عودة نتنياهو تؤكد أن المجتمع الإسرائيلي بدأ يتماهى مع أكثر الأطروحات الدينية والفاشية تعصباً، وبات على استعداد لتقبل وجود أمثال بن غفير في مراكز صنع القرار.
عاد بنيامين نتنياهو للإمساك بدفة الحكم في “إسرائيل” من جديد، بعد أزمة سياسية عنيفة استمرَّت 3 سنوات، شهدت الحياة السياسية الإسرائيلية خلالها 5 انتخابات تشريعية مبكرة، في ظاهرة غير مسبوقة؛ فقد حصل التحالف الانتخابي الذي يقوده نتنياهو على 64 مقعداً في الانتخابات الأخيرة، وهي أغلبية مريحة تمكّنه من تشكيل حكومة مستقرة خلال السنوات الأربع القادمة. وبذلك، يكون نتنياهو قد حقَّق لنفسه ما لم يستطع أيّ سياسي آخر في تاريخ “إسرائيل” أن يحقّقه، بما في ذلك جيل الآباء المؤسسين.
ولكن أكثر ما يلفت الانتباه في هذه الانتخابات لم يكن عودة نتنياهو إلى صدارة المشهد السياسي، إنما حصول كتلة “الصهيونية الدينية” التي تتبنى مواقف شديدة التطرف على 14 مقعداً في الكنيست، لتصبح بذلك ثالث أكبر الكتل السياسية داخل الكنيست.
ولأنَّ نتائج هذه الانتخابات كشفت شبه انهيار تام لأحزاب اليسار وقواه، بدليل فشل حزب “ميرتس” في تحقيق نسبة الحسم التي تؤهله للحصول على مقاعد في الكنيست وتراجع عدد المقاعد التي حصل عليها حزب “العمل” إلى 4 مقاعد فقط، فقد بات واضحاً أن الكيان الصهيوني يشهد حالة مخاض جديدة، ويمر بانعطافة كبرى تدفعه نحو تبني سياسات تتسم بالمزيد من التطرف والعنف والعنصرية، ما سيكون له انعكاسات خطرة على استقرار المنطقة في المرحلة القادمة.
بوسع كل متابع مدقق في تطور الحياة السياسية داخل هذا الكيان أن يلاحظ ظاهرتين مترابطتين:
الأولى: تشير إلى أن حركته السياسية تسير في اتجاه واحد وتدفعه باطراد للتوجه نحو اليمين الأكثر تطرفاً، بالتوازي مع انحسار مطرد لتأثير قوى وأحزاب الوسط واليسار (هذا إذا افترضنا جدلاً أنه يمكن أن يكون لأي يسار حقيقي مكان في الخريطة السياسية لمشروع يقوم على سرقة أراضي الغير واستيطانها).
الثانية: تشير إلى أنَّ الانعطافات الكبرى نحو اليمين الأكثر تطرفاً تبدو مرتبطة عضوياً بتطور الموقف العربي من قضايا التسوية وتسير في عكس الاتجاه؛ فكلما جنحت النظم العربية الحاكمة نحو التسوية السياسية، وأبدت استعداداً أكبر لتقديم المزيد من التنازلات، ازداد الإسرائيليون تشدداً وأصبحوا أكثر ميلاً إلى فرض شروط جديدة تعكس إصرارهم على المضي قدماً نحو استكمال بقية مراحل المشروع الصهيوني الذي يستهدف إقامة دولة يهودية كبرى في هذه المنطقة من العالم.
من المعروف أنَّ أحزاب اليسار، ممثلة في “الماباي” و”المعراخ” وحزب “العمل”، هي التي قادت الحياة السياسية خلال المراحل التأسيسية الأولى للكيان الصهيوني، إذ كان بمقدورها أن تحصل، منفردة أو متحالفة، على أغلبية مريحة في الكنيست طوال العقود الثلاثة التي أعقبت إعلان قيام “إسرائيل” عام 1948.
يلفت النظر هنا أنَّ جميع الحروب التي خاضتها “إسرائيل” ضد الجيوش النظامية للدول العربية المجاورة، وهي حروب 1948 و1956 و1967 و1973، وقعت إبان المرحلة التي آلت فيها قيادة الحياة السياسية إلى الأحزاب العمالية وحدها، ولم يكن للأحزاب اليمينية تأثير يذكر.
وقد تمحورت الدعاية الإسرائيلية خلال هذه المرحلة على أفكار خادعة ومضللة، منها أن “إسرائيل دولة صغيرة محاطة بدول معادية من كل جانب، وأنها دولة مسالمة لا تنشد سوى العيش بسلام مع جيرانها الذين يرفضون الاعتراف بها ويسعون لمحوها كلياً من خريطة المنطقة، ومن ثم ليس أمامها سوى الدفاع عن نفسها، حتى ولو تم ذلك من خلال شن حروب وقائية”، غير أنَّ الزيف الذي انطوت عليه هذه الدعاية الخبيثة انكشف تماماً بعد حرب 1973.
حين تمكنت الدول العربية من تحقيق إنجاز عسكري واضح في حرب 73، تصور بعض القادة العرب أنَّ نظرية الأمن الإسرائيلية سقطت، وأن قادة “إسرائيل” باتوا مقتنعين بأن التفوق العسكري على الدول العربية مجتمعةً لن يحقق لها أمناً قابلاً للدوام، وأن الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا الأمن تكمن في التوصّل إلى تسوية متوازنة تفضي إلى حل عادل للقضية الفلسطينية، على أساس الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها “القدس الشرقية”.
واستناداً إلى هذا التصور، أقدمت مصر على إبرام اتفاقيتي فضّ الاشتباك الأول والثاني عامي 1974 و1975، وتبعتها سوريا بإبرام اتفاقية فضّ اشتباك على جبهتها.
ما يثير التأمّل هنا أنه في اللحظة نفسها التي بدت فيها دول عربية رئيسية، وخصوصاً مصر الساداتية، مستعدة ومهيأة نفسياً للبحث عن تسوية سياسية تتيح لـ”إسرائيل” ضم الأراضي الفلسطينية التي استولت عليها بالقوة في حرب 1948 في مقابل انسحابها من الأراضي التي احتلتها في حرب 1967، بدا المجتمع الإسرائيلي غير مستعد لتسوية على أساس هذه المقايضة، بدليل إقدامه على التصويت بكثافة لمصلحة حزب الليكود اليميني المتطرف الذي كان يتزعمه في ذلك الوقت مناحم بيغين، زعيم منظمة الآرغون الإرهابية، وذلك في انتخابات الكنيست التي جرت عام 1977.
لذا، يمكن القول من دون تردد إنَّ الحياة السياسية في “إسرائيل” شهدت أولى انعطافاتها الحادة نحو اليمين في اللحظة نفسها التي بدا فيها العالم العربي مستعداً لتسوية سياسية تنطوي على تنازلات كبيرة. وفي تقديري، هذه الانعطافة كانت كاشفة لطبيعة مشروع يرى أن أهدافه الكاملة لم تتحقَّق بعد، وأنها لن تتحقق إلا بإقامة دولة يهودية كبرى تمتد من النيل إلى الفرات.
إنَّ العقل الجمعي في “إسرائيل” كان يميل في ذلك الوقت إلى الاعتقاد بأنَّ اليسار أدى دوره المرحلي، وأن الوقت حان لتغيير الأحصنة والدفع بفريق جديد أكثر قدرة على مواصلة مسيرة المشروع الصهيوني الظافرة وتحقيق الانتصار في المعركة الدبلوماسية التي بدأت تلوح في الأفق.
وحين اكتشف السادات أن أقصى ما كان بيغين مستعداً للذهاب إليه هو التوقيع على معاهدة “سلام” منفصلة مع مصر، كان الوقت قد فات ولم يكن بمقدوره سوى الهروب إلى الأمام باستمرار. التوقيع على معاهدة “سلام” مع مصر مكن اليمين الإسرائيلي بقيادة بيغين من تحقيق هدفين رئيسيين:
الأول: إخراج مصر نهائياً من معادلة “الصراع” العسكري مع “إسرائيل”.
الثاني: الشروع في إعداد المسرح الإقليمي وتهيئته لفرض تسوية بالشروط الإسرائيلية على بقية الأطراف العربية، وهو ما بدا واضحاً عقب الغزو الإسرائيلي للبنان في حزيران/يونيو 1982. ولأنَّ الرياح اللبنانية لم تأتِ بما تشتهي سفن اليمين الإسرائيلي، فقد بدأت الروح تعود بعض الشيء إلى يسار إسرائيلي ضعيف راح يتناوب على السلطة لبعض الوقت مع يمين قوي ومتحفز.
وقد استطاع إسحاق رابين خلال فترة التناوب هذه اقتناص الفرصة، حيث كانت منظمة التحرير الفلسطينية تمر في ذلك الوقت بلحظة ضعف وارتباك عقب الغزو العراقي للكويت وانعقاد مؤتمر مدريد، ومن ثم تمكَّن من إغرائها بالتوقيع على “اتفاقية أوسلو” الكارثية التي تصوَّر ياسر عرفات، واهماً، أنها يمكن أن تؤدي تدريجياً إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة.
ورغم أن هذه الاتفاقية لم تضمن الحد الأدنى لما يعتبره الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة، فإنّ اليمين الإسرائيلي، وخصوصاً الجناح الأكثر تطرفاً فيه، عارضها بشدة وتسبب بخلق أجواء احتقان داخلي مهدت لاغتيال رابين، رئيس الوزراء الذي وقع على “أوسلو”، ثم وصول أحد صقوره، ممثلاً في بنيامين نتنياهو، إلى مقاعد السلطة.
صحيح أنَّ اليسار عاد للظهور بخجل في فترة لاحقة، حين تمكن إيهود باراك من تشكيل حكومة برئاسته عام 1999، لكنَّ ذلك لم يستغرق سوى فترة قصيرة فشل خلالها في إنقاذ عملية “السلام” عبر قمة عقدت في كامب ديفيد عام 2000 في أواخر عهد كلينتون وبرعايته.
بعدها، عاد اليمين ليسيطر من جديد على الحياة السياسية في “إسرائيل”، ممهداً بذلك الطريق أمام عودة نتنياهو إلى الساحة وصعود نجمه إلى درجة مكَّنته من السيطرة على مفتاح الحياة السياسية فيها طوال حقبة كاملة (2009-2021)، ومن الإجهاز على ما تبقى من اتفاقية “أوسلو”. لذا، يمكن اعتبار عودة نتنياهو الثانية بمنزلة انعطافة ثانية تؤكد التوجه المطرد والحثيت للمجتمع الإسرائيلي نحو اليمين الأكثر تطرفاً.
بعد غياب دام ما يقارب عامين، لم يكن لليسار أي تأثير يذكر في الحياة السياسية في “إسرائيل” خلالهما، ها هو نتنياهو يعود ليتبوأ موقع القيادة من جديد، ولكن في ظل صيغة أو انعطافة سياسية ثالثة تؤكد أن المجتمع الإسرائيلي بدأ يتماهى مع أكثر الأطروحات الدينية والفاشية تعصباً، وبات على استعداد لتقبل وجود رجال من أمثال إيتمار بن غفير وبتسليئيل سموتريتش وكل تلاميذ الحاخام مائير كاهانا في مراكز صنع القرار.
هذه الشريحة من اليمين الديني المتطرف تعتقد أنَّ الضفة الغربية جزء لا يتجزأ من الأرض الموعودة التي يحق لليهود أن يقيموا فيها ما شاؤوا من مستوطنات، وأن المسجد الأقصى يجب أن يهدم، وأن يقام الهيكل على أنقاضه، وأن “إسرائيل” دولة يهودية لا مكان فيها للعرب، مسلمين كانوا أم مسيحيين، ومن ثم يحلّ طردهم أو حتى قتلهم.
صحيح أنَّ الوقت ما زال مبكراً للتعرف إلى شكل الحكومة الإسرائيلية القادمة، لكن من المؤكد أنها لن تكون حكومة يمكن إقامة أي نوع من التسوية السياسية معها. وسواء ضمَّت رجالاً من أمثال بن غفير أم لا، فمن المؤكد أن هدفها الرئيسي سينحصر في بحث السبل الكفيلة بتصفية محور المقاومة في المنطقة، وضمان عدم عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق الخاص ببرنامج إيران النووي، حتى لو تطلب الأمر توجيه ضربة عسكرية لإيران.
وليس من المستبعد أيضاً أن تتنكر حكومة “إسرائيل” القادمة برئاسة نتنياهو للاتفاق الخاص بترسيم الحدود البحرية مع لبنان، خصوصاً إذا تمكن الحزب الجمهوري من الفوز بأغلبية المقاعد في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأميركي.
وأظن أنني لا أبالغ إذا قلت إن حكومة نتنياهو القادمة ستكون أحد أهم عوامل عدم الاستقرار في المنطقة خلال المرحلة القادمة.
بقلم: حسن نافعة
المصدر: الميادين