وفي إطار هذه المناسبات، وأجواء هذه البركات، رأينا أن نقدِّم دروساً متعلِّقةً بإدارة شؤون الأمة في الإسلام، وفق هدي الله سبحانه وتعالى وتوجيهاته وتعليماته، بالاستفادة من عهد الإمام عليٍّ عليه السلام لمالكٍ الأشتر حين ولَّاه مصر؛ باعتبار هذا العهد وثيقة مهمة قدَّمت المهام، والمسؤوليات، والضوابط،
والمعايير لإدارة شؤون الأمة في كل مواقع المسؤولية، وفي كل وظائف الدولة، وفي كل المواقع التي يكون الإنسان فيها مسؤولاً عن أي مجالٍ من المجالات، وبأي مستوى من المستويات، كمسؤول وكموظف في الدولة، وفيما يرتبط بذلك من معايير، ما يرتبط بذلك من معايير وضوابط وفق أمر الله سبحانه وتعالى وتوجيهاته، هذه المسألة لها أهميةٌ كبيرةٌ في الدين الإلهي، ولها علاقةٌ أساسيةٌ بإيماننا بالله سبحانه وتعالى؛ لأن مما نؤمن به في عقيدتنا الإيمانية بالله سبحانه وتعالى: أنه القائم بالقسط، كما قال جلَّ شأنه في كتابه المبارك في القرآن الكريم: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ}[آل عمران: من الآية18]، يعني: شهدوا بذلك، شهدوا لله بأنه الواحد الأحد، لا شريك له في الربوبية والألوهية، {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ}[آل عمران: من الآية18]، فهو سبحانه وتعالى الواحد الذي لا شريك له، ولا إله إلَّا هو، وهو القائم بالقسط، قائمٌ بالقسط في تدبيره لأمور خلقه وعباده، قائمٌ بالقسط في تشريعه لعباده، قائمٌ بالقسط في هدايته لعباده، في التدبير، والتشريع، والهداية، وما يتصل بذلك، هو القائم بالقسط، {قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران: من الآية18]، وتفيد الاستمرار على ذلك على الدوام سبحانه وتعالى، هو القائم بالقسط في كل مراحل تاريخ البشرية، وما قبل ذلك، وما بعد ذلك، هو العدل سبحانه وتعالى، الذي لا يجور في شيءٍ من أحكامه، ولا تشريعاته، ولا هديه.
والقسط مفهومٌ مهم، من أكبر وأهم مصاديقه العدل، وهو يشمل أيضاً إنزال كل شيءٍ في مكانه، تدبير الله سبحانه وتعالى، وتشريعه، وهدايته، إدارته لشؤون خلقه بمقتضى الحق والعدل والحكمة، كل ذلك يتطابق تماماً مع العدل والحكمة، والخير، والحق، والصالح، والمصلحة الحقيقية، والصلاح الحقيقي، هذا التطابق التام مع مقتضى ذلك يعتبر قسطاً، فهذا يعود إلى إيماننا بالله سبحانه وتعالى، أن نؤمن بأنه القائم بالقسط، لا يهمل عباده، لا يتركهم من دون أن يرسم لهم وأن يشرِّع لهم في شؤون حياتهم ما يتحقق به العدل في واقع حياتهم إن التزموا به، إن ساروا عليه، إن تحرَّكوا على أساسه؛ ولذلك يقول في القرآن الكريم عن رسالته سبحانه وتعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحديد: الآية25]، فرسالة الله سبحانه وتعالى مع كل رسله، وإلى كل أنبيائه، كان من أهم غاياتها وأهدافها الرئيسية للبشر (للناس): أن تساعدهم، وأن تهديهم، وأن تبصِّرهم، وتقدِّم لهم ما ينهضون به بمسؤولياتهم الكبيرة في إقامة القسط؛ لأن إقامة القسط مسؤولية جماعية على الناس، وعلى المؤمنين، هي مسؤولية لا تستقر حياة الناس ولا تصلح حياة الناس إلَّا بإقامتها، البديل عنها هو الظلم، هو الجور، هو انعدام العدل؛ وبالتالي اختلال شؤون الحياة في كل شيء، فالله سبحانه وتعالى قدَّم لعباده في منهجه، عندما قال: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ}، قدَّم فيه وبإشرافٍ وإقامةٍ من الرسل أنفسهم، هم أول من يسعون وفي بداية من يسعون لإقامة القسط من خلال كتب الله، وتعليماته، وهديه، وما أرساه من دعائم العدل في ذلك لعباده.
ثم إضافةً إلى ذلك يأتي مع منهج الله الحق، الذي تتحقق من خلاله العدالة؛ لأن العدل يحتاج إلى منهج يعتمد عليه، وإلى آليات صحيحة تعتمد أو يُعتَمد عليها لتنفيذ ذلك المنهج الحق، الذي يحقق العدالة للناس، مع ذلك بقية المتطلبات الأساسية، عندما قال: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}؛ لأنه لابدَّ أيضاً من أن يكون هناك قوة تساند إقامة الحق، وتساعد في التصدي للطغاة والظالمين والمجرمين، هذه مسألة مهمة، بدون منهج الله الحق لا يمكن أن تتحقق العدالة الحقيقية في واقع الناس.
نحن في هذا الزمن نشاهد ونعيش في واقعنا ما تعانيه البشرية من الظلم، الأرض ملئت ظلماً وجوراً، ونشاهد كيف أنَّ قوى الطاغوت المستكبرة في العالم، وعلى رأسها أمريكا ومعها إسرائيل، ومن معهم من أعوانهم وأنصارهم، بالرغم من أنهم يقدِّمون آليات معينة، ويعتمدون على أساليب معينة، يزعمون أنها تحقق للبشرية العدالة، إلَّا أننا رأينا كيف أنهم بكل ما معهم من نظريات، وآراء، وآليات، وأساليب، وطرق، إنما ملأوا الدنيا بالجور والظلم، إنما اضطهدوا الشعوب، وأنَّ آلياتهم، ونظمهم، وقوانينهم، وأساليبهم، ووسائلهم لا يمكن الاستناد إليها لتحقيق العدل، ولإقامة العدل، بل ربما تكون هي بنفسها وسيلة من سائل الظلم، وطريقة من طرق الطغيان والإجرام.
الدرس الأول من محاضرات السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي من دروس عهد مالك الأشتر 1-12-1443 هـ 30-06-2022
المصدر: المسيرة