رؤية صعود بن غفير تعبيرٌ عن ضعف النظام السياسي في “إسرائيل”، فليس لدى النخبة الإسرائيلية اليوم أي اقتراحٍ فعلي لحل النزاع مع الفلسطينيين، لا بشأن الضم، ولا “الدولتين”، ولا إدارة الصراع أو تقليصه.
حَكمَ اليمين الإسرائيلي “إسرائيل” منذ 45 عاماً بصورة شبه مستمرة. وبقدر ما يتعلق الأمر بموقف “إسرائيل” تجاه الفلسطينيين، فإن حكومتي “ماباي” و”العمل”، اليساريتين، واللتين حكمتا الأعوام الثلاثين الأولى من عمر “دولة” الاحتلال، كانتا الأسوأ بالنسبة إلى الفلسطينيين. فمن النكبة، وقانون أملاك الغائبين، ومصادرة الأراضي، إلى إقامة المستوطنات، وغيرها، لا فارق بين يمين ويسار عندما يتعلق الأمر بفلسطين.
وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي سيجعل الحكومة الإسرائيلية اليمينية الجديدة مغايرةً عما شهدناه حتى الآن. في الواقع، يجب ألا نستبعد احتمال أن تُقدّم حكومة نتنياهو السادسة، المتوقعة، أمراً لم نشهده منذ عام 1948، مُدمِّراً وخطيراً للغاية، لكن ليس على الفلسطينيين وحدهم، وليس بسبب نتنياهو الذي بتنا نعرفه جيداً، لكن لأن هذه ستكون حكومة بن غفير بامتياز.
ومع أن بنيامين نتنياهو سيترأّس الحكومة، إلّا أن أقوى رجلٍ فيها سيكون إيتمار بن غفير، ليس فقط بسبب حجم حزبه داخل الائتلاف اليميني الحكومي (نحو ربع أعضاء الائتلاف، ما يقرب من نصف حجم “الليكود” في الكنيست الحالي)، وإنما أيضاً لأن بن غفير هو قوة التغيير التي تكتسبُ دعماً مُتزايداً، وخصوصاً بين الشبّان الذين يميلون إلى رؤيته، باعتباره الرجل الجديد صاحب الحلول السحرية الحادة.
المحلل السياسي في صحيفة “يديعوت أحرونوت”، ناحوم برنياع، كتب يقول إن “النتائج ثورة، وقد تكون بداية تحوّل سيغير وجه الدولة. والقصة لم تعد متعلقة بنتنياهو، فهذا التحول أقوى منه. لقد بزغ عهدٌ آخر، مُعادٍ لليبرالية، حريدي، قومي، هدّام”. وأضاف أن “التخوفات حقيقية، فبن غفير دخل هذا الفراغ، وهو المرشّح الوحيد لمنصب وزير الأمن الداخلي، وهو محل إجماع، مجرمٌ ومُدانٌ بالإرهاب، يحصل على صلاحيات وزارية على الشرطة، ولا يرفّ لذلك جفن أحد”.
عدّت أغلبية الجمهور والإعلام والسياسيين الإسرائيليين، حتى قبل عامين، أن بن غفير عبارة عن شخصية سَمِجة، يهودي فاشي، عنصري ومستفز، يميني متطرف ديني، كاهاني الفكر والسلوك، يحاول إشعال النار والبغضاء والكوارث في كل مكان.
وباءت كل محاولات الرجل من أجل الوصول إلى الكنيست، في الانتخابات التاسعة عشرة والحادية والعشرين والثانية والعشرين والثالثة والعشرين، بالفشل، ولم يجتَز نسبة الحسم، ثم تحوّل من متطرفٍ غير شرعي إلى سياسي شرعي في الاستئناف الذي قدّمه أمام محكمة الاحتلال العليا في عام 2019، من أجل النظر في رفض لجنة الانتخابات قبول ترشحه في ذلك الوقت، بحيث قبلت المحكمة استئنافه. ومنذ ذلك الحين أُعيد تأهيله سياسياً.
من الممكن بالتأكيد رؤية صعود بن غفير تعبيراً عن ضعف النظام السياسي في “إسرائيل”، فليس لدى النخبة الإسرائيلية اليوم أي اقتراحٍ فعلي لحل النزاع مع الفلسطينيين، لا فيما يتعلّق بالضم، ولا “الدولتين”، ولا إدارة الصراع أو تقليصه. وبحسب هذه الرؤية، فإن ظهور بن غفير هو تعبيرٌ عن العجز والإحباط أكثر من كونه “رؤية عملية”. وبالتالي، فإن ما يميز اقتراح بن غفير ليس المحتوى، بل ما يميزه هو اللحظة السياسية. والتاريخ مليء بالشواهد على أن الأفكار السياسية، التي وُلدت في “الأزمة والضيق”، تسببت بأضرارٍ جسيمة.
من هنا، فإن تنامي “مذهب” بن غفير هو نتاج أزمة حقيقية في المجتمع الإسرائيلي، مرتبطة بآليات “السيطرة اليهودية”، بحيث أدت قوة الأقلية الفلسطينية، ودخولها اللعبة السياسية في “إسرائيل”، وحتى في الائتلاف والحكومة، إلى تهديد نظام التفوق اليهودي، الذي عملت “إسرائيل” على أساسه منذ نهاية عام 1948.
وبنى نتنياهو شخصياً نفسه من قدرته على المحافظة على هذا الوضع الراهن من دون انهيار التناقضات الملازمة له. فمن ناحية إزالة القضية الفلسطينية عن الأجندة السياسية، عبر “السلام الاقتصادي”، ومن الناحية الأخرى، المحافظة على “السيادة” اليهودية من خلال إجراءات وتشريعات، مثل قانون الجنسية، والقومية… وغيرهما.
يشير بن غفير في الواقع إلى أن هذا هو مكمن الخطر. لقد تم تقويض هذا الوضع الراهن، ويتم تقويضه كل يوم، كما يقول، فـ”السيادة اليهودية في خطر”، ليس فقط في الضفة الغربية والقدس المحتلتين، لكن بصورة أساسية داخل “إسرائيل” نفسها أيضاً. ومن أجل المحافظة على نظام التفوق اليهودي القائم، بحسب بن غفير، يجب اتخاذ إجراءات ضد أي شخص يتحدى ذلك. فمن لا يقبل هذا النظام يجب تجريده من جنسيته وإبعاده عن “إسرائيل”.
لطالما تشدّقت “دولة إسرائيل الليبرالية الديمقراطية” بأن أغلبية الجمهور اليهودي فيها تشترك في عدد من القيم، فهؤلاء يريدون قيادة متوازنة وموحَّدة وتصالحية، تسمح بالأمن، شخصياً وسياسياً. وفي الواقع، باتوا اليوم يخشون من أن تمهّد حكومة، بالشراكة مع بن غفير، الطريق لانتهاك الحقوق المدنية، وللسعي نحو “دولة الهالاخا” (الشريعة)، ولإثارة العلاقة بين “المواطنين” اليهود والعرب، والإضرار بمكانة “إسرائيل” بين دول العالم، فرئيس حزب “عوتسما يهوديت” (العَظَمة اليهودية)، إيتمار بن غفير، وزعيم حزب “الصهيونية الدينية،” سموترتش، يشكّلان خطراً ليس على العرب فحسب، وإنما على اليهود أيضاً.
يُدرك جزءٌ من الإسرائيليين أن الحكومة، التي تضم بن غفير، لا تستسلم فقط لخطاب عنيف ومثير للانقسام، على نحوٍ متزايد، بل إنها تُدجّن أيضاً هذا الخطاب وتجعله شرعياً. لكن أولئك الذين يعتقدون، من اليهود، أن هذا الأمر سيئٌ للعرب فقط، ويجدون العزاء في ذلك، مخطئون وواهمون.
صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية حذّرت، في افتتاحيتها، بُعيد ظهور نتائج الانتخابات الإسرائيلية، من “أن إسرائيل تقف الآن على أعتاب ثورة دينية استبدادية يقودها اليمين المتطرف، وهدفها تدمير أسس الديمقراطية التي بُنيت عليها الدولة”. واستطردت بالقول “إن البلد أصبح أكثرَ تطرفاً على نحوٍ مُرعب خلال الأعوام الأخيرة، وأن كل الأمور، التي جرى التحذير من احتمال وقوعها في السابق، تحدث الآن أمام أعيننا”.
وعلى الرغم من حصولهما على 14 مقعداً في الكنيست الحالي، فإن شرائح متعددة من الإسرائيليين لا تتماهى مع المواقف المتطرفة لبن غفير وشريكه بتسلئيل سموتريتش، اللذين كانا شريكين في الماضي في منظمة “موكب الماشية”، التي وقفت ضد مجتمع المثليين والمثليات، ويحاولان اليوم إظهار الاعتدال في مواقفهما. ومع أن بن غفير كتب، في مقال في الصفحة الأولى في صحيفة “إسرائيل هيوم” الأوسع انتشاراً: “لقد نضجت، أصبحت معتدلاً، وأدركت أن الحياة أكثر تعقيداً”، مضيفاً أنه والليبراليين “مُتفقون على 90 في المئة من القضايا، وأنه لن يسعى لفرض قانون ديني أو كبح حرية المعارضة”، إلّا أن جزءاً من المجتمع الإسرائيلي لا يصدّق المزاعم التي تفيد بأن “الصبي المثير للمشاكل”، والقادم من التلال، تغيّر، فهذا لا يتفق مع أفعاله وتصريحاته الأخيرة. وكتب أحد المدافعين عن حقوق “مجتمع الميم”، قائلاً إن “من الصعب تصديق التغيير في نيات شخص تلفّظ بكلمات تشهير ضد المحكمة العليا ورئيس الأركان، وجنود الجيش الإسرائيلي ومجتمع المثليين. إن أعمال العنف، التي قام بها بن غفير، هي الحمض النووي المكوّن لجوهره”.
أمّا رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، ورئيس حزب “يش عتيد”، يائير لابيد، فهاجم نتنياهو وإيتمار بن غفير اللذين “يفكّكان البلاد والنظام القضائي”. وقال لابيد، في خطابٍ له في مؤتمر سياسي حضره قُبيل الانتخابات، إن “المشكلة أننا نجحنا في ابتكار شركات ناشئة بمليارات الدولارات، لكننا فشلنا في خفض مستوى العنف داخلنا. اخترعنا الحكماء، لكننا لم نجد السبيل إلى توحيد المجتمع ورعاية الضعفاء وإعطاء شبّاننا الفرص والأمل”. وتابع لابيد أن “هناك متطرفين يجرّوننا في اتجاهات خطيرة”.
يدرك أصدقاء “إسرائيل” في العالم أيضاً هذا الخطر، فالسيناتور روبرت منديز، وهو من المؤيدين البارزين لـ “إسرائيل”، حذّر نتنياهو من تأليف حكومة مع اليمين المتطرف. والمنظمات اليهودية الكبيرة في الولايات المتحدة عبّرت عن قلقها العميق من إمكان تأليف نتنياهو حكومة مع بن غفير، وحذّرت من أن هذا الأمر “يُسيء إلى مكانة إسرائيل لدى الرأي العام الأميركي، فالشراكة مع بن غفير يجب أن تكون خطاً أحمرَ، وحكومةٌ تضمّه تشكل خطراً على أمن إسرائيل، وتؤجج النار بين المواطنين العرب واليهود، وتُلحق ضرراً كبيراً بمكانة إسرائيل الدولية”.
ولم يقتصر مطلقو هذه الانتقادات على مَن هم خارج ائتلاف نتنياهو، فالحاخام، مئير تسفي بيرغمان، وهو أحد أقدم أعضاء مجلس حزب “ديجل هاتوراه الليتواني”، شنّ هجوماً لاذعاً ضد مؤيدي بن غفير الأرثوذكس المتطرّفين، ونشر رسالةً خلص فيها إلى أنهم “يُعرّضون كل حكم إسرائيل للخطر، وكل أعمالهم وأفعالهم تتعارض مع التوراة”.
ونشرت أيضاً مجموعة من المنظمات النسوية والمؤيدين لمجتمع “الميم” في “إسرائيل”، بياناتٍ ومقالات تشرح فيها تخوفها ممّا ينتظر هذه الشرائح في عهد الحكومة اليمينية الجديدة. فانخفاض نسبة تمثيل النساء في الائتلاف والحكومة القادمة “سيقود إلى تجاهلهن، وتغييب قضاياهن عن الأجندة السياسية العامة، وإلى تملّص الحكومة من تخصيص ميزانيات تعالج قضاياهن”. ففي حين ضم الائتلاف السابق 30 امرأة، شكّلن نصفَ قوة الأحزاب الشريكة في الانتخابات السابقة، من المتوقع، في المقابل، أن تنضم 9 نساء فقط إلى الائتلاف الحكومي المرتقب، أي أقل من 20% من مجموع المقاعد المتوقعة، والتي قد تصل إلى 65. وهذا يعني، بالنسبة إلى كثير من النساء الإسرائيليات، إقصاءهن عن الحيز العام، في وسائل الإعلام؛ في لافتات الشوارع؛ في عالم الموسيقى؛ في الجيش؛ في المؤسسات الأكاديمية؛ في المواصلات العامة… إلخ، بحيث تؤمن شريحة لا يُستهان بها من الأحزاب الدينية في ائتلاف نتنياهو بوجوب منعِ النساء من الغناء والخطابة، أو حتى تعليم الرجال.
كما تخشى المنظمات النسوية من تقييد حق النساء في الإجهاض، بحيث صادقت وزارة الصحة، خلال الأعوام الأخيرة، على 99% من طلبات الإجهاض في “إسرائيل”، بل تم، عقبَ حملات مُناصرة قامت بها عدة منظمات نسائية في أثناء فترة ولاية وزير الصحة الحالي “اليساري”، نيتسان هوروفيتس، تغيير بعض الأنظمة القديمة المتعلقة بالإجهاض. ومن المتوقع، في الحكومة اليمينية المقبلة، تشديد الإجراءات إلى حد حظر الإجهاض.
يتحدّث عدد من الإسرائيليين اليوم عن “الإقصاء”، كونه اصطلاحاً عاماً يصعبُ فهم عواقبه العملية، لكنه بالتأكيد سيؤثّر، بصورة كبيرة، في حرية كثيرين منهم وحقوقهم، في ظل الحكومة المرتقبة.
إن تاريخ القرن العشرين غني جداً بأمثلة على القادة اليمينيين “المعتدلين”، الذين أدخلوا يميناً فاشياً لحكوماتهم، معتقدين أن في إمكانهم الاستمتاع بالعالمين: البقاء في السلطة، وكبح الفاشية من الداخل. لكن، لا أحد يعلم بما سيحدث بالضبط بعد تنصيب حكومة الاحتلال. من الممكن أن يدرك نتنياهو و”الليكود” أن بن غفير يهدد بالقضاء عليهما أولاً، كما فعلت الأحزاب اليمينية المتطرفة مع الأحزاب اليمينية المحافظة، في أوروبا الغربية في الأعوام الأخيرة. وربما يسير بن غفير على خطى زئيفي وليبرمان، “ويلطّف” مقترحاته العنصرية الفاشية بمجرد دخوله الحكومة.
لكن احتمال أن يحاول تنفيذها فعلياً أمرٌ قائم، ولاسيما في ظل الوضع السياسي الهشّ الذي تعيشه “إسرائيل” اليوم. ولنتذكر أن هتلر وصل إلى السلطة، بصورة ديمقراطية.
بقلم: محمد هلسة
المصدر: الميادين