أوجه الشبه كثيرة ومتعددة بين الحرب في أوكرانيا ومثيلتها المرتقبة في المنطقة.
هل يتعلَّم الغرب من غلطته المميتة مع روسيا في أوكرانيا ويُنقذ نفسه من انهيار اقتصادي غير مسبوق؟
هل يتعلَّم الغرب من غلطته المميتة مع روسيا في أوكرانيا ويُنقذ نفسه من انهيار اقتصادي غير مسبوق؟
في الظاهر، لا يوجد ارتباط بين الحرب المندلعة في أوكرانيا بين الغرب والروس، وما قد يحصل في المنطقة بين المقاومة و”إسرائيل” من مواجهة أو حرب، فجغرافيا الحدثين بعيدة أولاً. وثانياً، إن أسباب الحرب الأولى حصلت على خلفية تجاوز الناتو حقوقاً وضمانات تاريخية وجغرافية للروس في أوكرانيا.
المواجهة مع “إسرائيل” قد تحصل (أصبحت قريبة اليوم أكثر من أي وقت مضى) على خلفية مركبة من اعتداءين؛ الأوّل هو محاولة “إسرائيل” سرقة حقوق لبنان من الغاز عند حدوده البحرية جنوباً، والآخر هو سلسلة متشعّبة من الضغوط الاقتصادية والمالية والسياسية عليه، تقودها واشنطن لخدمة “إسرائيل”، بهدف إرضاخه ودفعه إلى الاستسلام في موضوعَي الترسيم البحري والتطبيع معها.
صحيح أنَّ هناك اختلافاً بين المسألتين في الجغرافيا والخلفيات، ولكن عملياً هذا الاختلاف بين الملفين غير موجود، لا في شكل المسار الذي أوصل إليهما، ولا في الطرف الراعي له أو مسبّبه، وهو نفسه، ولا في المصير، وهو الحرب أو المواجهة، فهناك معطيات كثيرة مرتبطة ببعضها البعض أو مشتركة أو متشابهة، ويمكن تحديدها على الشكل الآتي:
بدايةً، إنّ ما قاله أمين عام حزب الله سماحة السيد حسن نصر الله أمس لا يمكن لأيّ طرف محلي داخلي أو إقليمي أو دولي، معني بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بالوضع في لبنان، إلا أن يتلمّس جديته وحساسيته وأهميته وخطورته.
وفي حين وضع السيد نصر الله النقاط على الحروف فيما يرتبط بمعطيات الأزمة أو المشكلة، بتحديد أشكال الضغوط أو محاولات الاعتداء على لبنان وسرقة ثرواته، أو بتحديد ما وصل إليه لبنان واللبنانيون اليوم من انهيار اقتصادي واجتماعي، فإنه كان واضحاً بأنّ خيار الذهاب إلى حرب مع “إسرائيل” أصبح وارداً، وبقوة، ما لم ينتبه المعنيون في الإقليم والغرب إلى خطورة تجاهلهم الحقوق اللبنانية والوضع في لبنان، تماماً كما كان الرئيس بوتين واضحاً قبل انطلاق العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، حين غضَّ الغرب النظر عن مطالب أساسية وجوهرية للروس في أوكرانيا بشكل خاص أو في شرق أوروبا والبحر الأسود بشكل أوسع.
إذاً، أوجه الشبه كثيرة ومتعدّدة بين الحرب في أوكرانيا ومثيلتها المرتقبة في المنطقة، والأهم فيها يبقى الطرف الآخر المعتدي، وهو نفسه، على روسيا من خلال أوكرانيا، وعلى لبنان من خلال سرقة حقوقه والضغط عليه بكل مقومات الحياة التي يحتاجها أبناؤه. هذا الطرف هو الأميركي في أوكرانيا، عبر جرّ دول أوروبا في أغلبها إلى الصدام مع موسكو، وإطلاق النار على قدمها بكلّ غباء، وفي لبنان عبر إدارة مناورة الاعتداء والضغط عليه عبر “إسرائيل”.
في أوكرانيا، وبعد أن وقعت الواقعة وحصلت المواجهة، وبعد أن فرض الروس سيطرتهم بثبات، رغم ضخامة الدعم الغربي غير المحدود وغير المسبوق لأوكرانيا، وبعد أن أصبحوا قاب قوسين من تحقيق القسم الأكبر من الأهداف التي وضعوها، والتي كانت أساس مطالبهم المشروعة في الحقوق والضمانات، برزت مشكلة أخرى أبعد وأعمق وأصعب من مشكلة الحرب في أوكرانيا، هي أزمة اقتصادية عالمية عبارة عن مزيج من أزمات طاقة وغذاء وتضخم، نشأت على خلفية العقوبات المتسرعة وغير المدروسة على روسيا.
هذه الأزمة الخانقة والمتصاعدة بوجه الغرب، والتي بدأت اليوم تتدحرج ككرة ثلج، ظهرت بعد أن أثبت الروس صلابتهم وموقفهم في مواجهته في أوكرانيا، وتوسعت عندما نجحوا في جرّه إلى مستنقع من الانهيار الاقتصادي.
وبعد أن وصل الغرب إلى طريق مسدود، بسبب تعنّته وغطرسته وعدم اعترافه بخطئه في تجاوز الحقوق الروسية، وبسبب متابعته الهروب إلى الأمام من دون التراجع والبحث عن تسوية، انحرف نحو منطقة شرق المتوسط، وشرع في تركيب مناورة واسعة مع دول هذه المنطقة، في محاولةٍ لإيجاد بديل من الغاز والنفط الروسيين، اللذين بدآ يجفان رويداً رويداً عن أوروبا.
وقد جاء قسم من هذا الجفاف بقرار روسي، وهو يحمل رائحة الضغط الذي يتصاعد يوماً بعد يوم، فيما جاء قسم آخر منه بقرار غربي – أوروبي، في محاولةٍ يائسة للإفلات رويداً رويداً من تحكّم موسكو في هذا القطاع في الساحة الأوروبية.
لبنان اليوم، ومن خلال الأبعاد والمعطيات الرئيسية التي يمكن استنتاجها من كلمة السيد أمس، قادرٌ على أن يؤدي دوراً فاصلاً في هذه المواجهة العالمية، وربما يقُدّر له، وطبعاً بسبب ما يملكه عبر المقاومة من إمكانيات وقدرات ردعية، أن يؤدي دوراً أكبر بكثير من حجمه، من خلال فرض تسوية عادلة لترسيم الحدود البحرية، تحرر قسماً مهماً من غاز شرق المتوسط كبديل للغاز الروسي. وفي الوقت نفسه، تحفظ للبنان الحد الأدنى من حقوقه في الغاز، وتفرض تحرره من الضغوط الأميركية الأخرى التي تقيّد مسار استفادته من حقوله البحرية غير المتنازع عليها، وتسهل إجراءات حصوله الفوري على ما يحتاجه من الدول المجاورة من الغاز والكهرباء.
مع هذا الموقف الجريء الذي عبّر عنه سماحة الأمين العام لحزب الله، ومع حساسية هذه الفرصة التي يمكن للبنان أن يخلقها ويفرضها، مع ما تحمله من خطورة غير بسيطة، بسبب إمكانية الذهاب نحو حرب أو مواجهة عنيفة مع العدو الإسرائيلي، تبقى نتائجها، مهما تمخّض عنها من تداعيات، أسهل وأخفّ وطأة من الموت البطيء الَّذي يسير إليه اليوم اللبنانيون بقرار أميركيّ واضح، فهل يتعلّم الغرب من غلطته المميتة مع روسيا في أوكرانيا، ويُنقذ نفسه من انهيار اقتصادي غير مسبوق وينجو بما يمكن أن يحصل عليه من غاز شرق متوسطي، وذلك من خلال إدارة مفاوضات حدودية منصفة للبنان؟
وهل يكون لبنان اليوم، وهو الأضعف بين كل هذه الأطراف أساساً، الطرف الفاعل – بفضل قوة حزب الله وإمكانياته – الذي يفرض حقوقه ويحصّلها من جهة، ويكون أيضاً من جهة أخرى الطرف الذي ينجح في إنقاذ الغرب من انهيار مؤكّد بعد أن رمى له حبل النجاة، وهو معادلة “ما بعد بعد كاريش “؟
المصدر: الميادين