في مرحلة الصدمة النفطية 1974، والأزمة النفطية في الثمانينيات، وأزمة النمور الآسيوية، والأزمة المالية العالمية، وأزمة القرم، صاغت السعودية قراراتها في “أوبك” بما يسمح لها بتحقيق أعلى الأرباح وأقل مستوى من التوتر مع أميركا.
بعد اجتماع “أوبك +” في الخامس من تشرين الأول/أكتوبر الجاري، وإصدار قرار خفض إنتاج النفط، عمّت الدهشة أوساط المتابعين نتيجة للموقف السعودي تحديداً، على اعتبار أنَّ الموقف الإيراني أو الفنزويلي، مثلاً، مهتم اعتيادياً بتأزيم خيارات الأجندة الأميركية.
سبب هذه الدهشة في الموقف السعودي يتأتى من محاولة حصره ميكانيكياً في خيارين: إما السعودية التي تبحث عن المزيد من عوائد النفط فقط، وإما السعودية التي تطلق الرصاص دائماً على قدميها، لتضع مزيداً من الهواء في شراع القوة الأميركية.
لذلك، في كلّ مناسبة تتخذ فيها السعودية في “أوبك” موقفاً داعماً للأهداف الأميركية، نقول: “هذا هو حال الدول التابعة”. وفي مناسبة أخرى، حين تؤيد السعودية قرارات ما لـ”أوبك” تضر بالمصالح الأميركية، نقول: “ثمة استدارة حاسمة في الموقف السعودي”.
كلا التوجهين يصلان بنا إلى منطق مغلوط. لذلك، نرى العديد من المقاربات في هذا الموقف، والتي تحاول ليّ أعناق النظريات بطريقة غريبة لتعتبر أنّ كل ما يجري في “أوبك +” يصبّ في مصلحة الولايات المتحدة أو تتفاءل بمبالغة مفرطة بالموقف السعودي.
في مقابلة مع شبكة “CNN” مع وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، تسأل المذيعة باستغراب: “هل هو اصطفاف إلى جانب روسيا؟”، ليجيب الجبير بأنّ القرار في “أوبك” هو مسألة فنية واقتصادية خالصة تهدف إلى الحفاظ على توازن سعر النفط.
وفي الرد على الجواب الدبلوماسي، المغلّف بالتأكيد على صلابة العلاقة الأميركية السعودية، تعرض “CNN” تحليل السيناتور الديمقراطي كريس مورفي وهو يقول: “لا تستطيع السعودية الفصل بين اقتصاد النفط وسياسة النفط”، وهذا هو فعلاً جوهر إنتاج الموقف السعودي داخل أروقة “أوبك” أو “أوبك +”، على عكس ما قال الجبير.
حول قصّة الحظر السعودي للنفط عام 1973م خلال حرب أكتوبر، يجب الانتباه إلى 3 عوامل أساسية أنتجت القرار السعودي آنذاك؛ أولاً: الولايات المتحدة قدّرت حرج السعودية في منطقة كانت تحت تأثير مستمر لبقايا المشروع الناصري، وتحت تأثير حركات التحرر المدعوم سوفياتياً، والحماسة العربية للحرب، باعتبارها فرصة لإعادة الاعتبار بعد حرب حزيران 1967م.
ثانياً: هذا التقدير للحرج لم ينعكس بشكل جدي على إمدادات النفط، إذ اعتمد القرار مجموعة قواعد وبروتوكولات جعلت هولندا دولة متضررة أكثر من الولايات المتحدة بحكم هذا القرار، ثالثاً: أدى الموقف السعودي آنذاك دور الفرامل الجيدة لمواقف أكثر راديكالية دعا إليها العراق وليبيا.
في تلك المحطة، خرجت السعودية والولايات المتحدة من الحرب بعلاقة معززة ووثيقة أكثر، بعدما كسبت السعودية سعر النفط بعد الحرب “الصدمة النفطية”، واستفادت الولايات المتحدة بتدعيم عملتها الصاعدة بعد إنهاء مرحلة بريتون وودز.
في بداية الثمانينيات، وبعدما انخفضت أسعار النفط، حاولت السعودية دفع قرار “أوبك” إلى خفض الإنتاج للحفاظ على الأسعار، إلا أنَّ تدفّق المزيد من الإنتاج النفطي من بحر الشمال وألاسكا عطّل الخطوة وخفّف من الحصة السوقية للنفط السعودي. ترافق ذلك مع صعود إدارة أميركية شرسة بقيادة رونالد ريغان لم تكن لتسمح لهذا القرار بأن يستكمل، ما قلب الموقف السعودي لاحقاً.
في منتصف التسعينيات، فُتحت شهية الدول النفطية على المشاريع الناشئة في آسيا. وتحت صيغة “إنتاج كبير، وسعر عالٍ”، وعندما أعلنت مؤشرات البورصة عن سقوط مفاجئ لتجربة النمور الآسيوية، كانت السعودية تدفع باتجاه خفض الإنتاج مرة أخرى، وبمقدار 4.3 مليون برميل يومياً، وهو ما يتجاوز القيمة المقترحة اليوم، ولكن الخطوات الدبلوماسية لإدارة كلينتون، المستبدة في فضاء العالم الأحادي القطبية، لم تكن تحتاج الكثير من العناء لإقناع السعودية بالوقوف ضد الخطوة مجدداً عام 1999م.
وجّهت الأزمة المالية عام 2008م الصدمة الأعمق إلى أسعار النفط، التي انخفضت من 147 دولاراً للبرميل الواحد في تموز/يوليو، لتصل إلى 36 دولاراً في أيلول/سبتمبر. لم تعق الولايات المتحدة قرارات “أوبك” التي اجتمعت 3 مرات من تلك اللحظة إلى نهاية عام 2008م، وأعادت ما فعلته في صدمة النمور الآسيوية، في سحب أكثر من 4 مليون برميل يومياً.
في الأزمة المالية، كانت الولايات المتحدة مستمرة في السيطرة على نفط العراق بعد احتلاله عام 2003م. لذلك، كانت أولوية الطاقة تتراجع بالنسبة إليها، كما أنها كانت منهمكة تماماً في فك العقدة الأولى من الأزمة المالية المتمثلة بالمصارف المنهارة والمنسحبة من السوق المالي.
في أزمة القرم عام 2014م، التي تزامنت مع التدخلات السعودية في أحداث سوريا وتعاظم إنتاج النفط من الصخر الزيتي في الولايات المتحدة، كانت المواقف السعودية في “أوبك” تسير جنباً إلى جنب مع التوجيهات الأميركية لإضعاف روسيا وإفشال خطتها في ضم القرم. لذلك، غالت السعودية في موقفها آنذاك واستمرت في الإنتاج.
في المحطات الخمس المستعرضة هنا (الصدمة النفطية 1974م، والأزمة النفطية بداية الثمانينيات، وأزمة النمور الآسيوية، والأزمة المالية العالمية، وأزمة القرم)، صاغت السعودية قراراتها في “أوبك” بما يسمح لها بتحقيق أعلى الأرباح وأقل منسوب ممكن من التوتر مع الولايات المتحدة، التي رأت فيها الضامن الوحيد لنظامها السياسي.
اليوم، وفي ظلّ تفشي مبدأ التنويع (diversification) في العلاقات الدولية، وتحديداً في صفوف الدول الصديقة للولايات المتحدة، تبدو السعودية مستمرة في البحث عن الأرباح، ولكن بمنسوب أعلى من التوتر مع الولايات المتحدة، وتحديداً مع الإدارة الحالية.
المصدر: الميادين