والدواء هناك هو داء هناك. فأسلوبنا، طريقتنا في معالجة ما نواجهه من مشاكل الحياة، ما نتعامل به مع مختلف القضايا، يجب أن يكون مبنيًا على وعيٍ وحكمة، وبفهمٍ لحيثيات القضايا والأمور وما يتعلق بها، وبالتالي التحديد لما يناسبها؛ بالاستناد إلى معرفة صحيحة، ومعطيات صحيحة، وإلمام بالقضية من مختلف جوانبها.
((وَرُبَّمَا نَصَحَ غَيْرُ النَّاصِحِ، وَغَشَّ الْمُسْتَنْصَحُ))، النصيحة هي من الأشياء المهمة في الحياة، وهي من المسؤوليات، المسؤوليات الفردية، المسؤوليات الجماعية، و((الدِّينُ النَّصِيحَة)) كما ورد في الحديث النبوي الشريف. فالنصيحة مهمة، وأن يسود بين الناس النصيحة، ولكن لابد أن يحرص الإنسان على أن يمتلك الوعي، وأن يستوعب الأسُس الصحيحة، التي يميز من خلالها بينما هو نُصح، وتذكيرٌ فعليٌ بما عليك أن تعمله، تذكيرٌ بشيءٍ صحيح، عندما تكون قد غفلت عنه، أو لم تتنبه إليه.
فأحيانًا قد يأتيك النصح؛ يعني ما هو تحت عنوان نصيحة، سواءً كنت أنت من يطلبه؛ طلبت من شخص أن ينصحك تجاه موضوعٍ معين، على سبيل الاستشارة منه، أو بادر هو بنصحك في موضوع معين تحت عنوان النصح، قد يغُشُّك، إما متعمدًا، وإما جاهلًا، قد يكون متعمدًا فيما أنت تثق به، هو في ذلك الموضوع لم يَصدُق معك، ويقدم لك ما هو نصحٌ حقيقي. وقد يغُشُّك عن غير عمد؛ بجهالة، قد يكون متصورًا أنه يقدم لك النصح الحقيقي.
في القرآن الكريم قدم اللّٰه لنا درسًا مهمًا في الانتباه بما يقدَّم إلينا تحت عنوان النصح، وكيف ينبغي أن نتعامل في الأساس من خلال أسس، ومن خلال معايير صحيحة، حتى يتبين لنا ما هو نصحٌ حقيقي، وما هو غِش تحت عنوان نصح.
يقول اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وهو يقص لنا قصة أبينا آدم “عَلَيهِ السَّلَامُ” في القرآن الكريم، وما عمله الشيطان من خداع له ولزوجه حواء “عَلَيهِ السَّلَامُ”، يقول اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}[الأعراف: 21]، يعني أقسم، أقسم لهما باليمين ليثقا بكلامه، أنه ينصحهما، أنه ناصحٌ لهما، فيما يدفعهما إليه من أكل الشجرة، وهو يعرف أنه يغشهما، وأنه يُخادعهما، وأنه يمكر بهما. ولذلك لا يكفي أن يكون ما يُقدَّم إليك تحت عنوان نصح؛ حتى تتقبل أي شيء قُدِّم لك باسم نصيحة، على أساس أنك رجل محترم، وفاهم تتقبل النصح.
لا بد أن تحرص وأن تسعى لأنْ تمتلك الرؤية الصحيحة، والفهم الصحيح، والأسس الصحيحة، والمعايير الصحيحة، بتمييز ما هو نصحٌ حقيقي، تذكيرٌ بما عليك أن تعمل، وتنبيه إليه، وعندما توزِنه، أو تزِنه بمعيار المبادئ الصحيحة والحق والعدل: تجده فعلًا نصحًا حقيقيًا، وعليك أن تأخذ به، حتى لو أتاك ممن لا تتوقع أنه حريصٌ على أن ينصحك، أو ممن كنت قد لا تعتمد عليه أصلًا، لتقبل منه النصيحة. أنت من خلال الأسُس الصحيحة، والمعايير الصحيحة، أدركت أن ذلك نصحٌ حقيقي، نصحٌ مفيد، تنبيه على ما ينبغي أن تتنبه له، أو تذكيرٌ بما عليك أن تعمله، أو تتركه، أو تلتفت إليه، إلى غير ذلك، بحسب الأمور والمواضيع، والقضايا، فيجب أن يمتلك الإنسان الرؤية الصحيحة للتعامل مع ما يأتيه تحت عنوان النصح، والنصح في أصله مسألة مهمة، على الإنسان أن يحرص على أن ينصح الآخرين، وأن يتقبل النصح الصحيح، وألا يأنف إذا نُصِح، وبالذات عندما تكون نصيحة صحيحة، أن يتقبلها بصدر رحب، وتقبُّلٍ حسن، وألا يأنف أو يتكبر تجاه ذلك.
((وَإِيَّاكَ وَالْاِتِّكَالَ عَلَى الْمُنَى))، تحذير، ((وَإِيَّاكَ))، تحذير من الاتكال على المُنى، الاعتماد عليها. المُنى: ما يتمناه الإنسان، ما يتمنى الإنسان تحقيقه، أو الحصول عليه، أو الوصول إليه، من أهداف، أو مطالب، أو رغبات معينة، المُنى قد تكون فيما يتعلق بأمور الإنسان الشخصية ومتطلبات حياته، وقد تكون ضمن ما يتعلق بأموره العملية، ومسؤولياته العملية، قد تكون أمنية مشتركة مع الآخرين، يعني ما يرغب به الجميع، وأنت منهم كأمة معينة، أو مجتمع معين.
قد تكون هذه الأمنية خيالية، يعني مما يستحيل تحققه، إما من الأساس، وإما بحسب الظروف الموضوعية وسُنَّة الأسباب. وقد تكون هذه الأمنية ممكنة التحقق، لكن بشرط الأخذ بالأسباب، والتحرك العملي. فما كان مما نرغب بتحقيقه، على مستوى أمورنا الشخصية، إذا كان شيئًا يستحق الجهد والعمل، وهو في إطار الحق والخير، أو في إطار مسؤولياتنا العملية، وأهدافنا المقدسة، ما كان ممكن التحقق بالاعتماد على اللّٰه تعالى والتوكل عليه “جَلَّ شَأنُهُ”، والثقة به، والأخذ بالأسباب العملية، الأسباب بمجملها ومنها ما هو عملي: ما عليك أن تعمله. فهنا تجاه مثل هذه الأماني، يجب العمل، ويجب الأخذ بالأسباب، وإلا فلن تتحقق، مهما كانت رائعة، مهما كانت عظيمة، مهما كانت مثالية، الإنسان قد تكون أمنيته أمنيةً عظيمة ورائعة ومقدسة، يتمنى أن يسود الحق، أن ينتشر الخير، أن يقوم العدل، أن يصلح حال المجتمع، يتمنى الخير للناس، أمنيات رائعة، لكن مهما كانت أمنيات عظيمة، ومقدسة، ومشروعة، لا يمكن أن يتحقق شيء منها بدون عمل، كلها مرتبطة بالعمل، أمنيات الأنبياء “عَلَيهِم السَّلَامُ”، كان لابد لتحقيقها من بذل الجهد، ولم يبذل أحدٌ من الجهد، ولم يسعَ أحدٌ في العمل، مثلما فعلوا، وهم أنبياء الله، هم الأولى أن تتحقق لهم الأهداف العظيمة والأمنيات العظيمة، بدون سعي، ولا كدّ، ولا عناء، ولا تضحيات، ولا تعب، ولا مشقة، لكن كان لابد من الأخذ بالأسباب، كان لابد من العمل، لابد من الصبر، لابد من التضحية، لابد من تجاوز المشاق، لابد من الصبر على الصعوبات، وهكذا في بقية الأمور.
فلا ينبغي الاتكال على المُنى، يجب السعي لتحقيق الأهداف المهمة، الأهداف المقدسة، الأهداف العظيمة، الأهداف المشروعة، بشكل عملي والأخذ بالأسباب، وإلا فلن يتحقق شيء، بل سيكون ما يحدث في الواقع معاكس تمامًا لما تتمناه، وأنت تنتظر أن تتحقق لك تلك الأماني، فيما الذي يحصل في الواقع لأنك مفرط في العمل، مقصر في العمل، يحدث ما يعاكسها تمامًا. أنت تتمنى النصر ولكن لا تأخذ بأسبابه، فيكون الذي يحدث أن يتمكن العدو أكثر وأكثر. تتمنى العدل ولا تأخذ بأسباب تحصيله، فيكون ما يحصل هو المزيد من الظلم. تتمنى الخير للناس ولا تسعى لذلك، فإذا بالشر يطبِق على واقع المجتمع، وهكذا.
على المستوى الشخصي، وعلى المستوى الجماعي، لابد من حمل الروح العملية، والوعي بسنة الأسباب، والأخذ بها عمليًا، وإدراك قيمة العمل، وأهمية العمل، مع الثقة بالله، التوكل على اللّٰه، والاعتماد على اللّٰه، وفي ظل ذلك تتحقق الأشياء الكبيرة، بما يكتبه اللّٰه، بما يمُنّ اللّٰه به، بتوفيقه، بنصره، بتيسيره.
((وَإِيَّاكَ وَالْاِتِّكَالَ عَلَى الْمُنَى، فَإِنَّهَا بَضَائِعُ النَّوْكَى))، يعني الحمقى، المُنى: هي بضائع الحمقى في سوق الخيال، يتلهَّون بها، ينشغلون بها، كبديل عن العمل، فهم في حالة تخاذل عن العمل، في حالة إهمال وابتعاد عن الأخذ بالأسباب، وهم يمنُّون أنفسهم في كلامهم، في حديثهم مع بعضهم البعض، في خيالاتهم، وأوهامهم، وأحلامهم، حتى يتصورون تلك الأمنيات وقد تحققت، ويعيشون مع تلك الأجواء، بانسجام مع الخيال، ثم يُصدَمون في الواقع العملي بما هو مختلف تمامًا. الأمور مرتبطة بالعمل، ومرتبطة بالأخذ بالأسباب، وإلا كان الإنسان أحمقًا، إذا اتكل- بدلًا عن العمل- على الأماني لتتحقق من دون عمل ولا أخذ بالأسباب؛ فهو أحمق، بعيدٌ عن الفطنة، عن الذكاء، عن العقل، ليس إنسانًا فاهمًا، ليس إنسانًا حكيمًا، وأحمق وغبي بكل ما تعنيه الكلمة، يضيع نفسه، يضيع وقته، يضيع الفرص أيضًا، ولا يصل الى نتيجة.
((وَالْعَقْلُ حِفْظُ التَّجَارِبِ، وَخَيْرُ مَا جَرَّبْتَ مَا وَعَظَكَ))، التجارب في الحياة: مدرسة مهمة، تفيدك كثيرًا، ترسخ عندك حقائق؛ مما كنت سمعت به، أو قرأته، أو اطلعت عليه، أو تستفيد أيضًا معرفة مكتسبة، معرفة مبنية على تجربة، وما استفدته عن طريق التجربة، سواءً مما كنت عرفته سابقًا، لكنه من خلال التجربة، ترسخ عندك أكثر، عشته كواقع، فأنت استوعبته أكثر، على مستوى الإحساس، والشعور، والإدراك، والانتباه، والاستيعاب للأهمية، ومستوى تلك الأهمية. أو ما استفدته معرفةً وعشتهُ واقعًا عمليًا أيضًا.
فمن أهم المدارس التي تفيدك: هي مدرسة التجارب، من واقع حياتك، في كل المجالات. مثلًا في الجانب العسكري، الإنسان من خلال الواقع العملي، يعيش مواقف معينة فيها نجاح، ومواقف معينة فيها فشل، وإذا كان عنده تقييمٌ صحيح لكل تجاربه العملية، فهو يدرك أسباب النجاح، وأسباب الفشل، وبالتالي يستفيد، يصبح ذو خبرة أكبر، يمتلك الخبرة، يمتلك الفهم الصحيح، ومن واقع التجربة أصبحت تلك المعرفة ثمينة عنده، قيِّمة لديه؛ لأنه من خلال ما عاشه في التجربة، أدرك أهمية تلك الأمور، تلك المعارف.
فالإنسان كلما كان يحفظ التجارب، يحفظ التجربة، يستوعبها، يدرك تلك النتائج، الأسباب التي نتجت عنها تلك النتائج، ويعيها، ويوثقها، يمكن للإنسان أن يوثق كثيرًا من تجاربه، ممكن أن تكون عملية حفظ التجارب عملية منظمة عندما تكون في مسيرة عملية، في مجال عملي معين، القائمون على ذلك العمل يمكن لهم أن يوثقوا تجاربهم تلك للاستفادة منها، هم سيستفيدون منها، وأيضًا غيرهم سيستفيد منها، فهي مدرسة مهمة جدًا تزيد الإنسان فطنةً، فهمًا، ذكاءً، ولهذا سمَّاها العقل، ((وَالْعَقْلُ حِفْظُ التَّجَارِبِ))؛ لأنك تستفيد منها خبرةً فهمًا صحيحًا للأمور، فطنةً وذكاءً وحكمةً في التصرف والتعامل مع الأمور، ولا تحتاج إلى أن تكرر الأخطاء، أو أن تبدأ كل مرة في كل الأمور من نقطة الصفر، أنت تواصل من حيث انتهيت، أو حتى من حيث انتهى الآخرون؛ لأن ما نتحدث عنه ليس فقط ما تجرِّبه أنت، بل والاستفادة من تجارب الآخرين، فهي مسألة مهمة جدًا.
الإنسان يزداد فطنةً وفهمًا بالأمور، ونظرةً صحيحة، وخبرةً: من خلال حفظهِ للتجارب، ما كان منها تجربة له هو، وما لاحظه من تجارب الآخرين، واستفادة من تجارب الآخرين، وفي كل المجالات، تستطيع أن تطبق هذه القاعدة في واقع الحياة في كل المجالات، هذا يتطلب أن يكون هناك تقييمٌ صحيحٌ ودقيق؛ تتم فيه الاستفادة حتى من الأخطاء، ويكون هناك معرفة صحيحة بأسباب النجاح، وأسباب الفشل، وغير ذلك.
((وَخَيْرُ مَا جَرَّبْتَ مَا وَعَظَكَ))، التجارب فيما استفدته منها كثيرة، وفوائدها كثيرة، لكن الاستفادة الحقيقية: هي الاستفادة التي كان لها أثرها في واقعك، فهي أفادتك أنت في أن تعمل ما ينبغي أن تعمله من الأشياء المهمة، أو أن تكف وتحذر مما ينبغي أن تحذر منه، فما كان له أثر في واقعك: أخذت منه العبرة الكافية، واستفدت منه في واقعك العملي، فيما تعمل وفيما تتجنبه وتحذر منه، فهو الذي يفيد جدًّا، العبرة في التجربة: بنتيجتها وثمرتها في واقعك.
((بَادِرِ الْفُرْصَةَ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ غُصَّةً. لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ يُصِيبُ، وَلَا كُلُّ غَائِب يَؤُوبُ. وَمِنَ الْفَسَادِ إِضَاعَةُ الزَّادِ، وَمَفْسَدَةُ الْمَعَادِ))، بادر الفرصة: سارع لاغتنام الفرصة قبل فواتها، وقبل أن يضيع وقتها؛ أن ينتهي وقتها. من أهم ما ينبغي استيعابه وفهمه: هو أهمية الفرص، وما يمكن أن يتحقق فيها؛ مما لا يتهيأ في غيرها. الفرص قد تكون ظروفًا معينة، يتهيأ فيها لإنجاز أهداف معينة، أو أعمال معينة، أو تحقيق نتائج معينة، ما لا يتهيأ في غيرها، إما لا يتهيأ في غيرها بمستواها، وإما لا يتهيأ أصلًا في غيرها.
من الحكمة ومما يدل على الاهتمام: هو المبادرة لاغتنام الفرص، وإدراك قيمتها وأهميتها، وامتلاك الحرص عليها. فالإنسان مثلًا: في ظل ظروف الجهاد في سبيل اللّٰه، والتصدي لأعداء الله، قد تواتيه فرص لتحقيق الانتصار، فرص مهمة جدًّا، أو قد تتحقق فرصة النصر، ولكن تكون الخسارة عندما لا تُستثمَر كما ينبغي، يحصل أحيانًا أن ينهار العدو، وأن تنكسر خطوطه الدفاعية، فإذا لم يكن هناك إدراك لقيمة تلك الفرصة وأهميتها، قد لا تُستثمَر بالمقدار الذي ينبغي، وهكذا في كل مجالات الحياة، تتهيأ للإنسان أحيانًا الفرصة في تحقيق أمر معين، وهو أمر مهم، وأمر ينبغي السعي لتحقيقه، بمعيار الحق، والعدل، والخير، والحكمة، يتقاعس الإنسان، فتفوت تلك الفرصة، فيكون خاسرًا، إما لا يتهيأ له تحقيق ذلك الهدف أصلًا، أو إنجاز ذلك العمل، أو الوصول إلى ما كان ينبغي الوصول إليه، وإما لا يتهيأ إلا بصعوبة، وثمنٍ باهظ، وعناءٍ كبير، وكل ذلك لم تكن بحاجةٍ إليه، ولم يكن ملازمًا لسعيك لو اغتنمت الفرصة.
يحتاج الناس إلى أن يمتلكوا الوعي والحس والشعور بأهمية اغتنام الفرص، بقدر أهمية الأمور لديهم، أهمية الأمور نفسها. إذا لم تكن تلك الأهداف ذات أهمية كبيرة لدى الإنسان، فحتى لو تهيأت له الفرص لتحقيقها فلا يهتم، فلن يهتم بالشكل المطلوب. أو أحيانًا يحتاجون إلى الوعي بالفرص نفسها، إلى إدراك أن تلك فعلًا فرصة، أن يكون هناك قراءة صحيحة للواقع، فهم صحيح للظروف، فهم أنها فعلًا فرصة مواتية، وأنه ينبغي اغتنامها، فهي في الواقع العملي قد تُحقق للناس نتائج مهمة.
والإنسان إذا جئنا إلى واقعه الشخصي، وجودك في هذه الحياة فرصة، عمرك الذي أعطاك اللّٰه هو فرصة لك، صحتك هي فرصة، يمكنك أن تنجز فيها ما لا تنجزه في حال مرضك، في حال ظروفك الصحية المختلفة، شبابك هو فرصة، فرصة ثمينة جدًّا. عندما ينتهي شبابك: يختلف حالك كليًا، في كل شؤون حياتك، في مستوى الجهد، والطاقة، والمقدرة، والحواس، والمدارك، والنشاط، والحيوية، والقدرة على الإنجاز، وغير ذلك، أشياء كثيرة تتغير في واقعك. ظروف يُسرِك: هي فرصة؛ لأنك فيها تتمكن من فعل ما لا تستطيع أن تفعله في عُسرِك.
وهكذا في الواقع العملي، وفي واقع الناس كمجتمع، كأمة، تتهيأ لهم الكثير من الفرص، ليعملوا الأعمال المهمة، ليحققوا النتائج المهمة، ليغيروا تغييرات كبيرة، مطلوبٌ منهم تغييرها بالحق والعدل. أشياء كثيرة إذا لم يكن لدى الناس وعي بأهمية الفرص وبالفرص نفسها، فهم من يفوتون الكثير من الفرص، فالوعي بأهمية الفرصة مسألة مهمة، وإلا كان فواتها غُصَّة للإنسان، قد يدرك الإنسان فيما بعد أن تلك كانت فرصةً مهمة لتحقيق هدفٍ عظيم؛ يستحيل تحقيقه في غيرها، أو يصعب جدًّا إلا بثمنٍ باهظ، وكان قد تهيأ فيها بشكلٍ سهل تحقيق ذلك الهدف، فيشعر الإنسان، أو يشعر مجتمع، أو أمة بالندم، والحسرة، والألم؛ نتيجة تفويت تلك الفرصة، لذلك لا بد من أن نحمل روح المسارعة، المسارعة في الخيرات.
القرآن ركَّز على هذه الصفة المهمة جدًّا، (سَارِعُوا)، (سَابِقُوا)، حتى عندما جعل الجنة ورضوانه غايةً لنا، كغايةٍ مهمة نسعى للحصول عليها والوصول إليها، يقول: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران: 133]، كيف هي تلك المسارعة؟ المسارعة في العمل، المسارعة في فعل الخيرات، المسارعة في الاستجابة للّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”. فكيف إذا كانت تلك الأهداف قد واتت الفرصة لتحقيقها، ثم تقاعس الناس وتخاذلوا، وفوَّتوا الفرصة؛ نتيجة تخاذلهم أو تباطؤهم وتثاقلهم، التثاقل والتباطؤ قد يفوِّت نصرًا ويسبب هزيمة، قد يفوِّت ربحًا ويسبب خسارة، قد يفوِّت عليك تحقيق أهدافٍ كبيرةٍ مهمةٍ مقدسة، ويسبب عليك أعباءً فيما بعد ذلك كبيرة.
خطير جدًّا: التباطؤ عن اغتنام الفرص، التباطؤ عن التحرك في الأمور المهمة، فحمل روحية المسارعة: هو دليلٌ على الوعي، دليلٌ على الاستشعار للمسؤولية، دليلٌ على الفطنة، والفهم الصحيح، والذكاء، دليلٌ على مقدار ما تحمله من الإيمان بتلك الأهداف العملية، والاهتمام نحوها.
اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم قدم لنا الكثير من الدروس، وعن خطورة تفويت الفرص، وما يترتب على ذلك من مخاطر، ومن سلبيات، من أعباء. في قصة نبي اللّٰه موسى “عَلَيهِ السَّلَامُ” مع قومه، عندما طلب منهم أن يدخلوا تلك الأرض تلك القرية: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْـمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}[المائدة :21]، كانت فرصة قد هيأها اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وإذا اغتنموها تحقق لهم هدف مهم، يفيدهم لاستقرار حياتهم، لصلاح معيشتهم، لصلاح حالهم، هدف مهم يعني، هدف له تأثير مصيريّ عليهم، لكنهم لم يغتنموا الفرصة، ولم يدركوا قيمتها، ويقول: {الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ}، لم يثقوا بذلك، لم يتحركوا كما ينبغي، تخاذلوا، امتنعوا، تهربوا، في الأخير ماذا كانت النتيجة؟ في الأخير: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26]، فكانت خسارة كبيرة عليهم، التيه لأربعين عامًا، يعني بقية الوقت بالنسبة لذلك الجيل ربما بقية الوقت كاد أن ينفد في تلك الفترة، وفي حالة صعبة.
((لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ يُصِيبُ))، هذا يبيّن أهمية الفرص من جهة، فالظروف التي قد تواتي وتهيئ لتحقيق نتائج معينة، أو إصابة أهداف معينة، ونتائج معينة، قد لا تتهيأ في ظروف أخرى، لمن لا تتهيأ له تلك الفرصة، لمن لا يحصل على مثل تلك الظروف، ولو بذل جهدًا أكبر، وتضحية أكبر، وعناءً أكبر، هذا جانب. أيضًا هناك جوانب أخرى لهذه الجملة المهمة ((لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ يُصِيبُ))، من ضمنها أيضًا من المفاهيم المهمة لهذه الجملة: أن بعض المهام والأهداف تحتاج إلى اختيار معين لمن يسعى لإنجازها لمن يعمل على تحقيقها، لا يكفي في بعض الأمور والمهام أن تكلِّف أي إنسان يتحرك فيها، كيفما كان، ((لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ يُصِيبُ))، قد يكون ذلك الذي يطلب تحقيق ذلك الهدف، أو يسعى لإنجاز تلك المهمة: ليس ممن هو مؤهل لإنجاز تلك المهمة، لتحقيق ذلك الهدف، مهما بذل من جهد، مهما سعى، مهما عمل، تنقصه على المستوى المعرفي، أو على مستوى الحكمة، أو على مستوى بعض المتطلبات، ذات الصلة بتلك المهمة، ما يساعده على النجاح، فلا يكفي أن تكلِّف أي شخص بأي مهمة، بأي عمل، كيفما كان، بل انظر من يناسب، بحسب تلك المهمة، وما يتعلق بها من ظروف، من متطلبات عملية، من أوصاف معينة، مَنْ يناسب لإنفاذها وإنجازها، وهذا جانبٌ أيضًا مهم، يتعلق بهذه الجملة.
وجانبٌ ثالث وهو أيضًا مفيد ومهم: أنه قد لا يتهيأ للإنسان النجاح في كل الأمور، قد تسعى في أمور معينة وتحقق النجاح فيها، وتعمل في مجال معين وتحقق النتيجة فيه، وتسعى لتحقيق هدف معين وقد لا تنجح في ذلك، فلا يسببْ لك الإحباط، ولا يدفعْك إلى اليأس. لأنه أحيانًا يحصل، قد يكون ذلك نتيجة خلل معين، أو تقصير معين، أو إهمال نتائج معينة، فلا يسبب ذلك لك الإحباط، وخصوصًا أن بعض الأمور من المهم العناية بها لاعتبار المسؤولية، أن عليك تجاهها مسؤولية، وأن عليك أن تسعى جهدك، وأن تبذل جهدك في سبيل تحقيقها، فإن تحققت فلا بأس، وإن لم تتحقق كنت قد قمت بواجبك، وبذلت جهدك، وقد تُسهم بهذا الجهد في تحقيقها بمساعٍ أخرى من آخرين، وقد تُهيأ ظروفٌ أفضل، لإنجاحها مستقبلًا، لن يضيع جهدك عند اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” فيما هو قربةٌ إليه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفي إطار الحق والعدل.
((وَلَا كُلُّ غَائِب يَؤُوبُ))، وهذا ينبه على أهمية الفرص، ((وَلَا كُلُّ غَائِب يَؤُوبُ))، يعني هناك من الأمور، ما لا يمكن تحقيقه إلا في فرص معينة، وقد تكون فرصًا نادرة، لا تتهيأ إلا وفق ظروف ومتغيرات اجتماعية وسياسية، وغير ذلك. فإذا خسرت تلك الفرصة، قد لا تتكرر إلا في زمن بعيد أو متأخر. وهذه مسألة مهمة تبيّن لنا أهمية اغتنام الفرص.
أحيانًا تتحقق تلك الفرص بمتغيرات وظروف مهمة جدًّا، لكن كان فيها تراكمات على مدى زمن طويل، كان فيها عوامل متعددة، تحتاج إلى أن تتكرر- كذلك- إلى زمن طويل، إلى أحداث كثيرة، إلى أسباب متعددة، فالفرص ذات أهمية كبيرة جدًّا.
((وَمِنَ الْفَسَادِ إِضَاعَةُ الزَّادِ، وَمَفْسَدَةُ الْمَعَادِ))، من أخطر ما يفرط فيه الإنسان من الفرص: عندما لا يتزود في حياته هذه، بالزاد الذي يحتاجه في الآخرة بالتقوى، اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أمرنا في القرآن الكريم بقوله “جَلَّ شَأنُهُ”: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}[البقرة: من الآية 197]، إذا فرطنا في حياتنا هذه؛ في أن نتزود بالتقوى للآخرة: فهي خسارة رهيبة جدًّا، هي أكبر الخسائر على الإطلاق، وهي الخسارة التي لا تُعوَّض أبدًا، خسارة رهيبة جدًّا، وخسارة أبدية، وحجمها فظيع للغاية، رهيب جدًّا، عندما تخسر رضوان اللّٰه، تخسر جنته، تخسر ذلك النعيم العظيم جدًّا، وتورط نفسك في العذاب والشقاء الأبدي- والعياذ بالله، تُعتبَر مفسدة كبيرة، أنت أضعت فرصة، وأفسدت على نفسك فسادًا رهيبًا جدًّا، وخسرت خسارةً لا تعوَّض أبدًا، تفريط لا مثيل له، وخسارةٌ لفرصةٍ عظيمةٍ جدًّا، ولكن لا يمكن تعويضها.
((وَلِكُلِّ أَمْرٍ عَاقِبَةٌ))، من المهم في النظر في الأمور: النظر في عواقبها، ولكن وفق أسس صحيحة، يعني كثير من الأمور بيّن اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” لنا عواقبها، فلْنحرص على ما بيَّنه اللّٰه لنا؛ لأن الإنسان أحيانًا قد يتصور عواقب لبعض الأمور؛ ينظر إليها هو كعواقب ويسميها عواقب، وليست هي العواقب الحقيقية لتلك الأمور، فيجعلها ذريعةً للتنصل عن مسؤوليات مهمة في هذه الحياة.
أول ما ننظر إليه في عواقب الأمور ما قد بيَّنه اللّٰه لنا عن ذلك؛ لأنه الذي له عواقب الأمور، وإليه تُرجع الأمور، وهو القائل في القرآن الكريم: {وَللهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}[الحج: من الآية 41]، وهو “جَلَّ شَأنُهُ” الذي رسم نتائج الأشياء، وسُننها، وأيضًا يتحكم في عواقبها وسننها، هو القدير على ذلك، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. فأول ما تكون نظرتنا إلى عواقب أمور: من خلال الاستفادة إلى ما قد بينه اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، مثلًا: لو نتأمل- من خلال القرآن الكريم، ومن خلال ما بينه لنا رسول اللّٰه “صَلَوَاتُ اللّٰه عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”- عواقب تخاذل الأمة عن الجهاد في سبيل اللّٰه، عن الأمر بالمعروف، عن النهي عن المنكر، عن إقامة القسط في الحياة، عن نشر الخير في الحياة، عن مسؤوليتها الكبرى كأمةٍ أُخرِجتْ للناس، إلى غير ذلك، لأدركنا من خلال القرآن الكريم العواقب الفعلية لذلك.
لكن لو نظرنا من منظور آخر، من منظور مثلًا: ما نحتاج إليه من جهد، وتضحية، وصبر، وعناء، في القيام ببعض المسؤوليات، وغاب عن بالِنا العواقب الأخرى الفعلية، قد ننظر نظرة من يتنصَّلون على المسؤوليات؛ بحجة أن فيها تضحيات وأن فيها معاناة معينة. هم لم يدركوا حجم الخسارة التي تحدث نتيجةً للتفريط في تلك المسؤوليات، وأنها أكبر بكثير وبما لا يقارن من مستوى التضحيات، من مستوى المعاناة التي تحصل في سبيل أداء تلك المسؤولية. فلذلك قلنا يجب أن تكون نظرتنا إلى عواقب الأمور أولًا من خلال ما بيَّنه اللّٰه لنا، وما بيَّنه رسول اللّٰه لنا، مثلًا من العواقب التي بينها رسول اللّٰه “صَلَوَاتُ اللّٰه عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ” لنا بقولهِ: ((لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهُنَّ عَن المُنْكَرِ، أَو لَيُسَلِّطَنَّ اللّٰهُ عَلَيكُمْ شِرَارَكُم، ثُمَّ يَدعُو خِيَارُكُم فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُم))، هذه عاقبة خطيرة للتنصل والتفريط في أداء مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. التسليط للأشرار؛ بما يترتب على ذلك من ظلم، من فساد، من شر، بِشرِّهِم، ثم لا ينفع دعاء الأخيار؛ دعاؤهم وتضرعهم، وفزعهم إلى اللّٰه مما يعانونه، هذا من العواقب.
في بقية الأمور؛ عواقب التفريط، عواقب الخلل، عواقب الكسل، عواقب تفويت الفرص. ثم ننظر بشكل صحيح، إذا لم تكن النظرة على أساس صحيح، وفق رؤية صحيحة، فسيكون تقدير الإنسان للعواقب تقديرًا خاطئًا، ثم يقع في المصائب والكوارث الحقيقية، وهو يرى أنه حكيم، وأنه ينظر إلى عواقب الأمور. ولكن تقديراته خاطئة لعواقب الأمور، وفهمه غير الصحيح، لما تصوره أنه عواقب الأمور.
فالإنسان هو ينظر في الأمور وعواقبها ونتائجها، ولكن من منظور صحيح، برؤية صحيحة، ثم يدرك أهمية كل الأمور، وكيف يتحرك فيها بشكل صحيح، وكيف عواقب التفريط في الاهتمام بها أو المجازفة.
((سَوْفَ يَأْتيِكَ مَا قُدِّرَ لَكَ))، يعني لست أنت من يصنع الأقدار، عليك أنت أن تأخذ بالأسباب، لكن لا تتصور أنك أنت من يخلق الأقدار ويصنع الأقدار، خذ بالأسباب، واللّٰه هو الذي يصنع الأقدار، وما قدَّره اللّٰه لك- إن أخذت بالأسباب تلك- سوف يأتيك، لا تقلق، لا تحمِّل نفسك ما لا يُطاق، لا تقتل نفسك غمًّا وحُزنًا وكربًا وهمًّا، إلى غير ذلك. انظر فيما عليك من الأمور: هو الأخذ بالأسباب فيها، وعلى أن تكون في إطار الحق، والعدل، والخير، والإحسان. أما النتائج وما يتحقق من وراء ذلك فهو إلى من؟ إلى اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ثِق بهِ، وثق بأنه لن يُضيِّع جهدك، وتحرك في الأمور بالمستوى المطلوب، لا إفراط ولا تفريط، ولا تهوُّر ولا تحميل للنفس ما لا يُطاق، ولا مجازفة، والأمور هي بيد اللّٰه، ليست بيدِك أنت، إنما عليك أن تأخذ بالأسباب، وما قدَّره اللّٰه سوف يأتي.
فلا يكفي مجرد الاهتمام العملي والطموحات بدون النظر على أن الذي يملك الأمور هو: الله، هو الذي يحقق النتائج “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
نكتفي بهذا المقدار.
وَنَسْأَلُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أن يُوَفِّقَنَا وَإيَّاكُمْ لمِا يُرضِيهِ عَنَّا، وأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبرَارَ، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنصُرنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّــــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتـــُه؛؛؛