تمسكت “إسرائيل” على مدى سنوات طويلة بخط هوف، ما أدى إلى عرقلة كل الجهود اللبنانية الرامية إلى استخراج الغاز من أي منطقة تدخل في نطاق منطقتها الاقتصادية الخالصة، فيما سمحت لنفسها باستكشاف الغاز واستخراجه بالفعل.
ينسى البعض، أو يتناسى عن عمد، أنّ الصراع الدائر حالياً بين لبنان و”إسرائيل” حول موضوع استكشاف الغاز واستخراجه في ما يعتبره كلّ منهما منطقة اقتصادية خالصة له، لا يعود إلى خلاف فني حول ترسيم الحدود البحرية بين طرفين، إنما تسبب به صراع سياسي حاد يدور حول مسائل جوهرية تمسّ الأمن والحياة.
لبنان لا يعترف بوجود “دولة” جارة تسمى “إسرائيل”، وما يزال ينظر إلى الجار الواقع على حدوده الجنوبية، باعتباره “كياناً غاصباً للوطن الفلسطيني ولجزء من الأراضي اللبنانية، ومن ثم لا يستطيع أن يبرم معه اتفاقيات من أيّ نوع، وخصوصاً ما يتعلق منها بترسيم الحدود البحرية أو البرية، وإلا عدّ ذلك اعترافاً غير مباشر بكيان لا يعترف رسمياً بوجوده كدولة.
ولكن من يطالع بعض الكتابات اللبنانية يتولّد لديه انطباع بأنَّ حزب الله هو المسؤول الرئيسي، ليس عن استمرار الصراع الممتد بين “إسرائيل” والدولة اللبنانية فحسب، ولكن أيضاً عن كلّ الأمراض والأزمات التي يتعرَّض لها المجتمع اللبناني، فلولا حزب الله لكانت الدولة اللبنانية، بحسب ما يوحي به هذا النوع من الكتابات، تمكّنت من تسوية خلافاتها مع “إسرائيل”، وبالتالي لكانت في مقدمة الدول العربية التي تنعم الآن بـ”السلام مع إسرائيل وترتبط معها بعلاقات طبيعية”. ولولا حزب الله لما كان المجتمع اللبناني، بحسب ما يوحي به أيضاً هذا النوع من الكتابات، وصل إلى الحال المتردية التي هو عليها الآن، ولما فرض عليه الحصار الذي يكاد يخنقه. وتلك كلها، في تقديري على الأقل، ادعاءات تثير الاستغراب، ولا تصمد أمام أي تحليل موضوعي.
يمتد جذور الصراع بين لبنان و”إسرائيل” إلى ما قبل نشأة حزب الله بعقود طويلة. ولم تخفِ “إسرائيل” أطماعها في مياه لبنان وأرضه طوال الفترة الممتدة بين توقيع لبنان على اتفاق هدنة معها عام 1949 وقيام حزب الله عام 1982.
ولأنَّها تعاملت معه باعتباره الجار الأضعف في دول الطوق العربي، لم تتردد في ارتكاب أبشع أنواع الجرائم والمجازر، ووصلت إلى حد احتلال مساحات شاسعة من أراضيه وارتكاب مجزرتي قانا وصبرا وشاتيلا، بل وصل الأمر إلى حد محاولة احتلال عاصمة هذا البلد العربي الجميل والفريد.
أما الأمراض التي يعانيها المجتمع اللبناني، فهي أمراض بنيوية لم يتسبب بها حزب الله، إنما تسبب بها قيام نظام الحكم على أسس طائفية حالت دون تمكين الإنسان اللبناني من التمتع بحقوق المواطنة الحقيقية، رغم تعمده بالكثير من الحريات، وعرضت المجتمع كله لصراعات داخلية وصلت إلى حد الحروب الأهلية الممتدة، وأيضاً لتدخلات خارجية جعلت فكرة الاستقلال الوطني حلماً بعيد المنال.
صحيح أن حزب الله شيعي الهوى والهوية، لكنه ليس نشازاً في حياة لبنان السياسية، فكل الأحزاب السياسية اللبنانية قامت على أسس طائفية، ولم يعرف عن ممارسات حزب الله أنها تقوم على تأجيج النزاعات والأحقاد الطائفية، مثل أحزاب أخرى عديدة، بل على العكس من ذلك، فقد أدى هذا الحزب بالذات دوراً كبيراً في تقوية دعائم الدولة اللبنانية ورفع الشأن الوطني، وخصوصاً حين تمكَّن في الماضي من قيادة حركة مقاومة نجحت في تحرير الوطن اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي، وهو الدور نفسه الذي يحاول القيام به الآن لتمكين الدولة اللبنانية من حماية ثرواتها الطبيعية وتحصينها في مواجهة الأطماع الإسرائيلية.
لا يهدف هذا المقال إلى الدفاع عن حزب الله أو تبني مواقفه، فلست مضطراً إلى الدفاع عن أحد. ولأنني لست ممن يحددون مواقفهم استناداً إلى رؤى أيديولوجية أو طائفية أو لأغراض شخصية أو منفعية، ولأنني أيضاً شديد الحرص على تحديد مواقفي الشخصية استناداً إلى وضعي كباحث يحاول قدر المستطاع تحري الدقة فيما تستند إليه تحليلاته من معلومات، فمن الطبيعي أن تصبح اجتهاداتي عرضة للصواب والخطأ، لكنها بالقطع منزهة عن كل هوى أو غرض.
وليس الهدف من هذا المقال أيضاً تقييم جهود الحكومات اللبنانية المتعاقبة حول ترسيم حدود لبنان البحرية، أو رصد الأخطاء التي ارتكبتها على هذا الصعيد، لكن الوقائع تشير إلى أن طاولة المفاوضات غير المباشرة التي بدأت منذ ما يقارب 10 سنوات بين لبنان و”إسرائيل” حول ترسيم الحدود البحرية بينهما شهدت حديثاً حول 3 خطوط متباينة لهذه الحدود:
الأول: خطّ 23، الذي تبنّته الحكومة اللبنانية رسمياً منذ عام 2011، وقامت بإيداع كلّ الخرائط المتعلقة بترسيمه لدى الأمم المتحدة، وهو خط يتيح للبنان إمكانية استخراج الغاز المتوفر بالفعل داخل البلوكات 8 و9 و10.
الثاني: خط 1 الذي يطلق عليه أحياناً خط فريدريك هوف، نسبة إلى أحد المبعوثين الأميركيين، وهو خط يقتطع من المساحة المحددة بالخط 23 منطقة بحرية تبلغ مساحتها 400 كم مربع، وبالتالي يخرج البلوكات 8 و9 و10 الغنية بالغاز من نطاق السيطرة اللبنانية.
الثالث: خط 29 الَّذي تم ترسيمه استناداً إلى أبحاث ودراسات قامت بها قيادة الجيش اللبناني عقب انطلاق مفاوضات الناقورة، بعدما تبين لها أن الترسيم المستند إلى خط 23 يحتوي أخطاء فنية واجبة التعديل، وهو خط يضيف إلى سيطرة الحكومة اللبنانية مساحة جديدة تصل إلى نحو 1430 كم مربعاً، ويضع حقل كاريش الإسرائيلي ضمن المناطق المتنازع عليها.
من المعروف أن “إسرائيل” تمسكت على مدى سنوات طويلة بخط 1 (أو خط هوف)، ما أدى إلى عرقلة كل الجهود اللبنانية الرامية إلى استخراج الغاز من أي منطقة تدخل في نطاق منطقتها الاقتصادية الخالصة، فيما سمحت لنفسها باستكشاف الغاز واستخراجه بالفعل والبدء بتسويقه.
ومن المعروف أيضاً أن الولايات المتحدة ظلت تساند الموقف الإسرائيلي من دون أي تحفظات، بدليل إقدام المبعوث الأميركي ديفيد ساترفيلد، الذي حلّ محلّ هوف، على الإدلاء عام 2018 بتصريحات تشير إلى أنَّ خط هوف هو البديل الوحيد المطروح أمام الحكومة اللبنانية، وأنَّ رفضه يؤدي إلى فقدان كل شيء، ما يعني عدم قدرتها على التعاقد مع شركات التنقيب لاستخراج الغاز المتوافر في أيّ جزء من منطقتها الاقتصادية الخالصة.
صحيح أنَّ اندلاع الأزمة الأوكرانية ربما يكون قد ساعد على تليين موقف الحكومة الأميركية من هذا الموضوع بعض الشيء، لكن من المؤكد أنه ما كان يمكن لأيّ حكومة إسرائيلية أن تقبل بأي ترسيم آخر سوى خطّ هوف لولا تأكدها من جدية التهديد الذي وجهه حزب الله بضرب المنصة التي استأجرتها لاستخراج الغاز من حقل كاريش، إذا ما أصرت على بدء الاستخراج قبل التوصل إلى اتفاق تقبله الحكومة اللبنانية.
لذا، يمكن القول، بكل أمانة وموضوعية، إن النص الذي صاغه الوسيط الأميركي آموس هوكستين وعرض مسودته كتابياً على الحكومتين الإسرائيلية واللبنانية، يعد إنجازاً ما كان له أن يتحقق لولا قرار المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله وضع إمكاناتها وقدراتها العسكرية في خدمة الدولة اللبنانية.
هذا النص الذي توافقت الرئاسات اللبنانية الثلاث على قبوله من حيث المبدأ، يتيح للحكومة اللبنانية سيطرة كاملة، ليس على كامل المساحة البحرية التي يرسمها خط 23 الذي أصرت “إسرائيل” على رفضه من قبل فحسب، ولكن أيضاً على كامل حقل قانا الذي أصبح وفقاً للنص الذي اقترحه هوكستين حقلاً لبنانياً خالصاً.
صحيح أنَّ هذا النص لا يحقق كل الطموحات اللبنانية التي استهدفت السيطرة على كامل المساحة البحرية التي يرسمها الخط 29، لكن الجميع يسلم ويعترف بأنَّ الخط 29 كان، وفقاً للرؤية الرسمية اللبنانية، “تفاوضياً”، وليس محدداً لما يعتبره لبنان “حقوقه السيادية”.
من السابق لأوانه الاعتقاد بأنَّ خطر المواجهة العسكرية بين “إسرائيل” وحزب الله زال، فالواقع أن احتمال اندلاع هذه المواجهة ما زال قائماً لسببين:
الأول: أنَّ النصّ النهائي لاتفاقية الوسيط الأميركي هوكستين لم يكتمل بعد، حتى كتابة هذه السطور على الأقل، وبالتالي قد يواجه عقبات تحول دون الموافقة النهائية عليه في اللحظات الأخيرة.
الثاني: أنه لا يحظى بإجماع النخبة السياسية في “إسرائيل”، فقد رفضه نتنياهو، حتى قبل أن ينضج أو ينشر مكتملاً، واعتبره خضوعاً لتهديدات حزب الله وتفريطاً في الحقوق الإسرائيلية. ولأنه نص واجب الإقرار والتصديق عليه من جانب الكنيست الإسرائيلي، فليس من الواضح بعد ما إذا كان قابلاً، في حال إقراره نهائياً من جانب الحكومتين اللبنانية والإسرائيلية، للدخول حيز التنفيذ الفعلي قبل إجراء الانتخابات الإسرائيلية أو ماهية المصير الذي ينتظره في حال فوز نتنياهو الذي تعهد إلغاءه.
رغم ذلك كلّه، يمكن القول إنَّ إنجازاً ما تحقَّق على الصعيد اللبناني، بصرف النظر عن المصير النهائي لاتفاقية هوكستين، إذ يكفي أن تكون صياغتها قد أدت بالفعل إلى مزيد من الانشقاقات والانقسامات داخل المجتمع الإسرائيلي. ويجب ألا يغيب عن بالنا أبداً أن هذه الاتفاقية، حتى لو دخلت حيز التنفيذ بعد إقرارها من الكنيست، لن تنهي الصراع القائم بين “إسرائيل” وحزب الله، ما يعني أن المواجهة المسلحة قد تندلع بينهما في أي لحظة، ولأسباب أخرى كثيرة غير موضوع ترسيم الحدود.
المصدر: الميادين