السعودية والعالم العربي.. شروط القيادة وتحدياتها
العين برس / مقالات
عريب الرنتاوي
تتلفّت الرياض يمنة ويسرة حولها وتشهد بلا شك المآلات المؤسفة التي انتهت إليها أحوال “حواضر عربية” لطالما اضطلعت بأدوار منافسة في قيادة العالم العربي.
لا تخفي السعودية “الجديدة” ميلها الجارف إلى تزعّم العالم العربي، بدءاً بالمنظومة الخليجية. وحين يسعى بعض أشد المتحمسين لدور المملكة “الرائد” في رسم صورتها وتحديد مكانتها، يصعب على المتلقي التمييز بين مفاهيم من نوع “قيادة وزعامة وريادة” من جهة، و”هيمنة واستحواذ” من جهة ثانية. ربما يشي وصف “العظمى” الذي يلحق أحياناً باسم المملكة بحجم الطموح الذي يعتمل في الصدور لاضطلاعها بدور يتخطى الإقليم إلى الساحة الدولية.
وإذ تتلفت الرياض يمنة ويسرة حولها، فإنها تشهد بلا شك المآلات المؤسفة التي انتهت إليها أحوال “حواضر عربية” لطالما اضطلعت بأدوار منافسة في قيادة العالم العربي، مستندة إلى إرث تاريخي يتخطى مرحلة ما بعد الاستقلال إلى ما قبل الحقبة العثمانية في التاريخ العربي.
هنا، يدور الحديث عن القاهرة التي تعتصرها واحدة من أصعب وأدق أزماتها المالية والاقتصادية، ودمشق المثخنة بجراح حرب السنوات العشر فيها وعليها، وبغداد التي كُتب عليها طوال نصف القرن الأخير أن تخرج من حرب لتدخل في أخرى، ومن حصار دولي إلى سلسلة من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
أما حين يلتفت السعوديون إلى ما بين أيديهم، فإن نظراتهم لا تخطئ رؤية عناصر المَكنة والاقتدار التي تتوفر عليها بلادهم، فهي كبيرة بحسابات الجغرافيا، ومتوسطة بحسابات الديموغرافيا، ولديها معين يكاد لا ينضب من الطاقة و”الهيدروكربون”، وهي مرشحة للإسهام بقدر كبير من الطاقة النظيفة عندما يستغني العالم عن الطاقة المُلوِثة للبيئة والضارة بالمناخ، ولديها ما بين الخليج والبحر الأحمر في باطن الأرض وما فوقها على اليابسة وفي المياه ما يكفي لجعلها قوة اقتصادية جبارة قائمة على اقتصاد متعدد ومتنوع ومستدام.
وفوق هذا وذاك، حبا الله تلك البلاد بمكة والمدينة وحرميهما الشريفين، ما جعل منها قبلة جميع المسلمين ومعظم العرب، ووفر لها اليوم، كما الأمس، مدخلاً للاضطلاع بأدوار قيادية، من دون الحاجة إلى بذل كثير من الجهد والموارد.
هنا، نفتح قوسين لنشير إلى أن أهم مصدرين للقوة والاقتدار السعوديين، وهما الحرمان والطاقة، لا فضل “للبشر” في توفيرهما. يبقى أنهما بحاجة إلى من يفعّلهما ويبني على امتلاكها أدوار زعامة، والتقرير في أي اتجاه يريد أن يوظف هذا “المعطى الرباني” في معادلات القوة وحسابات السياسة.
جيل جديد من القادة
سيدخل العام 2015 تاريخ المملكة التي ستحتفل بعد أشهر بيومها الوطني الثاني والتسعين بوصفه عام انتقال السلطة من جيل الأبناء إلى جيل الأحفاد، وسيبدأ نجم أمير شاب طموح بالصعود في سماء المملكة، ولن يمضي سوى عامين على تبوئه المرتبة الثالثة في سلم القيادة حتى يصبح محمد بن سلمان رجل المملكة الأقوى، وقبل أن يتم العقد الثالث من عمره.
هنا، سنفتح قوسين آخرين لنقترح التمييز بين مرحلتين في سني حكمه الثماني: الأولى تمتد إلى قرابة 3 سنوات، وتتسم بالميل نحو المغامرات الكبرى (حرب اليمن وحصار قطر واغتيال خاشقجي)، والثانية تبدأ بالمصالحة الخليجية (قمة العلا)، والهبوط على مدرج التسويات في اليمن، وما يمكن أن يُستشف من مراجعات وتحولات صامتة وغير معلنة ميّزت السنوات الثلاث الأخيرة في تجربته في الحكم، توجت في السنة الأخيرة بإعلان بكين الثلاثي مع طهران، والانفتاح على دمشق، واستعادة العلاقة مع أنقرة، استكمالاً لمسار تنويع علاقات بلاده في الساحة الدولية، وملاقاة الأقطاب الدولية الصاعدة والاقتصادات العالمية الناشئة عند نقطة “المصالح المشتركة”.
داخلياً، سينجح الأمير الشاب في فرض “التغيير من فوق”، وبمنهجية “إحراق المراحل”، وسيقود “ثورة بيضاء” تقوّض دعائم المؤسسة الدينية الوهابية، وتعيد تشكيل التوازنات داخل العائلة ومجتمع الأعمال، وستنتقل المرأة السعودية إلى الفضاء وقيادة الطائرات العملاقة، بعدما كان محظوراً عليها قيادة السيارات والدراجات.
ستدخل المملكة عصر المشاريع الفلكية القريبة إلى أفلام الخيال العلمي، وستنفتح سريعاً على عصر السياحة والترفيه، وسينتقل مركز ثقلها من صحاري نجد وضفاف الخليج إلى شواطئ البحر الأحمر وجزره، وستتوالى التغيرات والتحولات في المجتمع السعودي المحافظ بصورة تصعب ملاحقتها وتتبع فصولها، وسيحظى الأمير بقاعدة تأييد في أوساط الشباب والنساء قلّ نظيرها تعوضه فقدان دعم الأجيال المحافظة وخصوم الداخل المتضررين من سياساته وطريقة إدارته للحكم وتدبير الشأن العام.
وإذا كان هناك ما يشبه الإقرار في أوساط المراقبين بأن ولي العهد اجتاز “امتحان الداخل” بقدر أقل من المقاومة والكُلف، إلا أن هؤلاء ما زالوا منقسمين على أنفسهم عند تقييم أدائه في “امتحان الخارج”، وثمة فيض من الأسئلة الحائرة التي ما زالت تبحث عن إجابات شافية تتدفق من بين ثنايا مقالات الصحف وأبحاث مراكز الدراسات ومجالس الساسة والمثقفين والإعلاميين:
هل نحن أمام استدارة وانعطافات استراتيجية في سياسات المملكة وتوجهاتها أم أنها لحظة تكتيكية هدفها “تقطيع الوقت” بانتظار عودة الجمهوريين إلى البيت الأبيض و”مناكفة” إدارة ديمقراطية لم تتورع عن تهديد الأمير وبلاده بالويل والثبور وعظائم الأمور؟ هل السعودية جادة في نظرتها إلى الصين وروسيا (بريكس وشنغهاي) أم أنها محاولة لتعزيز مواقعها التفاوضية مع واشنطن والغرب؟ هل هي مخلصة لسياسة “تصفير المشكلات” واليد الممدود لإيران وبعضٍ من حلفائها في الإقليم أم أننا أمام محاولة لتبريد الجبهات الساخنة من حولها، بانتظار ما ستؤول إليه سياسات واشنطن حيال إيران وبرنامجها النووي ودورها الإقليمي؟
أياً كانت إجابات الفرقاء على هذه الأسئلة المتناسلة، فإنَّ التحولات والمراجعات الأخيرة في السياسة الخارجية للسعودية تحظى بقدر متعاظم من الاهتمام الارتياح لدى قطاعات متزايدة من الرأي العام العربي والإقليمي، وتثير بالقدر ذاته حالة من القلق والترقب في أوساط قوى دولية، اعتادت أن ترى الاصطفاف التلقائي للمملكة خلف واشنطن وسياساتها في الإقليم والعالم.
وثمة ميل لدى أوساط من المراقبين يزداد اتساعاً بأن المملكة تتغير، وأنها ولجت عتبات مرحلة استراتيجية جديدة، وأن التحولات في سياساتها وتوجهاتها الإقليمية والدولية ليست ضرباً من “المناكفات” و”النكايات”، بقدر ما هي تعبير عن إدراك لقواعد اللعبة الدولية الجديدة في عالم متغير.
شروط القيادة واستحقاقاتها
ثمة ميل واضح في عواصم القرار العربي التقليدية إلى الإقرار بالدور القيادي للمملكة، مصدره الأساسي انعدام الانسجام بين رغبات هذه العواصم في استئناف أدوارها القيادية وقدراتها على فعل ذلك، وستظل الفجوة بين الرغبة والقدرة مصدراً لتوترات متلاحقة في علاقة هذه الحواضر العربية مع الرياض، لكنها، وحتى إشعار آخر، ستنتهي إلى التسليم بالدور القيادي للمملكة، حتى في الساحات التي لطالما كانت تاريخياً مجالاً حيوياً لهذه الحواضر (السودان لمصر، لبنان لسوريا على سبيل المثال لا الحصر)، لكن سعي المملكة لتسنم دور الزعامة في العالم العربي يصطدم بتحديَين، ولن يكتمل من دون توفر شرطين أساسيين.
التحدي الأول من داخل المنظومة الخليجية، إذ لم يعد خافياً عن أحد أن القاطرة الخليجية التي انطلقت قبل أكثر من 4 عقود، برأس واحد، واجهت خلال العشرية الفائتة تحدي القيادة برؤوس ثلاثة، وإذا كان الخلاف والتنافس بين الرياض وأبو ظبي قد بات سمة مميزة للعلاقة بين البلدين والقيادتين، تغذيها ربما نوازع شخصية إضافية، فإن قطر بلا شك ما زالت تحتفظ في ذاكرتها الحيّة بصور الحصار المحكم وسيناريو “حرب كانت على الأبواب”، وهي وإن كانت أكثر مرونة في التعامل مع السعودية الجديدة من “جارتها اللدودة”، إلا أنها تراقب بقدر من القلق هذه “الصحوة السعودية”.
والتحدي الآخر يتجلى في قدرة المملكة وقيادتها الشابة على التفريق بين “القيادة” و”الهيمنة”، فإذا كانت القاهرة، المعتادة على زعامة العربية في الأزمنة المعاصرة، قابلة بالدور القيادي للمملكة، على قاعدة: “مكرهٌ أخوك لا بطل”، إلا أن من المستبعد تماماً أن تقبل بالهيمنة والإملاءات.
وإذا كانت دمشق وبغداد في وضع لا يمكّنهما من المنافسة على الزعامة، فإن “تركيبتهما” الداخلية ونظامي الحكم فيهما وشبكة تحالفاتها الإقليمية الممتدة من قزوين إلى المتوسط، تجعل التفريق ضرورياً بين قيادة وهيمنة.
أما الشرطان اللذان يتوجب توفرها لتمكين المملكة من الاضطلاع بدور قيادي عربي، فهما:
أولاً، أن تتوفر المملكة على رؤية جديدة للعلاقات العربية البينية على قاعدة التكامل الاقتصادي العربي، وتوزيع ثمار التنمية ومنافعها، وبناء منظومات من المصالح المشتركة، فلا أحد في العالم العربي سيكون معنياً بدور سعودي، قيادي أو غير قيادي، إلا إذا كان شريكاً في الغنائم، ولا تستطيع المملكة قيادة العالم العربي بـ”رؤية 2030″، ولا بد من رؤية” موازية، ولكن للعالم العربي هذه المرة، ليس على قاعدة استمرار تدفق “المساعدات السهلة” و”العملات الصعبة”، بل وفقاً لقواعد التنمية والاستثمار والتكامل والنفع المتبادل والانتقال من الريع إلى الإنتاج.
ثانياً، موقف سعودي غير ملتبس وليس حمّال أوجه من المسألة الفلسطينية، التي، مهما قيل في تراجع مكانتها في العالم العربي، تثبت كل يوم أنها ما زالت قضية محورية حيّة ومتفاعلة في ضمير ووجدان معظم العرب، إن لم نقل كلهم؛ موقف سعودي يلتزم الدفاع عن الحق الفلسطيني ودعم الشعب الفلسطيني، ويضع “إسرائيل” في مكانها الطبيعي، بوصفها العدو والتهديد، لا للفلسطينيين وحدهم، بل وللعرب جميعاً… موقف يقطع مع التطبيع ومساراته الإبراهيمية وغير الإبراهيمية، ويعيد رص صفوف الأمة والانفتاح على الجوارين التركي والإيراني، في مواجهة خطر زاحف تفوح منه روائح استعمار إحلالي / عنصري / فاشي كريهة.
حتى الآن، لا يبدو أن المملكة امتلكت “رؤية” و”خريطة طرق” للتعامل مع أبرز تحديين يواجهان قيادتها للعالم العربي، ولتوفير أهم شرطين لممارسة هذا الدور. وإلى أن تتملَّك الرياض رؤية كهذه، ستظلّ الشكوك والتساؤلات تحيط بالتحولات والتغيرات التي تطرأ على مواقفها وسياساتها، حتى الإيجابية منها، فهي قد تكون كافية لإعادة المملكة لأداء دور فاعل في محيطها العربي. أما قيادة هذا المحيط، فلا تحتمل “دعسات ناقصة” أو “إعلانات نيات” فحسب، فهي من قبل ومن بعد رؤية واستراتيجية وعمل دؤوب واستثمار في الموارد، والأهم من كل هذا وذاك شراكة وتشاور لا هيمنة وتفرد.