النمو المتواصل لقوة الصين، وتزايد نفوذها في مسرح السياسة العالمية، وخشية الولايات المتحدة من مزاحمتها عند قمة النظام الدولي، أغراها بتوظيف تايوان أداةً في صراعها مع الصين.
مؤشرات كثيرة تؤكّد أنّ الولايات المتحدة لا تزال تصر إصراراً عنيداً على الاحتفاظ بهيمنتها المنفردة على النظام العالمي، وعدم السماح لأيِّ قوة دولية أخرى بمزاحمتها على هذا الصعيد، أياً كانت الوسيلة التي تستخدمها في تحقيق هذا الهدف.
أحد هذه المؤشرات الدالة على ذلك هو إقدام الرئيس بايدن على التوقيع يوم 23 كانون الأول/ديسمبر الحالي على قانون تفويض الدفاع الوطني للسنة المالية 2023، إذ بلغت ميزانية الدفاع الأميركية 858 مليار دولار، أي ما يعادل أكثر من 40% من إجمالي النفقات العسكرية للعالم أجمع، بزيادة قدرها 136 مليار دولار عن ميزانية 2022.
ولأنّ روسيا والصين هما الدولتان الوحيدتان المرشحتان لتحدي هذه الهيمنة، فقد تم رصد مبالغ ضخمة لاستنزافهما وعرقلة تقدم أيٍّ منهما، وذلك عبر مساعدات عسكرية ضخمة لأوكرانيا ومبيعات أسلحة ضخمة لتايوان.
ترى الولايات المتحدة أنَّ الحرب المشتعلة حالياً في الساحة الأوكرانية يجب أن تنتهي بهزيمة إستراتيجية لروسيا. وقد رصدت في ميزانيتها الدفاعية مبلغ 800 مليون دولار لمساعدة أوكرانيا على الصمود والاستمرار في هذه الحرب، و6 مليارات دولار لتقوية وتحصين دفاعات الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو للسنوات الخمس القادمة.
أما لردع الصين واحتوائها، فقد تم تخصيص مساعدات عسكرية ومبيعات أسلحة لتايوان خلال السنوات الخمس القادمة تبلغ قيمتها 10 مليارات دولار، وكذلك تخصيص 11.5 مليار دولار لما تسميه “الردع الدفاعي” في منطقة آسيا والمحيطين الهادئ والهندي.
ولدعم التوجّه العام للسياسة الخارجية الأميركية، تضمنت ميزانية 2023 الدفاعية خططاً لإطلاق سباق جديد للتسلح في مواجهة كلٍّ من روسيا والصين، من خلال برنامج طموح لتحديث الجيش الأميركي، وخصوصاً في مجال تعزيز القدرات النووية والصاروخية وأنظمة الفضاء وغيرها.
عسكرة السياسة الخارجية الأميركية بهدف تمكين الولايات المتحدة الأميركية من الهيمنة على النظام الدولي لأطول فترة ممكنة ليست وليدة اليوم، إنما تعود إلى ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي مباشرة، وهو ما تجلى بوضوح تام من خلال الطريقة الأميركية في إدارة الأزمات الدولية التي اندلعت عقب إقدام العراق على احتلال الكويت في 2 آب/أغسطس 1990؛ فحين اندلعت هذه الأزمة، كانت الحرب الباردة قد انتهت فعلياً بانهيار جدار برلين عام 1989.
ولأنَّ الاتحاد السوفياتي والصين لم يستخدما حقّ الفيتو للاعتراض على أي من القرارات التي اتخذها مجلس الأمن استناداً إلى الفصل السابع من الميثاق، فقد تصورت شعوب العالم وقتها أنَّ نظاماً عالمياً جديداً تؤدي فيه الأمم المتحدة أكبر دور في إدارة الأزمات الدولية، من خلال تفعيل نظام الأمن الجماعي، على وشك أن يولد، وأن كل الخارجين على القانون الدولي سيعاملون من الآن فصاعداً بالقسوة نفسها التي عومل بها نظام صدام حسين.
وعلى الرغم من مشاركة الرئيس الأميركي جورج بوش الأب قادة العالم في رفع الشعار نفسه، فإنَّ الدولة الأميركية العميقة كانت ترتّب في الواقع لشيء مخالف تماماً، هو توظيف أزمة احتلال الكويت للتعجيل في سقوط الاتحاد السوفياتي من ناحية، ولتمهيد الطريق، من ناحية أخرى، لبزوغ نظام عالمي جديد تهيمن عليه منفردة.
من هنا، كان الحرص على إدارة “حرب تحرير الكويت” من خلال “تحالف الدول المتعاونة مع حكومة الكويت، الذي تقوده الولايات المتحدة، وليس من خلال نظام الأمن الجماعي الذي كان يفترض أن تشرف على تطبيقه “لجنة أركان الحرب” التابعة لمجلس الأمن، وهو ما يفسر تصريح السكرتير العام للأمم المتحدة وقتها بأنَّ “حرب تحرير الكويت ليست حرب الأمم المتحدة”.
بوسع كل باحث مدقّق في تطور السياسة الخارجية الأميركية منذ حرب “الخليج الثانية” أن يرصد بوضوح اعتماد القوة المسلّحة وسيلةً أساسية لتمكين الولايات المتحدة من الهيمنة المنفردة على النظام العالمي وإدارة ظهرها تماماً للأمم المتحدة.
لقد تعمدت مواصلة العمل على إضعاف العراق، رغم انسحابه من الكويت، لأنها كانت تخطط لاحتلاله لاحقاً، واستخدمت الهجوم الإرهابي الذي ضربها في أيلول/سبتمبر 2001 ذريعةً لاحتلال أفغانستان، ثم العراق.
ولم تتردد في توظيف حلف الناتو أداةً للتدخل العسكري ولإدارة العديد من الأزمات الدولية بعيداً من ساحة الأمم المتحدة، ورفضت كل المحاولات الرامية إلى إعادة إحياء نظام الأمن الجماعي وتفعيله، وسعت بكل الوسائل لإضعاف الأمم المتحدة وتهميشها، من خلال ممارسة الضغوط المالية عليها، بالامتناع عن تسديد حصتها في ميزانيتها لسنوات عديدة. واستمر الحال على هذا المنوال لفترة لم يكن بمقدور أيّ دولة أخرى دائمة العضوية في مجلس الأمن أن تجرؤ على استخدام حق الفيتو في مجلس الأمن خلالها.
ولأنه لم يكن بمقدور الولايات المتحدة مواصلة هيمنتها المنفردة على النظام العالمي لفترة طويلة، وخصوصاً في ظل تأكّل الوزن النسبي لقوتها في هذا النظام، فقد كان من الطبيعي أن تلجأ إلى أساليب أخرى لتحقيق هذا الهدف، من بينها توظيف قوتها العسكرية والاقتصادية النسبية لإضعاف القوى الصاعدة واستنزافها، وخصوصاً روسيا والصين. من هنا جاء استخدامها علاقتها الخاصة بأوكرانيا أداةً لاستنزاف روسيا، واستخدامها علاقتها الخاصة مع تايوان أداةً لاستنزاف الصين.
كان بوسع الولايات المتحدة أن تقدم إسهاماً كبيراً في خدمة السلم والأمن الدوليين لو أنّها حرصت على قيادة نظام دولي من خلال مؤسسات الأمن الجماعي، بدلاً من الحرص على الهيمنة المنفردة على هذا النظام من خلال حلف الناتو الذي أصرت على توسعته وامتداده شرقاً عبر موجات متعاقبة، إلى أن وصل إلى حدود روسيا الغربية.
وكان بوسعها أن تحول دون اندلاع الحرب في أوكرانيا لو أنها لم تصر أيضاً على استخدام أسلوب “الثورات الملونة” وسيلةً لتغيير أنظمة الحكم في الدول الأوروبية المتعاونة مع روسيا أو الحليفة لها.
لذا، عندما أحسَّت روسيا أنها وصلت إلى مستوى من القوة يؤهّلها للاعتراض على السياسة الأميركية أو حتى تحديها، بدأت تكشر عن أنيابها، وهو ما بدا واضحاً في أزمة جورجيا التي اندلعت عام 2008، ثم في أزمة أوكرانيا الأولى التي اندلعت عام 2014، والتي أدت إلى استعادتها السيطرة على جزيرة القرم.
وكان من الممكن إيجاد تسوية سلمية نهائية لهذه الأزمة لو كانت الولايات المتحدة والدول الأوروبية الحليفة لها جادة في تطبيق اتفاقية “مينسك” أو راغبة في تقديم ضمانات أمنية لتهدئة المخاوف الروسية، ولتسهيل الوصول إلى نظام أمن جماعي في أوروبا تشارك فيه روسيا.
ليس معنى هذا أننا نحاول تبرير لجوء روسيا إلى استخدام القوة وسيلةً لتسوية أزمتها مع أوكرانيا، لأنَّ ذلك ليس مقبولاً أصلاً، ولكننا نحاول فقط إثبات أن ما جرى كان يمكن تفاديه باتباع سياسات بديلة لتلك التي حاولت استخدام أوكرانيا كمخلب قط لاستنزاف روسيا، وهو ما أدى في النهاية إلى اندلاع أزمة كبرى تهدد الاستقرار والسلم في العالم كله، وقد تفضي إلى حرب عالمية ثالثة ليس من المستبعد استخدام السلاح النووي فيها.
من الواضح أنّ السياسة التي تنتهجها الولايات المتحدة تجاه الصين باستخدام تايوان لا تختلف كثيراً عن تلك التي انتهجتها تجاه روسيا باستخدام أوكرانيا، فهي تعترف منذ زيارة نيكسون للصين عام 1971 بأن هناك “صيناً واحدة”، وأن تايوان جزء لا يتجزأ منها، ما يعني الاعتراف ضمناً بأن العلاقة بين الصين وتايوان هي من قبيل المسائل الداخلية التي لا يجوز لأي طرف خارجي أن يتدخل فيها، وخصوصاً أن الصين ملتزمة أمام العالم بحل مشكلتها مع تايوان بالطرق والوسائل السلمية.
ولكنّ النمو المتواصل لقوة الصين، وتزايد نفوذها في مسرح السياسة العالمية، وخشية الولايات المتحدة من مزاحمتها عند قمة النظام الدولي، أغراها بتوظيف تايوان كأداة في صراعها معها، ويبدو أنَّها قررت استخدامها كمخلب قط لاستنزاف الصين وإضعافها، بدليل إقدامها على إبرام صفقات سلاح ضخمة معها.
ويصعب تصديق ادعاء الولايات المتحدة بأنّ الهدف من هذه الصفقات هو تمكين تايوان من الدفاع عن نفسها في مواجهة الصين التي تسعى لضمها بالقوة، وخصوصاً أن هذا التصرف يثبت أن الولايات المتحدة تتعامل مع تايوان باعتبارها دولة مستقلة تلتزم مساعدتها على الدفاع عن نفسها ضد أي غزو خارجي محتمل، وهو ما يتناقض مع سياسة “صين واحدة” التي تدّعي الولايات المتحدة أنها تنتهجها رسمياً.
لجوء روسيا إلى القوة المسلّحة ضد أوكرانيا كوسيلة لوقف تمدد حلف الناتو شرقاً، واحتمال لجوء الصين إلى القوة المسلّحة لفرض سيادتها على ما تعتبره جزءاً لا يتجزأ من الوطن الأم، وللحيلولة دون انفصال تايوان واستقلالها عن الوطن الأم، قد يكون مشروعاً ومبرراً من وجهة نظرهما للرد على الاستفزازات الأميركية، لكنه لا يساعد على تحقيق أمن العالم واستقراره، فمتى تدرك الولايات المتحدة أن سياستها المستفزة الرامية إلى استنزاف روسيا والصين لن تساعدها أبداً على استمرار هيمنتها المنفردة على النظام العالمي، لكنها قد تتسبَّب بحرب عالمية ثالثة يُستخدم فيها السلاح النووي؟
إصلاح الأمم المتحدة وإعادة إحياء نظام الأمن الجماعي المنصوص عليه في ميثاق هذه المنظمة العالمية هما السبيل الوحيد لتحقيق الأمن والسلم لشعوب العالم.
المصدر: الميادين