بوتين منذ اعتلائه سدة الرئاسة، يشدّد باستمرار على تمسّكه بالتقاليد، وعلى أن روسيا، بلد القيم الأصيلة، تواجه الوثنية الغربية الجديدة.
قال المخرج السينمائي الروسي الشهير نيكيتا ميخالكوف الأحد الماضي في 16 من الشهر الحالي، إن “المسيحية الأرثوذكسية الروسية أقرب بكثير إلى الإسلام منها إلى الكاثوليكية”.. وإن “تاريخ روسيا، الذي يمثل جسراً حقيقياً بين الشرق والغرب، أثبت أن الإسلام والأرثوذكسية يتعايشان معا بكل سلام”.
وأشار إلى أن “الإسلام ثقافة عظيمة ليس فيها عدوانية ولا سعي لخنق العالم أو تغييره”. وأضاف أن “هناك حضارة إسلامية يجب التعامل معها باحترام، ويجب تقبل وحماية تعاليمها وقوانينها”، مشدداً على أن “محاولة العالم الغربي فرض حضارته على المسلمين ستؤدي إلى ما حدث في أفغانستان، والأمر نفسه بالنسبة إلى مساعي فرض نمط معيشي معين في سوريا أو العراق..”.
وقد يبدو هذا الموقف من حائز جائزة أوسكار وغيرها من الجوائز السينمائية العالمية مستغرباً لى العربي الذي يستقى معلوماته، بصورة أساس، عن روسيا عبر وسائل الإعلام الغربية.
بيد أننا يجب ألا ننسى أن روسيا، هي عضو مراقب في منظمة التعاون الإسلامي منذ عام 2005، وأنها منعت في مطلع عام 2015 إعادة نشر رسوم مجلة “شارلي إيبدو” المسيئة إلى النبي الأكرم، فلم تجرؤ وسيلة إعلام روسية واحدة على إعادة نشرها.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في منتصف شهر أيلول/سبتمبر عام 2015، وفي خلال مراسم افتتاح مسجد موسكو الجامع قد سمى الإسلام ديناً عالمياً عظيماً. وأشاد “بفضل أمة روسيا الإسلامية الكبير في ضمان الوفاق” في المجتمع الروسي، وفي تعايش مختلف الأديان والشعوب بسلام فيه. وقال الرئيس الروسي إن “الإسلام أصبح جزءاً لا يتجزأ من الحياة الروحية في بلادنا”.
وبوتين منذ اعتلائه سدة الرئاسة عام 2000، يشدّد باستمرار، وفي كل مناسبة ممكنة على تمسّكه بالتقاليد، وعلى أن روسيا، بلد القيم الأصيلة، تواجه الوثنية الغربية الجديدة.
وتصريحاته المرتبطة بهذا الموضوع منذ ذلك الحين لا تعد ولا تحصى، نورد منها على سبيل المثال تصريحه في مقابلة أجرتها صحيفة “فايننشال تايمز” عام 2019 بأن “القيم الليبرالية أصبحت بالية”. وأن “من الضرورة بمكان أن يكون هناك التزام بالقيم العائلية التقليدية”.. وهو إذ ترك للغربيين حق الاختيار، فإنه أضاف: “نحن نطلب إليهم الابتعاد عنا لأن لدينا وجهة نظر مختلفة”.
ووفقاً للصحيفة اللندنية، فقد وصف الرئيس الروسي فكرة تعليم الأطفال إمكان أن يصبح الصبي فتاة أو العكس بالـ”فكرة البشعة”، وتكاد تكون “جريمة ضد الإنسانية”.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبيل التصديق عام 2020 على حزمة تعديلات دستورية، اقترحت إحداها “حماية مؤسسة الزواج كاتحاد بين الرجل والمرأة”، قد أدلى بتصريح تطرق فيه إلى زواج المثليين، مؤكداً أنه “ما دام هو رئيساً للبلاد، فإن الأسرة في روسيا لن تتألف من “والد رقم 1” و”والد رقم 2″، وأنها ستبقى “بابا وماما” فقط.
وقد ألقى خطاباً قبل عام 2021 في منتدى فالداي الدولي للحوار بمدينة سوتشي الاصطيافية، شن فيه هجوماً لاذعاً على الليبرالية الغربية، وانتقد “الدعوات الرامية إلى تعزيز حقوق المثليين والمتحوّلين جنسياً”.
وقال بوتين إن “بلاده يجب أن تلتزم “بالقيم الروحية والتقاليد التاريخية” الخاصة بها، وأن تنأى بنفسها عن “الاضطرابات الاجتماعية والثقافية” لدى الغرب”…
وفي خطاب آخر، قال الرئيس الروسي: “نحن نرى كيف سارت دول يورو-أطلسية على طريق التخلي عن جذورها، بما في ذلك القيم المسيحية، التي تشكل أساس الحضارة الغربية؛ فهي تنكر المبادئ الأخلاقية، وأي هوية تقليدية: قومية، ثقافية، دينية وجنسية كذلك. وتنتهج سياسة تضع على مستوى واحد الأسرة متعددة الأطفال وشراكة مثليي الجنس، والإيمان بالله والإيمان بالشيطان..”، محذراً من أن ذلك “طريق مباشرة إلى الانحلال”.
يذكر أن الدوما (مجلس النواب الروسي) حظّر عام 2013 الدعاية إلى الشذوذ الجنسي والإجهاض، وحظّر أيضاً الإجهاض بعد الأسبوع الثاني عشر من الحمل.
وإزاء ذلك لم تكن مستغربة نتائج استطلاع الرأي الذي أجري في تلك السنة، إذ أظهر أن 74% من الروس لا يتقبلون المثلية الجنسية خلافاً للمجتمعات الغربية “المنفلتة من كل عقال”.
ويجب الإشارة هنا إلى أن الحديث لا يدور عن الحرية الجنسية الواسعة نسبياً بين الرجل والمرأة في روسيا، التي ترسم حدودها تربية الشخص هنا وقيمه الدينيةإ والحديث هنا يدور حول مأسسة الشذوذ الجنسي والدعاية له.
ولعل آخر تعليق لفلاديمير بوتين على موضوع القيم التقليدية في روسيا كان إبّان خطابه في الثلاثين من أيلول الماضي في الكرملين خلال مراسم انضمام 4 مناطق أوكرانية إلى روسيا.
وكما قال المحلل الروسي ألكسندر نازاروف على موقع “روسيا اليوم” في الأول من هذا الشهر، فإن “بوتين قد صب لعناته على الغرب، بما يعادل في الإسلام إصدار فتوى حول الجوهر اللاإنساني والشيطاني للغرب، ومع أنه لم يعد مباشرة بتدميره، إلا أنه ومن حيث روح الخطاب، أعلن الجهاد على الغرب ومحاولته نشر الانحطاط الأخلاقي في البلدان الأخرى”.
من هنا يمكن القول إن هذه المواقف الروسية التقليدية المناهضة لثقافة “سدوم وعمورة” تلتقي وسلوكيات المسلمين، التي تتصف عموماً بالحفاظ على التقاليد، ومن بين هؤلاء مسلمو روسيا. الذين بلغ عددهم في روسيا نحو 14.5 مليون شخص، وفقاً لنتائج الإحصاء العام الأخير للسكان الذي أُجري في روسيا عام 2002، والذي أورده البروفيسور أليكسي مالاشينكو في 15 آذار عام 2016، أي إنهم يؤلفون نحو 10% من عدد سكان البلاد.
ذلك في حين أن بوتين يرى أن عدد المسلمين الإجمالي يقارب 20 مليوناً.
على أن رئيس مجلس المفتين في روسيا الشيخ راوي عين الدين قدّر عددهم عام 2018 بـ25 مليون نسمة، ثم توقع عام 2019 أن تتضاعف نسبة المسلمين في روسيا في الأعوام الـ 15 المقبلة “لتصل إلى 30% من مجموع السكان”.
وفي أي حال، ومهما بلغ عددهم، فإن الإسلام يعدُّ الدين الثاني في روسيا من حيث عدد أتباعه.
وفي ضوء ذلك كله، لا بد من الإشارة إلى مشاركة الشيشان في العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، والمدعوة لتعزيز اللحمة الوطنية والتعايش بين المواطنين المسلمين والمسيحيين الروس، ولا سيما أنها تحظى بامتنان الروس الوطنيين كافة.
فقد كان لصرخة “الله أكبر” وقع السحر في قلوب المواطنين المسيحيين من القومية الروسية في دونباس. إذ إن هذا كان يعني لهم أن ساعة النجاة قد دقت. وأن موعد خلاصهم من النازيين الأوكرانيين قد حل.
ولعله لذلك يعرب المسؤولون الروس الكبار في أحاديثهم الخاصة عن ارتياحهم الكبير إلى المشاركة الشيشانية العسكرية في أوكرانيا.
ولذلك أيضاً أعلن القائم بأعمال رئيس جمهورية دونيتسك الشعبية الروسية دينيس بوشيلين من العاصمة الشيشانية غروزني في 7 تشرين الأول الحالي أن “المقاتلين الشيشان يرعبون الأوكرانيين النازيين، ويبثون الرعب في قلوب العدو في ساحة المعركة، وهم يقاتلون حيث يكون الوضع صعباً، وخطراً.
ويضيف أن هذا “يستحق الاحترام الشديد”.
وبناء على ذلك كله وغيره من الحيثيات المتصلة، يمكن التعويل على روسيا جسراً للتلاقي بين الإسلام والمسيحية في هذا العالم المجنون.
المصدر: الميادين